منذ سنوات برزت على سطح الأحداث في تركيا بدايات تشير إلى مجموعة من العوامل التي تسببت في بدء دخول تركيا في أزمة اقتصادية واجتماعية وسياسية جديدة بعد تلك التي عاشتها في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، واقترنت هذه المرة بممارسة رجب طيب أردوغان وحزبه السياسي، حزب العدالة والتنمية، نهجاً إيديولوجياً إسلامياً سلفياً وسياسات استبدادية أخذت تتسع بسرعة وتهدد بوقوع عواقب وخيمة على الاقتصاد ومستوى حياة ومعيشة شعوب الدولة التركية.
في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين حققت تركيا نجاحات ملموسة في حقول السياسة الداخلية والخارجية وفي الحياة الاقتصادية، مما أدى إلى انتعاش كبير في حجم التوظيفات الرأسمالية في القطاعات الإنتاجية والخدمية، وتقلص حجم البطالة، وارتفاع معدلات النمو الاقتصادي، إضافة إلى زيادة حجم الصادرات والاستيرادات، وتحسن في الميزان التجاري وميزان المدفوعات. لم تأت هذه النجاحات من فراغ، بل بسبب اتجاه اردوغان صوب تحسين علاقاته بالمجتمع والانفتاح على الأجواء الديمقراطية، والدعوة لحل المسألة الكردية بالطرق السلمية والمبادرة إلى إيقاف القتال مع مقاتلي حزب العمال الكردستاني، وبروز حزب الشعوب الديمقراطي الكردي بصورة علنية، الذي حقق نجاحات كبيرة في الانتخابات العامة لعام 2015، إذ دخل البرلمان بـ 80 نائباً من مجموع 550 نائب. كما إن العلاقات الدولية لتركيا قد تحسنت بفعل مواقف إيجابية مع الكثير من دول العالم، مما ساعد على زيادة الاستثمارات الأجنبية في الاقتصاد التركي، ولاسيما علاقات تركيا بالدول الأوروبية، ومنها ألمانيا، حيث يعيش ما يقرب من 3 ملايين تركي في المانيا.
ألا إن هذه النجاحات بدأت تنحسر مع بدء محاولات تركيا التحول صوب التخلص من المظاهر العلمانية في نهج الدولة التركية، والبدء بفرض قيود “إسلامية” سياسية على الحياة العامة وفي نهج الدولة. وبرز هذا بوضوح مع نهوض شعوب بعض الدول العربية ضد أنظمتها المستبدة ولاسيما في تونس ومصر وحراك قوي مدنية في العراق ضد النظام الطائفي المحاصصي وفساده والإرهاب الذي عمَّ البلاد، وقلق متزايد لدى الحكام العرب وحكام منطقة الشرق الأوسط، ومنها تركيا. فبدأ أردوغان، على الصعيد الدولي، يتدخل بشؤون الدول العربية ويحاول فرض نموذجه الإسلامي ويتفاعل مع القوى والأحزاب الإسلامية السياسية في الدول العربية، كما حصل مع حزب النهضة في تونس أو مع الإخوان المسلمين في مصر أو تدخله المباشر في أوضاع سورية وتحالفاته الرجعية الجديدة مع السعودية وقطر …الخ. ثم تحول من العملية السلمية مع الكرد إلى محاولة فرض الحل التركي العنصري على الكرد بقوة السلاح والحرب والمطاردة، واعتقال نواب من حزب الشعوب الديمقراطي الكردي، إضافة إلى دعمه اللامحدود لقوى القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وفتح الحدود أمامها للولوج إلى سوريا والعراق وتأمين ظهيراً لها في الأراضي التركية وتموينها بالسلع والخدمات وتوفير السلاح والعتاد ومعالجة المرضى. وقاد كل ذلك إلى اجتياح الموصل ونينوى في العام 2014. وكانت تركيا في القلب من كل ذلك، بأمل تدمير مقاتلي ومواقع حزب العمال الكردستاني والحصول على مواقع لها في العراق ولاسيما في إقليم كردستان العراق وخاصة كركوك.
لقد قاد كل ذلك إلى تحمل تركيا ثلاث عواقب وخيمة:
- خسائر مالية كبيرة بسبب الحروب والتدخل في شؤون الدول الأخرى ودعمها للإرهابيين وقوى المعارضة السورية الإسلامية، مما سبّب لها وهناً مالياً كبيراً، كما كان يحصل لتركيا في حربها ضد الكرد في الثمانيات من القرن الماضي.
- إن غياب الاستقرار السياسي وبروز عمليات عسكرية إرهابية ومعارضة في داخل تركيا قاد إلى ثلاث عواقب أثرت وتؤثر بشكل مباشر على الحياة الاقتصادية والمعيشية للسكان:
- تراجع شديد جداً في حجم السياحة السنوية وتراجع في حجم التشغيل وخسارة مورد مالي كبير من العملة الصعبة.
- تراجع الاستثمارات الأجنبية في الاقتصاد التركي والذي أثر ويؤثر بشكل واضح على التشغيل ويزيد من حجم البطالة.
- تراجع في معدلات النمو الاقتصادي وفي مشاركة القطاع الإنتاجي والخدمي في تكوين الدخل القومي، إضافة إلى تراجع ملموس في مستوى دخل وحياة ومعيشة المزيد من المشتغلين، ولاسيما العمال والكسبة والحرفيين والفلاحين أيضاً.
- تدهور العلاقات السياسية مع بلدان كثيرة في منطقة الشرق الأوسط والعالم، ولاسيما مع أوروبا لأسباب كثيرة بما فيها مصادرة حقوق الإنسان واعتقال بعض الألمان من الصحفيين من حاملي الجنسيتين بتهمة التعاون مع الإرهابيين، وكذلك اعتقال القس الأمريكي بذات التهمة، والمقصود هنا التعاون مع، أو تأييد، حزب العمال الكردستاني. كما تميزت سياسة أردوغان لا بالتدخل السياسي في شؤون دول الجوار فحسب، بل والتدخل العسكري المباشر، كما هو حاصل في سوريا والعراق، إضافة إلى أرسال قوات إلى قطر وبناء قاعدة عسكرية للقوات التركية فيها.
إن النجاحات السابقة التي تحققت في تركيا أصبحت عبئاً ثقيلاً على عاتق الحكام الترك، لأنها تحولت في الممارسة العملية إلى غرور لا حدود له وإلى شعور بالعظمة وإلى رغبة جارفة وصادمة في استعادة “مجد!” الدولة العثمانية والسلاطين والتوسع على حساب الجيران وباعتبارها دولة إقليمية عظمى تنافس إيران في هذا الصدد. وقد قاد هذا الغرور الأجوف رجب طيب أردوغان إلى خمسة إجراءات معقدة وخطيرة، بهدف تعزيز دوره ونهجه الإسلامي السلفي والاستبدادي في آن واحد، ولكنها تزيد من عزلته على الصعيد الدولي، ولاسيما بعد فشل محاولة الانقلاب العسكري ضده والذي اتهم فيه غريمه الإسلامي السلفي المماثل له فتح الله غولن الذي يعيش في الولايات المتحدة الأمريكية:
- فرض نظام الرئاسة على تركيا بدلاً من النظام البرلماني، وهو أقرب ما يكون إلى النظام العسكري، نظام الرجل القوي الواحد الذي يهيمن على السلطات الثلاث ويتحكم بها.
- تعديل الدستور التركي بما يمنحه كل الصلاحيات التي كانت لرئيس الوزراء ومجلس النواب، والكثير من صلاحيات تعيين القضاة.. إلخ.
- مصادرة الحياة الديمقراطية وحقوق الإنسان والتصرف الكيفي بأحوال البلاد ومن خلال أجهزة الأمن وأجهزة الحزب الحاكم والقوات الخاصة.
- تفاقم النهج العنصري والتمييز في نهج الدولة التركية من خلال سلطاتها الثلاث إزاء أتباع القوميات الأخرى وأتباع الديانات والمذاهب الأخرى وتعزيز سياسة الإخوان المسلمين التي يمثلها حزبه وشخص رجب طيب أردوغان في حياة البلاد.
- مطاردة المعارضين للنظام التركي لا في البلاد فحسب، بل وفي الخارج أيضاً وإصدار أوامر إلقاء القبض إلى المتروبول ضد شخصيات تركية أو كردية أو غيرهما سياسية وكتاب وصحفيين معارضين لإردوغان ونظامه السياسي. لقد اعتقل الحكم أكثر من 100000 إنسان في تركيا من عسكريين ومدنيين في اعاقب محاولة الانقلاب وطرد أكثر من هذا العدد من الوظائف العامة في الجيش والشرطة والقضاء والتعليم وبقية الوزارات.
إن العراك السياسي الشخصي الأخير بين أردوغان وترامب، الذي يحمل معه أسباب وصراعات عميقة أخرى، قد بدأ باعتقال القس الأمريكي وصدور عقوبات أمريكية ضد تركيا التي قادت كقشة، مع قشوش أخرى، لا إلى قصم ظهر البعير بتراجع الليرة التركية إلى ما يقرب من نصف سعر تصريفها الرسمي مقابل الدولار وكذلك مقابل بقية العملات كاليورو والفرنك السويسري فحسب، بل يمكن أن تكون البداية الفعلية لانفجار الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية في تركيا وما يمكن ان تنشأ عنها من عواقب وخيمة على الاقتصاد التركي وعلى اقتصادات أخرى ترتبط معها بعلاقات واسعة ومتشابكة، ولاسيما الاقتصاد الأوروبي، ولاسيما الألماني، حيث تأثرت حالياً أكثر من 6500 شركة المانية تعمل في السوق التركي.
