لا شك أن مجموعات من الكرد وبشكل فردي اشتركوا في عمليات القتل، وجلهم كانوا من الفارين من مجازر الأرمن والجيش الروسي التي تمت في الولايات الشمالية، والبعض من أبناء العشائر المتآذية، وتذكيرها بقدر ما تعكس أسفا على جهالة الأطراف المتأكلة بين بعضها من الكرد والأرمن والسريان، لتحقيق مأرب الدولة العثمانية-التركية حكومة الاتحاد والترقي والروسية، كما وتعكس مدى خباثة العدو بجر هذه الشعوب المتعايشة على مدى آلاف السنوات، إلى حلقة المؤامرة المخططة لإضعافهم وبالتالي القضاء على حركاتهم القومية اللاحقة.
وتأكيداً على ما نحن بصدده فإن العشائر الكردية في المناطق الوسطى والجنوبية والشرقية الجنوبية من كردستان عملت الكثير بقدر المستطاع لإنقاذ المسيحيين الفارين من المجازر، بدون تمييز بين الأرمن والسريان والآثوريين بل وقد كان بينهم العديد من الكرد المسيحيين، والشواهد العينية من الذين عاصروا الفترة عديدة وتحدثوا فيها، كما وأن الوثائق موجودة، إلى جانب الحقائق البارزة حتى الآن على أرض الواقع، وخير مثال وجود العديد من القرى المبنية أثناء وبعد سنوات الفرمان بين قرى الكرد، إلى جانب وجود الآلاف من العائلات المسيحية الذين تم إخفاؤهم بين سكان القرى الكردية ومدنهم.
لاستغلال مآسي الماضي كمادة لتحريض هذه الشعوب على الكرد، تقوم بإثارة التاريخ الموبوء ونبشه وقلب صفحاته، مع الحاقات من الحاضر بحنكة وخباثة، والعمليات الجارية على قدم وساق في معظم المواقع العربية والفارسية والتركية، خير مثال، وكذلك في العديد من المواقع الأجنبية، كما لا يشذ عنها، أحيانا، نشرهم لنعرات في بعض المواقع الكردية، ويتجلى ذلك بكل علاتها وبوضوح، بما ينسخونه من تعليقات تحريضية سفيهة، أمليت عليهم مسبقا. وكثيرا ما نلاحظ أنه يتم التعليق على معظم مقالات الكتاب الكرد في المواقع المذكورة، بلغة تحريضية وصياغة فكرية لا تمت إلى مضمون الموضوع بشيء، وغالبا ما تَرِد فيها عبارات أمثال: قيام الكرد بالمجازر…، واحتلال أراضي الغير، والقيام بعمليات التهجير لقاطني كردستان من غير الكرد، واعتبار الكرد دخلاء على كردستان… ويلقى مثل تلك المزاعم ترحيبا لدى إخواننا في كردستان من الأرمن والسريان والآثوريين، مرحبين بها كنتيجة لمآسي الماضي التي حدثت لكلينا، ومرد ذلك إذكاء تلك المترمدة لتثير حافظة إخواننا كي ينحازوا إلى مستأصلينا.
فاستنادا على دراسة التاريخ بموضوعية، وخارج التحريف والتشويه، يتبين أن الشعب الكردي وقادة العشائر كانوا ضد ما كان يجري، والتاريخ يؤكد وبوثائق أن الكرد أنقذوا الآلاف من المسحيين حتى ضمن المدن الكبرى كمدن وان وبدليس ونصيبين وديار بكر، وفي مناطق طور عابدين، وغيرها، ومن يقول عكس هذا في هذه المرحلة الزمنية يسعى إلى الصدع بين الكرد والمسيحيين. لقد بدأ الكرد يقتربون من الحصول على بعض المكتسبات القومية. ويكون هذا الصدع الغرض منه تذكير إخوتنا بالدماء التي سالت بيننا عندما ضربت تلك الحكومات الإجرامية بعضنا ببعض آنذاك لتنفيذ مآربها، مستغلة جهل كيلنا.
