تحليل: تفاقم الدين العام يهدد بإفلاس دول عربية
حتى سنوات قليلة خلت لم تكن الدول العربية باستثناء القليل منها كالأردن ولبنان من الدول العالية المديونية، لا بل أن الدول النفطية مثل ليبيا والسعودية والكويت والإمارات وقطر كانت من الدول المانحة والقادرة على تقديم قروض وضمانات للدول الأخرى بعشرات مليارات الدولارات سنة بعد الأخرى. غير أن العالم العربي ورغم وجود استثناءات قليلة كما هو عليه الحال في الكويت والإمارات يتجه بقوة للاعتماد على الديون الخارجية وبيع السندات أو على المنح والمساعدات والضمانات لسد العجز المتزايد تارة والمتفاقم تارة أخرى في موازنات دوله.
لم يعد الاعتماد على القروض وبيع السندات والمنح هذا يقتصر على الدول الفقيرة والمتوسطة الدخل كالأردن وتونس والمغرب، بل تجاوزه إلى دول نفطية غنية كالسعودية. فالأخيرة على سبيل المثال استدانت خلال السنوات الثلاث السابقة حوالي 150 مليار دولار، أي ما يعادل خمس الناتج المحلي الإجمالي. وفي دول أخرى غير نفطية اعتادت على القروض من قبل تضاعفت الحاجة إلى ذلك خلال السنوات السبع الماضية.
حالات شبه مستعصية
في تونس على سبيل المثال أضحت الحاجة إلى نحو 2.5 مليار دولار سنوياً للوفاء بمتطلبات الموازنة منذ الإطاحة بنظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي. وعلى هذا النحو زادت نسبة المديونية خلال العام الماضي على 70 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي المقدر بنحو 40 مليار دولار بعدما كانت أقل من 40 بالمائة عام 2011. وفي مصر أيضاً يتضخم جبل الديون سنة بعد الأخرى ليشكل في الوقت الحالي نسبة تزيد على 80 بالمائة من الناتج المذكور الذي يُقدر بنحو 240 مليار دولار.
أما في لبنان فالوضع مخيف لدرجة أن فاتورة فوائد الدين تستنزف لوحدها نصف إيرادات الدولة. وقد وصلت نسبة الدين هناك إلى أكثر من 150 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي الذي يقدر بنحو ستين مليار دولار. وبذلك تصبح الحالة اللبنانية شبيهة بالحالة اليونانية قبل 8 سنوات. وعلى ضوء استمرار الركود في بلاد الأرز وتردد الجهات المانحة في تقديم المزيد من المنح والمساعدات والقروض، فإن أحداً لا يعرف كيف ستتمكن الحكومة اللبنانية الجديدة من الاستمرار في دفع رواتب موظفيها وتغطية تكاليف الخدمات الأساسية وأقساط الديون إذا لم تحصل معجزة تؤمن لها تدفق ما لا يقل عن 6 إلى 7 مليارات دولار سنوياً.
القروض والفساد
تبدو الدول العربية هذه الأيام في وضع لا خيار فيه أمامها سوى اللجوء إلى مزيد من القروض. فمع اندلاع احتجاجات ما يُسمى “الربيع العربي” تراجع الاقتصاد التونسي وتقلص إنتاج وخدمات قطاعات أساسية كالسياحة وإنتاج الفوسفات. كما تراجع الإنتاجين الصناعي والزراعي وانتشر وباء الفساد على نطاق أوسع في مؤسسات الدولة. وتظهر تبعات ذلك مثلاً فيزيادة التهرب الضريبي وتفاقم العجز التجاري بشكل قياسي وصل إلى 6.5 مليار دولار خلال العام الماضي 2018.
وعلى الرغم من اختلاف الوضع في مصر عنه في تونس، فإن الأخيرة تعاني أيضاً من تراجع السياحة والأداء في قطاعات زراعية وصناعية هامة. ويبرز دور الفساد بشكل خاص في مشاريع البنى التحتية التي تكلف المليارات من خلال بنائها بمواصفات متدنية بحيث يذهب قسم من الأموال المخصصة لها إلى جيوب المرتشين. ومن هذه المشاريع بناء وتحديث السكك الحديدية التي تعاني الإهمال والحوادث المأساوية المتكررة كتلك التي أصابت محطة مصر للقطارات مؤخراً وراح ضحيتها أكثر من 20 شخصاً.
وبالنسبة إلى السعودية فإن التوجه إلى القروض مرده بشكل رئيسي إلى تراجع أسعار النفط إلى أقل من النصف منذ عام 2014. يضاف إلى ذلك فاتورة تسلح سنوية غير مسبوقة بقيمة تزيد على 60 مليار دولار سنوياً، ناهيك عن التكاليف الحربية في اليمن والمشاريع الطموحة في مجال البنية التحتية والسياحة. وهنا يضرب الفساد أطنابه أيضاً وبشكل خاص في إطار صفقات الأسلحة وبناء المدن والأبراج الجديدة.
دين جديد لخدمة دين قديم
تلجأ مختلف الدول إلى القروض والضمانات حتى في الأحوال التي تتمتع فيه بالاستقرار السياسي والأمني. هناك مبدأ في علم الاقتصاد يقول بما معناه: لا شيء أفضل من أن تعمل بمال الآخرين. لكن المشكلة عندما يتم استثمار وصرف هذا المال من أجل الوفاء بالتزامات سابقة لا تعكس إصلاحات اقتصادية عميقة واستثمارات مجدية لأسباب كثيرة قد يكون من أبرزها غياب الشفافية والرقابة والمحاسبة الفعلية على سوء الصرف هذا. وهكذا تتراكم الديون، لاسيما التي يقدمها صندوق النقد الدولي بشكل يصعب على البلد المعني دفع أقساطها وفوائدها. وهو الأمر الذي يضطره لطلب قروض جديدة للوفاء بالالتزامات السابقة تحت شروط أقسى يضعها الصندوق وفي مقدمتها اتباع سياسات تقشفية قاسية تطال بالدرجة الأولى أصحاب الدخل المحدود من خلال زيادة الأسعار وتحميلهم المزيد من الضرائب والرسوم في الوقت الذي تستمر فيه الفئات الغنية والفاسدة بالتهرب من ذلك.
وتواجه السياسات المذكورة هذه الأيام احتجاجات الشارع التونسي التي يدعمها الاتحاد العام التونسي للشغل الذي يتهم الحكومة بالرضوخ لشروط الصندوق القاسية. وقبل تونس خرجت احتجاجات أخرى مشابهة في الأردن ومصر والسودان والمغرب ودول أخرى. ويبدو العالم العربي على ضوء التوجه الجديد رهينة لحكومة تقترض وصندوق نقد دولي يأمر كيف تسير السياسات المالية. وفي حال استمر الوضع على ما هو عليه فإن إعلان الإفلاس أمر غير مستبعد في دول تنهكها القروض وفي مقدمتها لبنان وتونس، لاسيما وأن كلاهما يعاني الركود الاقتصادي غير المسبوق منذ سنوات.