ليس هناك من يشك في ارتكاب قادة الدولة الفنزويلية منذ تولي هوغو تشافيز الحكم في العام 1999 أخطاءً فادحة في السياسة الاقتصادية والاجتماعية، خاصة وأن كان يتحدى بسياساته الولايات المتحدة الأمريكية وسياسات اللبرالية الجديدة. فبلد مثل فنزويلا كان يفترض أن يضع قادة الحزب الاشتراكي الموحد سياسة اقتصادية واجتماعية جديدة تأخذ بنظر الاعتبار أربع مسائل جوهرية:
أولاً: وضع خطة اقتصادية اجتماعية تأخذ بالاعتبار حلولاً بعيدة المدى وحلولاً أخرى آنية، تجد تعبيرها في توزيع وإعادة توزيع الدخل القومي بما يسهم في تخصيص نسبة مناسبة من الدخل القومي لصالح التثمير الإنتاجي في الاقتصاد الوطني وتغيير بنية الاقتصاد، ونسبة أخرى لصالح الاستجابة لحاجات الناس ولاسيما الفئات الكادحة والفقيرة.
ثانياً: يفترض أن تشتمل الخطة عملية تغيير واقع الاقتصاد الريعي المعتمد بنسبة عالية جداً على إيرادات النفط الخام المستخرج والمصدر سنوياً، بما تسهم في بناء وتطوير صناعة وطنية حديثة وزراعة حديثة وتنويع وزيادة معدلات نمو الاقتصاد الوطني والدخل القومي.
ثالثاً: معالجة مشكلات المجتمع الكبيرة والكثيرة ولاسيما البطالة والفقر والسكن والمستوى الواطئ للرواتب ومعدل حصة الفرد الواحد من الدخل القومي والاستجابة التدريجية لمطالبها الملحة والعادلة دون الإضرار بعملية التنمية المطلوبة ولا بمصالح الشعب اليومية.
رابعاً: العمل الجاد والمخطط لتقليص اعتماد البلاد على الاستيراد السلعي لإشباع حاجات السكان الأساسية للسلع والخدمات وتجنب السقوط في التبعية للخارج، وفي ذات الوقت تقليص الطابع الريعي والتبعية لاقتصاد النفط الخام.
وبدلاً من التفكير العقلاني بهذه المسائل وانتهاج سياسة تساهم في تعزيز الاقتصاد الوطني من خلال توجيه نسبة مهمة من أموال النفط صوب التنمية والتثمير الإنتاجي، صوب القطاعين الأساسيين الاقتصاد الصناعي والاقتصاد الزراعي لزيادة التشغيل وتوفير المزيد من فرص العمل وتنمية وتنويع مصادر الدخل القومي وتحسين مستوى المعيشة، وتأمين نسبة مهمة من الأمن الاقتصادي لفنزويلا والمجتمع، وبدلاً من انتهاج سياسة تشدد من الطابع الريعي للاقتصاد والدولة الفنزويلية من خلال الاعتماد على إيرادات النفط الخام، توجه هوغو تشافيز، ومن ثم نيكولاس مادورو وبقية قادة الحزب الاشتراكي الموحد، صوبالتحسين السريع لحياة ومعيشة الفقراء والمعوزين وعلى مدى قصير، بما في ذلك تأمين دور سكن وضمان صحي وتحسين رواتب وأجور الشغيلة.. الخ، وأهملت بشكل صارخ المهمات المركزية الأخرى التي كانت ولا تزال تواجه الاقتصاد والمجتمع. لقد أدت هذه السياسة التي تميزت بالعجز عن فهم واقع وحاجات البلاد الآنية والمستقبلية إلى زيادة الاختلالات في بنية الاقتصاد الفنزويلي وتفاقم الاعتماد على إيرادات صادرات النفط الخام، وكذلك الاعتماد على استيراد السلع لإشباع حاجات السكان، حتى وصل دور النفط يشكل في العام 2018 ما يقرب من 99% من صادرات فنزويلا، رغم تراجع كميات النفط المصدر، وهذا يعني عجز القطاعات الأخرى عن المشاركة في التصدير وتوجيه الموارد المالية صوب الاستيراد الاستهلاكي، وعجز متعاظم في الاستجابة لمطالب الناس الاستهلاكية والتشغيل. وقد اقترن ذلك بتفاقم الأعمال العدائية للولايات المتحدة وبعض دول أمريكا الجنوبية المجاورة لفنزويلا، ولاسيما كولومبيا والبرازيل أخيراً. ومما زاد في الطين بِلة الحصار الاقتصادي الذي فرضته الولايات المتحدة على فنزويلا والإجراءات القاسية والعدائية التي أصدرها ترامب بشكل خاص، ومن ثم تراجع أسعار النفط الخام وتذبذبها، الذي قلل من الإيرادات السنوية لفنزويلا، ودفع بها إلى نشوء أزمة اقتصادية بنيوية فعلية حادة ومتفاقمة، ازمة إنتاج واستيراد واستهلاك وتصدير، وارتفاع غير معهود لنسب التضخم وارتفاع أسعار السلع والخدمات الأساسية للسكان.
من المؤسف حقاً أن القوى اليسارية في فنزويلا لم تتعلم من دروس الدول الأخرى وما حصل لها بسبب سياساتها الاقتصادية الخاطئة والتعامل غير العقلاني مع حركة وفعل القوانين الاقتصادية الموضوعية وعدم الاستفادة الواعية والناضجة من الفكر اليساري عموماً والماركسي على وجه الخصوص، في مجال الاقتصادي السياسي والتنمية الاقتصادية في اقتصاديات الدول النامية، لاسيما الدول الريعية.
لا يمكن ولا يجوز الدفاع عن سياسات تشافيز ونيكولاس مادورو الخاطئة، إذ يفترض أن نتحدث عنها بصراحة ونتعلم منها ومن تجارب الآخرين، وأن نكون ناقدين لها من منطلق الاستفادة من التجربة وليس من منطلق التشفي بتلك الأخطاء. ولكن علينا تأكيد حقيقة أخرى، هي أن ما يعاني منه شعب فنزويلا اليومليس بسبب سياسات تشافيز ومادورو فحسب، بل وبالأساس وقبل كل شيء بسبب تلك السياسات العدوانية التي مارستها ولا تزال تمارسها بعنجهية الإدارة الأمريكية والكونغرس ووكالة المخابرات المركزية، منذ مجيء تشافيز ومن ثم مادورو إلى السلطة، ضد الدولة والحكومة الفنزويلية بسبب سياساتها الخارجية والداخلية اليسارية والتقدمية.
لقد بدأت الولايات المتحدة الأمريكية بمناهضة فنزويلا منذ سنوات كثيرة وبرزت في توقيع باراك أوباما على عقوبات ضد مسؤولين سياسيين فنزويليين من خلال تجميد اصول وعدم منح تأشيرات دخول إلى الولايات المتحدة في العام 2015. إلا إن أكثر العقوبات الاقتصادية التي ألحقت إضراراً فادحة بالاقتصاد الفنزويليوشعبها وذات الطابع العدواني جاءت مع مجيء دونالد ترامب إلى البيت الأبيض وبعد انتخاب مادورو مجدداً لرئاسة الجمهورية. فقد فرض قرار ترامب “حظرا على التعاملات في الديون الجديدة والأسهم التي تصدرها الحكومة الفنزويلية وشركة “بتروليوس دي فنزويلا PDVSA” النفطية الحكومية، بالإضافة إلى بعضالسندات الموجودة المملوكة للقطاع العام، كما تحظر أيضا دفع أرباح للحكومة الفنزويلية”. وأخيراً أصدر ترامب في العام 2019 إجراءات عقابية جديدة اشتملت على عقوبات مالية ضد 5 من كبار المسؤولين المقربين من نيوكلاس مادورو. كما حظر تجارة الذهب مع فنزويلا. (راجع: موقع اليوم السابع، أرتي روسيا، موقع بوابة العين الإخبارية…الخ). كما رفضت بريطانيا إعادة الذهب الموجود لديها لحساب فنزويلا والذي تقدر قيمته بـ 1,2 مليار دولار أمريكي. وبالتالي فأن هذه السياسات قد عمقت الأزمة الاقتصادية الداخلية ورفعت من ديونها حيث بلغت الآن ما يقرب من 120 مليار دولار أمريكي، وتراجع شديد في إجمالي حجم الإنتاج المحلي، كما تفاقمت نسب التضخم بارتفاعات جنونية بلغت بمئات الآلاف خلال فترة قصيرة جداً، وحولت نسبة غير قليلة من الشعب ضد سياسات مادورو، لاسيما وأن الأسواق قد شح ما فيها من السلع وتراجعت الخدمات، ومنها الصحية وتوفير الأدوية والحاجات الأساسية، كما تفاقمت البطالة وتنامى عدد الفقراء في البلاد. وقد استفادت واستخدمت المعارضة المحافظة واليمينية والمتطرفة برئاسة خوان غوايدو، وبالتنسيق التام واليومي مع الولايات المتحدة وكولومبيا وغيرها من دول أمريكا الجنوبية، نشاطاتها المعادية لحكومة مادورو، لتشن حملة شعواء ضده، تمثلت بالإضرابات والاحتجاجات والمظاهرات مما قسم الشعب الفنزويلي إلى جزئين ضد أو مع نيكولاس مادورو أو ضد أو مع خوان غوايدو.
إن سياسات التهديد والوعيد والعقوبات الاقتصادية كانت ولا زالت تشكل جزءاً عضوياً من سياسة قوى اللبرالية الجديدة المتحكمة بسياسات الولايات المتحدة الأمريكية، والتي تفاقمت في فترة ترامب، والتي تتعارض كلية مع لائحة الأمم المتحدة التي تنص على احترام استقلال وسيادة الدول الأعضاء في الأمم المتحدة وعدم التدخل في شؤونها الداخلية ورفض أي عمل يسعى للإطاحة بنظمها السياسية. إن سياسة الولايات المتحدة الخارجية إزاء الدول الأخرى، ولاسيما الدول النامية، والدول النفطية، تستهدف فرض أيديولوجيتها وفلسفتها الاقتصادية النيولبرالية عليها، وممارسة كل السبل المشروعة وغير المشروعة لتنفيذ مخططاتها بهذا الصدد، وفي سبيل الهيمنة على نفط هذه الدول.