غالباً ما يتحدث الخبراء والمختصون بالشأن التركي عن العوامل الاقتصادية التي تقود إلى هذه الأزمة القادمة بكل قواتها في الاقتصاد التركي، ومنها ضعف القوة الاستثمارية والتوظيفات الأجنبية والديون الكبيرة المتراكمة على الشركات التركية والتي تتجاوز الـ 200 مليار دولار أمريكي، وتوجه السياسة الاقتصادية التركية صوب صرف مبالغ طائلة على الجسور والطرق والسدود والتي رفعت من مصروفات الدولة دون أن يكون لذلك مردودات اقتصادية مباشرة على الأمد القصير، كما لم تول اهتماماً ضروريا بسعر الفائدة على القروض والادخار انطلاقا من الموقف من الربا، إضافة إلى السياسة التجارية لأروغان التي تشير إلى عجز كبير في الميزان التجاري التركي بسبب ارتفاع حجم الاستيرادات في مقابل الصادرات، وتأثير ذلك على ميزان المدفوعات التركي، إذ بلغ العجز لعام 2018 حوالي 17 مليار دولار أمريكي. (راجع،عجز ميزانية تركيا عام 2018 يتجاوز 17 مليار دولار، تاريخ النشر، 23/12/2018، قناة روسيا العربية RT).
ولا بد من الإشارة إلى حصول تراجع كبير جداً في السنوات الأخيرة للسياحة في تركيا والتي كانت تدر على تركيا مبالغ طائلة سنوياً وتغطي جزءاً من العجز في الميزان التجاري وميزان المدفوعات.
ولكن هؤلاء الخبراء والمختصين كانوا ولا زالوا في الغالب الأعم يتجنبون الحديث عن مسالتين مهمتين هما:
- عسكرة الاقتصاد التركي وتوجيه مبالغ طائلة صوب الإنتاج العسكري من جهة وصوب الاستيراد العسكري من جهة أخرى، إضافة إلى توسيع حجم القوات العسكرية التركية العاملة في داخل تركيا وتلك التي تعمل خارج حدود تركيا، كما في العراق وسوريا وقطر. فالصحيفة الألمانية في زوريخ (تسوريشة تسايتونغ) نشرت تقريراً جاء فيه بهذا الصدد ما يلي:
“منذ أن تولى حزب العدالة والتنمية الحكم لأول مرة في عام 2002، زادت نسبة إنتاج الأسلحة من 18 إلى 70 بالمئة. في الأثناء، توسعت قائمة المنتجات العسكرية التركية لتشمل المسدسات والمدرعات، علاوة على مدافع الهاون والصواريخ. وفي سنة 2030، ستحتفل تركيا بمئوية تأسيس الجمهورية. وبحلول ذلك الوقت، يُنتظر أن يكون الجيش التركي قادرا على تحقيق اكتفائه الذاتي من الأسلحة.” (راجع: صحيفة ألمانية: كيف تحولت تركيا إلى مركز لصناعة الأسلحة؟ نشر بتاريخ 21 مارس 2018، موقع ترك برس).
وتشير تقارير “سپري” إلى ارتفاع مستمر في ميزانية الدفاع التركية حيث جاء فيه ما يلي: قدرت ميزانية الدفاع التركية في عام 2016 بنحو 14.8 مليار دولار، وفقا لتقرير معهد ستوكهولم الدولي لبحوث السلام (SIPRI)“، كما إن عام 2018 يشهد ارتفاعاً كبيراً في ميزانية وزارة الدفاع والداخلية والدرك في آن واحد” (راجع: لماذا قررت تركيا زيادة ميزانيتها الدفاعية بنسبة 30% العام المقبل، نشر بتاريخ21 أكتوبر 2017، موقع ترك بريس).
- المشكلات السياسية التي تواجه تركيا ولاسيما الموقف من الكرد وحقوقهم المشروعة وما ينجم عن ذلك من قتال ودمار وخراب وموت وتعويق مستمر وخسائر مالية ضخمة وتعطيل عملية التنمية في عموم تركيا ولاسيما المنطقة الكردية.
إن السياسة التي يمارسها ترامپ باستخدام سلاح العقوبات الاقتصادية للأغراض السياسية، كما هو حاصل حتى الآن إزاء روسيا وإيران وتركيا أو الصين، ليست سياسة خاطئة فقط، بل وتلحق ضرراً كبيراً في العلاقات الدولية والاقتصاد الدولي، ولكنها لا تشكل بالنسبة إلى تركيا إلَّا جزءاً من المشكلات التي تواجه تركيا، بسبب مجمل سياساتها الداخلية والخارجية، وإن هذا النهج الذي يمارسه أروغان سيتسبب بعواقب وخيمة على تركيا وعلى جيرانها وعلى دول المنطقة عموماً، وربما يمتد الضرر إلى أوربا، هو ما يفترض النضال ضد هذه السياسة والتي يتحمل مسؤولية هذا النضال الشعب التركي والقوميات الأخرى فيه، وما على الشعوب الأخرى إلَّا التضامن مع القوميات العديدة في تركيا التي تناضل من أجل السلام وغدٍ أفضل لها وللشعوب التركية.
20/08/2018