والقصد من ورائها خلق شرخ من نوع جديد بين الكرد والأرمن والسريان والأثوريين، ومدعومة بدعاية خبيثة مغرضة تبثها السلطات المعادية والمقسمة لكردستان، عاكسة نفس المفاهيم السياسة والإثنية والدينية الشريرة، التي تؤدي إلى تحريض شعوبنا على بعضها، مجندة لها مؤسسات خاصة وكتاب ومرتزقة، علاوة على الحاقدين، لا علاقة لمجتمعاتنا بهم، ولا بمعظم ما ينشرونه، ولا بما يكتبون في هذا المنحى. وتعتني مؤسساتها ومراكزها بنشر كتب ودراسات مشوهة عن تاريخ الكرد والمنطقة، خصيصا للطعن في منهجية التوجه الكردي الوطني، والتعتيم على مفاهيم التآخي بينهم وبين الشعوب الأخرى، بعدما فشلت تلك الحكومات المتتالية، بأساليبهم القديمة تحقيقها.
خلق الصراع على الجغرافية بين الكرد والشعوب الأخرى، والتركيز على أن القوميات المقتسمة لكردستان هي صاحبة الحق والملكية للأرض، مرفوض تاريخيا، فتواجد الكرد في هذه الجغرافية تعود إلى عشرات القرون قبل غزوهم لها، نظرا للمقتسمين كيانات معترفة بها دوليا تهمش ملكية الكرد وشرعيته في جغرافيته لمصالح استراتيجية واقتصادية على مستوى المحافل الدولية. وفي الآونة الأخيرة حقق الكرد بعض المكتسبات، فبدأت موجات التحريض ضدهم في التصاعد، وتوسعت مجالات بحثهم في التلفيق والتزوير، وكثرت طلبهم على الأقلام المأجورة والمرتزقة من بين المستعربين أو العروبيين والتكفيريين، للنخر في العلاقات الإنسانية التي يتعامل بها الكرد مع الآخرين، وما يشد انتباه المتتبع أن تعمية البصيرة ممنهجة تشمل شريحة واسعة من الأخوة المسيحيين والمستعربين منهم؛ حيث تعمل هذه التعمية على ترسيخ مشاعر الكراهية تجاه الكرد مستندة إلى الماضي الدامي بيننا، فتغيب عنهم استغلال الفرصة القائمة في الوقت الحالي للظفر بإنشاء كيان لكيلنا نكون مصانين فيه من الاضمحلال والاندثار. والحالة هذه سيكون الخاسر الأكبر هو إخوتنا المسيحيون. حيث يتمسكون بالماضي المحزن حيا في ذاكرتهم، الذي من خصائصه التشديد على الانتقام فحسب.
وبمعاينة منطقية لجدوى التشبث في تحقيق الانتقام نجده لن يؤدي سوى إلى استعرابهم واستعراب الكرد كذلك، هنا لن يخسر الكردي سوى أنه سيتكلم بلغة غير لغته السابق، حينها لن توجد فوارق بينه وبين العربي؛ لأن العرب مسلمون وكذلك الكرد، سيزيد هذا من محنة إخواننا السريان والأثوريين والأرمن أكثر فأكثر، ولن تكون نهاية للفرمانات، بل ستظهر من جديد وبشكل أقوى حيالهم. لا يخفي التاريخ تلك الإبادات التي جرت لهم على مدى القرون من دون أن يشقوا إخواننا المسيحيون عصا الطاعة في وجه السلطات الإسلامية.
لا نظن أن إخواننا نسوا أن نسبتهم من سكان دمشق كانت كبيرة، ليس كما الآن، وتقلصت هذه النسبة، حين أضاق عليهم المماليك (كانوا مسلمين، وليسوا عربا)، فما بال إخواننا إذا أضافوا، من جراء تمسكهم بالانتقام، إليهم الكرد. هل سيكون من المستبعد، إذا دار الزمن دورته وأصبحت الأجواء كما كانت في عهد المماليك والعثمانيين… أن تعاد نفس الإجراءات بحقهم؟ …
يتبع…
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية