.
لم تعد عبارة “صنع في العراق” متداولة في الأسواق العراقية هذه الأيام، إذ إنه بعد مرور 16 عامًا على الغزو الأمريكي للبلاد عام 2003، تراجعت الصناعة العراقية وباتت من الماضي في غالبية القطاعات.
تحقيق لوكالة “يقين” يكشف ما خفي على العراقيين من مكائد وأسباب كانت الأحزاب الحاكمة وأذرعها العسكرية السبب الرئيس في تداعي الصناعة العراقية.
الصناعة العراقية تحتضر
كشف وكيل وزارة الصناعة في الحكومة العراقية التي سبقت الاحتلال الأمريكي “مثنى عبد الحميد” عن أن عدد المصانع الحكومية والخاصة في عموم محافظات العراق كان يناهز قرابة 179 ألف مصنع قبل الغزو.
وأكد في حديثه لوكالة “يقين” على أن الصناعة العراقية كانت تساهم بما يقرب من 15.2% من واردات الدولة العراقية قبل الغزو، إضافة إلى أن البلاد اعتمدت على الصناعة المحلية بنسبة كبيرة جدًا إبان الحصار الأممي الذي كان مفروضًا على العراق طيلة 12 عامًا.
وعلى الرغم من أن كثيرًا من المصانع الحكومية تعرضت لتدمير كلي وجزئي نتيجة حرب الخليج الثانية عام 1991، إلا أن عبد الحميد أكد على أن التوجيهات الرئاسية آنذاك أمهلت وزارة الصناعة مدة عام واحد لإعادة تأهيل جميع المصانع المتضررة، مشيرًا إلى أن الوزارة نجحت في ذلك في مدة أقل من عشرة شهور.
“المصانع الحكومية والخاصة في عموم محافظات العراق كان يناهز قرابة 179 ألف مصنع قبل الغزو”
عضو اتحاد الصناعات العراقية “محسن الليثي” كشف عن أن العراق خسر خلال الـ16 عامًا الماضية قرابة 90 ألف مصنع ومعمل، أغلقت جميعها أبوابها نتيجة عدم حماية المنتج المحلي، وارتفاع ثمنه مقارنة بالبضائع المستوردة، بعد أن أغرقت الأسواق العراقية بالمنتجات الأجنبية.
وما تبقى من هذه المصانع يعاني من صعوبات مالية كبيرة وتكدس للإنتاج، مع توقع أن يغلق أكثر من 30 ألف مصنع أبوابه خلال العامين القادمين، بحسب إفادة الليثي لوكالة “يقين”.
أما المستشار في وزارة الصناعة “عبد الستار البيرقدار” أوضح أن عدد الشركات الصناعية التابعة للوزارة يبلغ عددها 76 شركة، وتضم مئات المصانع، إلا أن 54 شركة منها تعد خاسرة في الميزان التجاري للوزارة، إذ إن نفقاتها تفوق أرباحها، وأنها مثقلة بالديون والقروض من مصرفي الرافدين والرشيد.
وأضاف في حديثه لوكالة “يقين” أن أسباب خسائر الشركات الحكومية الصناعية تتمحور في نقطتين اثنتين، أولاهما أن الحكومات العراقية المتعاقبة لم تكن تولي أي اهتمام في تطوير هذه الشركات ودعمها بالمعدات الحديثة، بعد أن تسببت سنوات عمل تلك الشركات في اندثار كثير من آلياتها.
أما السبب الآخر الذي كان من أهم ما تسبب بتراجع الصناعة العراقية، هو البرامج الحكومية التي أطلقت يد الوزارات والمؤسسات الحكومية في استيراد منتجات أجنبية لوزاراتها، متوفرة في الصناعة العراقية ومنتجة من وزارة الصناعة على وجه الدقة.
إلا أن المستشار في وزارة الصناعة أشار إلى بارقة أمل تبدو ملامحها في مشروع موازنة العام الحالي 2019 الذي اشترط بندًا على الوزارات مفاده عدم استيراد أي منتج أو أدوات أو أجهزة سلعية وكهربائية أجنبية تنتجها وزارة الصناعة، الأمر الذي قد يساهم في الحفاظ على بقية الشركات الصناعية التابعة للوزارة.
وعن إستثمار تلك الشركات الخاسرة وإحالتها إلى التقاعد، أوضح البيرقدار أن الوزارة شرعت بفتح باب الإستثمار الصناعي للشركات العالمية للدخول في شراكات مع وزارة الصناعة وفق مبدأ الإستثمار لإعادة تأهيل تلك الشركات الخاسرة.
الأحزاب والمليشيات وتخريب الصناعة
“العراق خسر خلال الـ16 عامًا الماضية قرابة 90 ألف مصنع ومعمل”
ليست السياسيات الحكومية الرسمية وحدها من تسببت في تراجع الصناعة العراقية، بحسب أحد مسؤولي مصنع أبو غريب لإنتاج الألبان في العاصمة بغداد.
إذ كشف المصدر الذي فضل عدم الكشف عن هويته لأسباب أمنية في حديثه لوكالة “يقين” عن أن مصنع أبو غريب، وعلى الرغم من أنه لم يتعرض لنكسة صناعية ولا يعد من ضمن شركات وزارة الصناعة الخاسرة، إلا أن أحزابًا متنفذة في الدولة، نجحت مؤخرًا في إحالته إلى الاستثمار.
وكشف المصدر أن المجلس الأعلى الإسلامي وضع يده على المصنع من خلال إتفاقية بين وزارة الصناعة وإحدى شركات القطاع الخاص للإستحواذ على المصنع وتشغيله وفق شروط الوزارة التي إشترطت تزويده بماكينات حديثة.
ولفت المصدر إلى أن ذلك الإجراء سيسبب تسريح عشرات العاملين في المصنع وفق الاتفاقية التي من المفترض أن توقع في غضون الأشهر الثلاثة القادمة، والتي من خلالها سينقل بعض العاملين الى مصانع أخرى أو يشترط عليهم البقاء مع عدم صرف المخصصات، إضافة إلى أن مدة تأهيل المصنع وفق ما تسرب من بنود الاتفاقية سيكون طويلًا، وبذلك سيتوقف الصنع عن الإنتاج.
ومن بغداد إلى الموصل، إذ يقول أحد مسؤولي الإنتاج في مصنع الموصل لإنتاج الألبان “ازهر راشد”، أن المصنع تضرر جزئيًا نتيجة الحرب الأخيرة بين القوات الأمنية ومقاتلي تنظيم الدولة (داعش)، إلا أن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP ساهم في إعادة تأهيل المصنع.
وأشار راشد في حديثه لوكالة “يقين” إلى أن خطة إدارة المصنع كانت تروم البدء في الإنتاج خلال الأشهر الثلاثة القادمة، إلا أنه وقع ما لم يكن بالحسبان.
“أهم ما تسبب بتراجع الصناعة العراقية، هو البرامج الحكومية التي أطلقت يد الوزارات والمؤسسات الحكومية في استيراد منتجات أجنبية”
وكشف عن أن ممثلة عن حزب الدعوة تدعى “هيفاء الحسيني” قدمت إلى المصنع رفقة وفد لم تعرف ماهيته، وأبلغت إدارة المصنع أن وزارة الصناعة ستحيل المصنع للإستثمار، وأنه لا مجال لإستئناف الإنتاج وفق الإدارة الحالية، وأن على المصنع أن ينتظر تعليمات وزارة الصناعة.
وأكد مسؤول الإنتاج على أنه في عام 2014 كانت وزارة الصناعة قد اتفقت مع مستثمر أردني على إحالة المصنع للاستثمار، إلا أنه بعد استعادة القوات الأمنية الموصل من مقاتلي تنظيم الدولة (داعش) ألغيت الاتفاقية مع المستثمر الأردني، ويبدو أن المصنع سيذهب لحزب الدعوة.
ومن الموصل إلى البصرة، قال مدير إنتاج حديد التسليح في مصنع البصرة للحديد والصلب “عبد الأمير الحسن”، إن وزارة الصناعة متعمدة في عدم إعادة إنتاج حديد التسليح محليًا.
وكشف الحسن عن أنه رغم المحاولات المتكررة من لدن إدارة المصنع لافتتاح خط الإنتاج، إلا أن جميع المحاولات باءت بالفشل، في ظل استيراد مفرط لحديد التسليح الإيراني سيئ الإنتاج.
كان لا بد من التوجه إلى وزارة الصناعة للتحقق من مدى صحة ما قاله مدير إنتاج حديد التسليح في مصنع البصرة للحديد والصلب، إلا أن إجابة الوزارة كانت صادمة!
كيف ردت الصناعة؟
من جانبه يقول مسؤول مراقبة المصانع التابعة لوزارة الصناعة “مخلف ستار” في حديثه لوكالة “يقين” إن أحد أهم أسباب عدم افتتاح خط إنتاج حديد التسليح في مصنع البصرة للحديد والصلب هو عدم توفر الكهرباء للمصنع، إضافة إلى أن المولدات الخاصة بالمصنع تستهلك كميات وقود كبيرة.
وبالحديث عن أنه في حالة افتتاح المصنع، فإن مردوده الربحي سيكون عاليًا وسيغطي النفقات، كشف ستار عن أن افتتاح المصنع من جديد لا يتعلق بوزارة الصناعة فقط، وأن الوزارة تواجه ضغوطًا كبيرة.
وبالعودة إلى المحافظات المنكوبة، يكشف مصدر مطلع في ديوان محافظة نينوى عن إجراءات تتخذها بعض الجهات المتنفذة في المحافظة من محاولة إغلاق بعض مقرات المصانع وإلغائها من قبل الوزارة، ثم الاستحواذ على أرضها.
“أهم أسباب عدم افتتاح خط إنتاج حديد التسليح في مصنع البصرة للحديد والصلب هو عدم توفر الكهرباء للمصنع”
ويضيف المصدر الذي اشترط عدم الكشف عن هويته في حديثه لوكالة “يقين” عن توجه جهات ميليشياوية للسيطرة والاستحواذ على أرض مصنع الموصل لصناعة الأخشاب في الموصل، كاشفًا عن أن موقع المصنع يقع في حي الملايين، وأن ثمن الأرض المقام عليها تبلغ عشرات ملايين الدولارات.
فساد وإجراءات معرقلة للصناعة
تسيطر الأحزاب الدينية في العراق على مجمل مفاصل الدولة الاقتصادية، بحسب المحلل الاقتصادي “محمد عبد الوهاب” الذي كشف عن أن البيروقراطية الإدارية المتعمدة في المؤسسات العراقية تزيح أي أمل في عودة الصناعة الوطنية.
وأكد في حديثه لوكالة “يقين” على أن تعدد قوانين الاستثمار في العراق تعيق أي استثمار صناعي في البلاد، إذ إن العراق يضم قانون الاستثمار رقم (13) لسنة 2006 المعدل الذي ينص على إلغاء جميع المواد القانونية التي تخالفه، وأن تكون له الأولوية وفق مشرعيه، إلا أن لكل وزارة إنتاجية قانون استثمار خاص بها، وتختلف إجراءات الاستثمار من وزارة إلى أخرى، وغالبيتها لا تعطي للمستثمر أي حوافز ربحية يمكن أن تحقق ما يربو إليه المستثمر، بحسب عبد الوهاب.
وأوضح أن ذلك أدى إلى بقاء المصانع الحكومية على حالها، على الرغم من التوصيات الكثيرة التي رفعها اتحاد الصناعات في العراق لتوحيد قوانين الاستثمار وتوفير بيئة جاذبة للمستثمر الأجنبي.
ويقول المهندس “أحمد شيت” الذي يتولى إدارة قسم الكهرباء في معمل “حمام العليل الجديد” لإنتاج الإسمنت، إن المعمل تعرض لضرر كبير في بنيته التحتية بسبب الحرب الأخيرة في الموصل، إلا أن كوادر المعمل استطاعت تأهيل الدوائر الكهربائية في المصنع في غضون 6 شهور.
“إجمالي الاستيرادات السلعية غير النفطية لعام 2016 بلغ ما يقارب 50 مليار دولار”
وعلى الرغم من أن وزارة الصناعة منحت قرضًا للمعمل بقيمة 8 مليارات دينار، لإعادة تأهيله، إلا أن القائمين على الشركة الشمالية لصناعة الإسمنت، صرفوا تلك المبالغ في تأهيل الأبنية وصبغها ونصب بعض وحدات الإطفاء والإنذار وكاميرات المراقبة، على الرغم من مطالبة إدارة المصنع بضرورة استيراد فرن جديد للمصنع لرفع كمية إنتاج مادة “الكلينكر” التي تعد أساس صناعة الإسمنت.
وفي ختام حديثه لوكالتنا، أكد شيت على أن جميع ما صرف من مبالغ على المصنع لم يرقَ إلى زيادة الإنتاج فيه أو استمراريته، إذ إن الانهيارات المتكررة في الفرن تؤدي إلى توقفات مستمرة في الإنتاج.
أسباب خفية وراء عدم التأهيل الصحيح لمصنع “حمام العليل الجديد” لصناعة الإسمنت، يكشفها لوكالة “يقين” أحد موظفي التسويق في الشركة العراقية لصناعة الإسمنت في العراق.
إذ يقول المصدر الذي اشترط عدم الإفصاح عن هويته إلى أن “مصنع كار” لإنتاج الإسمنت كان سببًا في عدم التأهيل الصحيح للمصنع.
