لاشك أن إقدام رئيس الوزراء العراقي الأسبق أياد علاوي على كتابة مذكراته «بين النيران» خطوة جيدة في عالم عربي يمتاز باحتفاظ الحكام بأسرارهم لأنفسهم، لا يطلعون عليها حتى أقرب المقربين. ولكن هل عكست مذكرات علاوي حقيقة حصل؟ أما أنها محاولة لتبرير المواقف؟
ابتداء اشكر الدكتور علاوي على إهدائه الشخصي لكتابه الذي حملته إلي من بغداد الراحلة لمياء الكيلاني، ولولا هذا الإهداء فلربما لم أقرأ الكتاب الذي يطنب فيه علاوي في الحديث عن حياته السياسية منذ طفولته وانتمائه إلى حزب البعث مطلع الستينيات، منتقلا إلى فترة المعارضة منذ السبعينيات حتى الإطاحة بنظام صدام حسين عام 2003 تحت دبابات القوات الأميركية، وتوليه السلطة كأول رئيس وزراء بعد الاحتلال الأميركي للعراق.
قرأت الكتاب بجزأيه بصبر ومثابرة وأشّرت على الأحداث التي واكبتها، إذ اشتركت مع علاوي في المعارضة لنظام صدام حسين في الثمانينات والتسعينات وفي حكومة ما بعد الاحتلال الأميركي وكنت شاهد عيان على كثير منها. أما الأحداث الأولى عن حزب البعث في الحكم والمعارضة، فإنني لم أشهدها ولكن توصلت إلى استنتاجات حولها عبر التحليل خصوصا وأن معظمها ليس سرا.
يبرر علاوي انتماءه لحزب البعث بدوافع وطنية ودينية وأنه حصل نتيجة لنشأته العائلية (وتجذر المبادئ الدينية المتمثلة بأحاديث الرسول والأئمة الأطهار في نفسه) وأنه (وجد في البعث صدى لما تعلمه من الأهل) الذين قال إنهم ملتزمون دينيا ويأتون بمقرئي القرآن المعروفين من مصر كي يحيوا ليالي رمضان! ولكن هذا الادعاء يتحدى المنطق، فحزب البعث حزب علماني قومي أسسه شخص مسيحي هو ميشيل عفلق وليست لديه أي قيم دينية. ويضيف علاوي أن ما جعله يندفع أكثر نحو حزب البعث هو أن النظام الجمهوري (نفى أباه وعمه إلى السليمانية لا لشيء إلا لأنهما من أسرة كان لها شأن في النظام الملكي)! فتحمس لمحاربة الشيوعيين عبر إنتمائه (لجهة قومية مناقضة للشيوعية) لما أن البعث كان مشاركا في حكومة عبد الكريم قاسم. يعود علاوي ليدين حزب البعث (وسلوكياته السيئة خصوصا ما حصل في قصر النهاية من قتل وتعذيب واستباحة للشيوعيين)! ويعترف بأن البعث انتهى فعليا عام 1963، لكنه لم يبين سبب تمسكه بالحزب حتى منتصف السبعينيات، مع اعترافه بأنه لم يرَ (كقساوة صدام). دأب قادة حزب البعث صغارا وكبارا على استخدام القضايا العربية، خصوصا القضية الفلسطينية، كغطاء للسياسات التي تتجاهل مصالح العراق، وكل أحاديثهم الرسمية تتركز على قضايا خارج العراق، ويمكن ملاحظة هذا المنحى في خطاب علاوي الرسمي حتى مع الأمريكيين أثناء نشاطه المعارض إذ كان يأخذ بنظر الاعتبار مواقف الدول الأخرى وليس مصلحة العراق.
لم يفصح علاوي عن درجته الحزبية، فحزب البعث منظمة شبه عسكرية تعتمد التدرج التراتبي للقيادة، ربما لأنها متدنية، وقد أسرني مطلعون بأن علاوي كان بدرجة (عضو شعبة) وهي ليست قيادية، بينما كان رفيقه صلاح عمر العلي عضوا في القيادة القطرية ومجلس قيادة الثورة، وكذلك إسماعيل القادري، وهي أعلى درجة. لكن صدام كان يخشى علاوي فعلا، وقد أرسل فريقا لاغتياله في لندن عام 1978، لكنه نجا بشكل أسطوري حسب المذكرات. وخشية صدام من علاوي ليست لأنه منافس حقيقي له، بل لعلاقاته الدولية الواسعة، إذ كان يُستقبل على مستوى رؤساء أجهزة المخابرات في دول العالم المهمة، ولاحقا على مستوى رؤساء الدول. وهناك أيضا جانب شخصي في خصومة الرجلين، فعلاوي من عائلة بغدادية ارستقراطية ثرية، بينما ينتمي صدام إلى عائلة قروية في تكريت. والملاحظ في سيرة علاوي أنه طبقي في أعماقه وهذا واضح في (نيرانه)، إذ أولى اهتماما كبيرا للأسر (العريقة) وقسّم العراقيين إلى قسمين، أحدهما ينتمي إلى عائلات (كريمة) والثاني إلى عائلات (متواضعة)! كما كرر إنفاقه على النشاطات العامة من (ماله الخاص)! وليس صحيحا أن ينفق المسؤول على الدولة، خصوصا وأن فالعراق ليس فقيرا.
