الخميس, نوفمبر 13, 2025
Homeاراءحين كان الصليب يمثل شمسا : سفيان شيخ ميرزا

حين كان الصليب يمثل شمسا : سفيان شيخ ميرزا

خيط جديد من لالش إلى كنيسة القيامة
” في كل مرة نظن أننا وصلنا إلى آخر الخيط، يظهر لنا خيط جديد ….. خيط لا يجمع الرموز فقط ، بل يعيد ربط الأرواح بجذورها. هذه المرة ، الصليب يقودنا من لالش إلى القدس ، من الشمس إلى النور ، من الطاووس إلى القيامة .”
قبل أن يصبح الصليب رمزًا للمسيحية ، كان في حضارات وادي الرافدين رمزًا للشمس ، للجهات الأربع، للنور، وربما للإله نفسه.
في نقوش سومرية تعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد، نرى علامة الصليب داخل دائرة تمثل الإله “أوتو” (إله الشمس)، كما تظهر في أختام أسطوانية محفوظة في متحف اللوفر والمتحف البريطاني .
هذا الصليب البسيط، الذي يشبه علامة الزائد (+)، كان يعني في المعتقد السومري انتشار الضوء من المركز إلى الجهات الأربع، أي عين الإله التي تراقب العالم .
وفي النقوش الأكدية والآشورية اللاحقة ، ظهر الرمز ذاته داخل دائرة مجنّحة تمثل إله الشمس أو الإله آشور .
هذا الشكل – المعروف اليوم باسم ” الصليب المجنّح ” أو ” Winged Cross ” – كان رمزًا للقوة والنور، وانتشر في الأختام الملكية والمعابد الكبرى في نينوى وكالح (نمرود) وآشور.
ويقول الباحث البريطاني جيريمي بلاك في ” قاموس الرموز المسمارية ” ( Oxford , 1998 ) :
> “رمز الدائرة المتقاطعة في قلب الشمس هو أقدم تمثيل للسلطة الإلهية في بلاد الرافدين، وقد أصبح لاحقًا أصلًا لرموز الصليب في الثقافات اللاحقة.”
في بابل ، كان الرمز ذاته مرتبطًا بالإله ” شمش “، الذي يُصوَّر غالبًا داخل دائرة تتقاطع فيها أربعة أشعة.
وفي نقوش معبد إيساكيلا في بابل، نُحتت رموز متقاطعة صغيرة إلى جانب تماثيل الملوك كرمزٍ للبركة الإلهية .
هذه الرموز، كما يؤكد عالم الآثار صموئيل كرامر، كانت تمثل “نور العدالة الإلهية” الذي ينير الجهات الأربع من العالم.
هكذا، ولد الصليب أولًا في دائرة الشمس، لا في خشبة العذاب.
كان علامة كونية قبل أن يصبح شعارًا لاهوتيًا.
من هنا انتقل الرمز إلى الديانة المثرائية، حيث نجد في المعابد الرومانية المثرائية ( مثل كهف أوبس في إيطاليا ومعبد داسيا في البلقان ) أشكالًا تقاطعية منحوتة على الجدران فوق مشهد الإله ميثرا وهو يقتل الثور.
كانت تلك التقاطعات تمثل دورة الشمس في الأبراج السماوية الأربعة، أي رمز الحياة والموت والانبعاث.
إنها المرحلة الوسيطة التي حملت الصليب من الشرق إلى الغرب، من سومر إلى روما.
ثم جاءت المسيحية ، فتبنّت الصليب في القرن الرابع الميلادي مع الإمبراطور قسطنطين الكبير، الذي قال إنه رأى في السماء صليبًا من نور قبل معركة “جسر ميلفيو” عام 312م، ومعه العبارة الشهيرة: “بهذه العلامة ستنتصر.”
لكن ذلك الصليب الذي رآه، كان في حقيقته استمرارًا لرمز الشمس المنتصر ، لا اختراعًا دينيًا جديدًا.
ولهذا السبب رُسمت الصلبان الأولى داخل دوائر ذهبية تمثل هالة الشمس حول رأس المسيح في الفنون البيزنطية.
أما في الشرق الرافديني ، فقد بقي الرمز حيًا في الموروث الإيزيدي .
فالإيزيديون ما زالوا يرسمون علامة تقاطعية على جبين الأطفال بثمرة ” مازي ” لحمايتهم من الشر .
ويعلقون أقمشة مطرزة بعلامات متقاطعة على الجدران والمهد، إيمانًا بأنها رمز نور الشمس ، عين الله، وبركة البيت.
في القرى القديمة مثل بعشيقة وبحزاني وشيخان ولالش ، يمكن أن ترى على جدران المزارات رموزًا متقاطعة محفورة في الحجر، بعضها تعود إلى ما قبل الإسلام والمسيحية.
وفي معبد لالش نفسه، فوق بوابة “كلي كاوتي”، تظهر رسمة تقاطعية شمسية مشابهة لتلك التي نراها في نقوش بابل وآشور.
تلك ليست مصادفات، بل سلسلة حضارية متصلة تمتد من سومر إلى لالش.
حتى في اللغة الإيزيدية بقيت التسمية شاهدة على هذا الارتباط.
فالإيزيدي يسمي المسيحي “خاج پريس” أي عابد الصليب، من كلمة “خاج” التي تعني الصليب نفسه.
كما يطلق عليه “فله” أو “فلى”، وهو تعبير شعبي يُرجّح أنه مشتق من “فلسطين” – الأرض التي عُرفت بأنها مهد المسيحية، وأول مكان رُفع فيه الصليب علنًا.
إنها مفردات تنطق بالتاريخ دون أن تعرفه، وتربط بين الجغرافيا والعقيدة في ذاكرة الناس.
في كنيسة القيامة بالقدس، نرى على بعض بواباتها رموزًا مزدوجة : الصليب والطاووس.
الطاووس رمز الإله النوراني في الإيزيدية ( طاووس ملك )، والصليب رمز النور في المسيحية .
اجتماعهما على حجر واحد ليس مصادفة؛ إنه تذكير بأن الرمزين خرجا من تربة واحدة – من تربة النور الرافديني .
هكذا، يصبح الصليب الذي نعرفه اليوم استمرارًا لرمز الشمس ، لا نقيضًا له .
ويصبح ما يرفعه الإيزيدي على جدار بيته وما يعلقه المسيحي في صدره تعبيرًا عن إيمان واحد بنور واحد، مرّ عبر آلاف السنين ولبس أسماء مختلفة.
نحن إذن لا نعيد قراءة التاريخ فقط ، بل نعيد وصل خيوطه المنسية .
خيوطٌ تربط بين سومر ولالش، بين بابل والقدس، بين الشمس والصليب .
ارفعوا الصليب عاليًا …… فهو لنا جميعًا.
11.Okt.2025
” الرموز لا تموت، إنها تهاجر من معبد إلى معبد، ومن لغة إلى أخرى، لكنها تظل تتكلم عن الإنسان نفسه . “
— ميرسيا إلياد —
RELATED ARTICLES

1 COMMENT

  1. أحسنت التَعبير والأستدلال شيخ . وكان رمز الصَليب عند الأيزيدية يُرسم على أكوام الحنطة والشَعير والمحاصيل الأخرى بعد الحصاد وأثناء تركه في الحقل أو البَيدر للدلالةةعلى حفظِهِ من الآفات وأدخال البَركة في المحصول .كَما كانت ربات البيوت يَرسمن الصَليب على العَجين قبل أن يَختَمر وبعدها يخبزن الخبز الذي هو مُقَدَس أيضاً .تحياتنا…

    غازي نزام

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here

Most Popular