وكشف عن أن مصنع كار لإنتاج الإسمنت في إقليم كردستان الذي تعود ملكيته لأحد الأحزاب الكردية كان له دور كبير في ذلك، من خلال تقديم رشوة كبيرة لأحد مسؤولي وزارة الصناعة لأجل عدم الموافقة على شراء فرن حديث للمصنع من أجل استمرارية المشاكل فيه الذي سيؤدي لإحالته إلى الاستثمار، والذي تأمل شركة كار بالاستحواذ عليه لأجل عدم منافسة مصنع حمام العليل للإسمنت الذي تنتجه شركة كار، بحسب المصدر.
الاستيراد المفرط تسبب في تدهور الصناعة
بحسب ما نشره الموقع الرسمي للجهاز المركزي للإحصاء في العراق عام 2016، فإن إجمالي الاستيرادات السلعية غير النفطية لعام 2016 بلغ ما يقارب 50 مليار دولار.
إذ يؤكد المحلل الاقتصادي “باسم جميل أنطوان” على أن قرار الحاكم المدني للعراق “بول بريمر” الذي خفض الرسوم الجمركية على جميع السلع المستوردة إلى 5% فقط، ساهم بشكل رئيس في تدهور الصناعة العراقية على مختلف الأصعدة.
وكشف أنطوان في حديثه لوكالة “يقين” عن أن غالبية من تبوؤوا السلطة في العراق من شخصيات حزبية ومسؤولي الفصائل المسلحة يعملون في التجارة والاستيراد، ومن مصلحتهم عدم نمو القطاع الصناعي الإنتاجي في البلاد.
“العراق يفتقر إلى صناعة التسويق والتعليب لمنتجاته الزراعية”
وعن القوانين العراقية النافذة التي تنص على حماية المنتح المحلي، أشار إلى أنه على الرغم من أن العراق عام 2010 شرع قوانين التعرفة الجمركية وحماية المستهلك والتنافسية ومنع الإغراق السلعي، إلا أنها ظلت غير مفعلة وما زالت حبيسة الأوراق التي كتبت عليها تلك القوانين، مشيرًا إلى أن العراق يفتقد إلى منهجية استيراد مدروسة ومخطط لها وأن جميع البضائع المستوردة لا تخضع للسيطرة النوعية.
من جانبه عضو اتحاد رجال الأعمال في العراق “سيف محرف” يؤكد لوكالة “يقين” على أن الفساد المالي والإداري في مؤسسات الدولة العراقية، أسهم في شل الصناعة العراقية، وأن الحكومة العراقية عاجزة عن دعم المنتج المحلي، في ظل تواطؤ كبير من الأحزاب لأجل عدم استئناف الصناعة الوطنية، إذ إن من مصلحة جميع دول جوار العراق أن تظل أوضاع البلاد على ما هي عليه، في ظل انفتاح العراق على الاستيراد المفرط على اعتباره سوقًا استهلاكية كبيرة ونهمة.
الزراعة: هذا حجم الاستيراد الزراعي
ليست المنتجات الصناعية وحدها من تراجعت، إذ باتت الزراعة ومنتجاتها تعاني هي الأخرى، بحسب الناطق باسم وزارة الزراعة “حميد النايف”، الذي يؤكد على أن جميع الدول المجاورة للعراق، تدعم فلاحيها المصدرين والمنتجين.
“الأعوام الماضية شهدت استيراد محاصيل ومنتجات زراعية لا تقل قيمتها عن 12 مليار دولار كل عام”
وكشف النايف في حديثه لوكالة “يقين” عن أن العراق يفتقر إلى صناعة التسويق والتعليب لمنتجاته الزراعية، والذي يؤدي في كثير من الأحيان إلى تصدير محاصيل زراعية خام، يعود العراق إلى استيرادها بأضعاف سعرها بعد دخولها في الصناعات التحويلية في الدول المجاورة.
وعلى الرغم من أن وزارة الزراعة كانت قد خاطبت المنافذ الحدودية بمنع إدخال 12 مفردة زراعية لحماية الزراعة المحلية وتصنيع محاصيلها -ومن ضمنها التمور والطماطم- إلا أن النايف كشف عن أن تلك المفردات ما زالت تدخل البلاد بطرق غير قانونية من قبل مافيات وشبكات شبيهة بمافيات تجارة المخدرات، وأنه لا سلطة لوزارة الزراعة على منعها.
وفي ختام حديثه لوكالة “يقين”، كشف النايف عن حجم الاستيراد الزراعي من الدول المجاورة، مؤكدًا على أن الأعوام الماضية شهدت استيراد محاصيل ومنتجات زراعية لا تقل قيمتها عن 12 مليار دولار كل عام.