أصر علاوي على إسقاط النظام عسكريا بالتعاون مع بعثيين داخل النظام وتسبب هذا النهج في إعدام العشرات بسبب عدم قدرته على تنظيم عملية بهذا الحجم وعدم إخلاص الأشخاص الذين اعتمد عليهم. وعلى رغم الكوارث التي خلفتها محاولاته تلك، بقي يعتبر العمل العسكري الموجه من الخارج الوسيلة الوحيدة لإسقاط النظام، بينما ظل يعمل وحيدا ولم يتعاون حتى مع القريبين من خطه السياسي.
الكثير من الأحداث التي سردها علاوي غير دقيقة وكنت شاهدا على بعضها. أطنب في توضيح مواقفه “الودية” من مقتدى الصدر، قائلا أنه كان يسعى لحمايته والتعامل معه بما بمكانته الرفيعة. لكن الحقيقة مختلفة تماما فعلاوي وقف بقوة ضد الصدر وقرّب الفرع الآخر من العائلة محاولا إضعافه، لكن شعبية الصدر هي التي حمته وعززت مواقفه، وظل علاوي خصما لدودا للصدر حتى جرت المصالحة بينهما في دمشق بوساطة سورية عام 2010. ادعى علاوي بأنه منح نائبه، برهم صالح، صلاحيات واسعة، لكن الحقيقة أنه تعامل معه بفوقية وتدخل حتى في اختياره مستشاريه وألغى أمراً ديوانياً (ذ/2/63/4277) اتخذه صالح بترقية مدير عام إلى مستشار. ويعترف علاوي باعتراض صالح على محدودية صلاحياته ومغادرته بغداد احتجاجا، لكنه تباهى بأنه احتجاجه لم يجلب له صلاحيات جديدة. كما تعامل مع وزرائه بالطريقة نفسها، وكان عصبي المزاج، وقد ضرب الطاولة بيده في اجتماع مجلس الوزراء ما أدى إلى كسرها، وهناك أحداث كثيرة لا يتسع المجال لذكرها. يمتلئ كتاب علاوي بالمجاملات والتبريرات وتغيب عنه الحقائق، فلم يعترف بخطأ واحد ارتكبه خلال حياته، بينما كانت مسيرته السياسية سلسلة من الأخطاء التي جلبت الكوارث على العراق، سبب فرديته واعتماده على أتباع ذي قدرات متدنية لا يجرأون على مصارحته. يصر علاوي على أنه أسس حركته المعارضة (الوفاق) مطلع السبعينيات والحقيقة أن (الوفاق) تأسست عام 1990، وقد اختلف مع معظم رفاقه القدامى الذين غادروه تباعا مستائين من أخطائه وتجاهله آراءهم، واعتمد على أقاربه وعينهم في مناصب مهمة، فقد عين صهره نوري البدران وزيرا للداخلية، وابن عمه محمد علاوي وزيرا للاتصالات (مرتين)، وابن عمه الآخر علي علاوي وزيرا للدفاع، والآن يهيئ ابنته لتخلفه في الزعامة السياسية. معيار علاوي الأساس في العمل السياسي هو العلاقة الشخصية أو العائلية، لذلك ملأ المواقع المهمة في الدولة بأصدقائه وأصدقائهم، دون اعتبار للكفاءة. زعم بأنه أصر على إجراء الانتخابات في موعدها، والحقيقة أنه حاول جاهدا تأجيلها، والقوى السياسية العراقية تعرف ذلك جيدا وقد حضرتُ جلسات لمناقشة الموضوع. الأمريكيون هم من أصروا على إجراء الانتخابات في المواعيد المثبتة في قانون إدارة الدولة.
أشعل علاوي النيران في مساراته السياسية بنفسه وكرر الأخطاء نفسها بسبب انفراده في اتخاذ القرارات وعدم استشارته رفاقه، فلم يبقَ معه أحد يتمتع بقدرات سياسية. لا أعتقد بأن أحدا من الذين ذكرهم علاوي في (نيرانه) يتفق مع الأحداث التي سردها، رغم محاولته إرضاءهم بإسباغ الألقاب الفضفاضة عليهم مثل (وطني وشريف ونزيه وبطل وشهم)! لقد كانت (نيران) علاوي “نيرانا صديقة” وجهها ضد نفسه، فأضاع فرصا ثمينة وخيّب آمال التيار الوطني العلماني الذي لم يجد في الساحة غيره قائدا.