إذا كانت سياسة باراك أوباما خاطئة ومضرة بالنسبة إلى فنزويلاً، إلا إنها لم تصل إلى حد التآمر اليومي وممارسة كل السبل المتوفرة لدى ترامب ولدى حلفائه في أمريكا الجنوبية لإسقاط حكومة مادورو. إلا إنها مهدت السبيل لممارسة سياسات أكثر قسوة وعدوانية. فالولايات الأمريكية وحلفاءها يرون في المعارض اليميني المتطرف، خوان غوايدو، وغريم نكولاس مادورو، الشخص المناسب الذي سيضع الاقتصاد الفنزويلي ونفط فنزويلا تحت امرة وإرادة ومصالح الولايات المتحدة الأمريكية من جهة، ويمارس نموذجا لسياسات تابعة للولايات المتحدة في أمريكا الجنوبية والبحر الكاريبي من جهة ثانية، ويضطهد الكادحين والفقراء من جهة ثالثة. إنها السياسة التي تتعارض وتتناقض بشدة مع إرادة ومصالح الشعب الفنزويلي.
واليوم تقف نسبة عالية من الشعب الفنزويلي والقوات المسلحة الفنزويلية إلى جانب مادورو لا لأنها تؤيد تلك السياسات الخاطئة التي مورست في المجالات الاقتصادية والاجتماعية، بل لأنها ترى وتدرك مخاطر التدخل الأجنبي الواسع النطاق بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والذي يتهدد الاستقلال والسيادة الوطنية الفنزويلية وكرامة وحرية وحقوق الشعب، ولأنها تجعل النفط الفنزويلي، ثروة البلاد الأساسية بعد شعبها، في خدمة ومصالح الولايات المتحدة وتبعية كاملة لها. وقد اصطفت أغلب دول الاتحاد الأوروبي، التي تصرخ دوماً بالدفاع عن حقوق الإنسان وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، إلى جانب سياسة الولايات المتحدة الأمريكية في فنزويلا وتؤيد نهج غوايدو المناهض للدستور، رغم إنها لا تزال ترفض التدخل العسكري في فنزويلا.
إن متظاهرين فنزويليين تسندهم قوات كولومبية وقوى محافظة ورجعية تقف على حدود فنزويلا وقد كدست مساعدات “إنسانية!” تريد العبور بها إلى الجانب الفنزويلي، في حين إنها معبأة بأعداء فنزويلا وبالأسلحة والعتاد لتفرض حرباً ضد القوات المسلحة الفنزويلية التي تقف في الجانب الفنزويلي رافضة دخول تلك القوى ومساعداتها الكاذبة. إذ لو كانت مساعدات فعلية، لكان عليها تسليمها إلى الصليب الأحمر الفنزويلي ليقوم بتوزيعها على المحتاجين من الناس، وليس أن تدخل القوى الأجنبية المعادية مع تلك “المساعدات!” إلى فنزويلا. إنهم يستثمرون حاجة الشعب الفنزويلي للغذاء والدواء ليؤججوه ضد حكومة الحزب الاشتراكي الموحد وضد نيوكولاس مادورو، فهل سينجحون؟ لقد نجحت الإمبريالية الأمريكية في إسقاط نظام حكومة مصدق في إيران في العام 1953، وحكومة عبد الكريم قاسم في بغداد في التحالف مع البعث وقوى رجعية كثيرة في العام 1963، وفي إسقاط حكومة سلفادور أليندي في شيلي عام 1974، وهي لا تزال تتآمر ضد كوبا، لاسيما بعد مجيء ترامب، وهي التي تساعد السعودية والإمارات العربية في حربهم ضد شعب اليمن وفي مواجهة إيران، وهي التي تهدد جميع الدول بالعقوبات الاقتصادية ما لم تستجيب لإرادة ومصالح الإدارة الأمريكية.
إن من واجب كل العقلاء في فنزويلا العودة إلى طاولة المفاوضات لحل المشكلات العالقة وتفويت الفرصة على أعداء فنزويلا الداخليين والخارجيين لتفجير حرب داخلية في صفوف الشعب الفنزويلي، وهي الغاية الراهنة للإدارة الأمريكية لفرض التدخل العسكري فيها. إن من واجب الرأي العام العالمي والمجتمع الدولي رفض السياسات التي تمارسها الولايات المتحدة ضد الشعب الفنزويلي ودعمها الكبير لقوى المعارضة اليمينية وتشجيعها التآمر على الحكومة الفنزويلية. ويبدو إن شعار “ارفعوا أيديكم عن فنزويلا” هو الشعب الواقعي المناسب لقوى حركة التحرر الوطني والقوى الديمقراطية في سائر ارجاء العالم لدعم الشرعية في فنزويلا.