ومن المرجح وعلى خلفية ما سرب إلى الإعلام سابقا، من اختراقات السلطة لمعظم المنظمات التكفيرية المسلحة، أن نظام بشار الأسد كان وراء خداع هيئة تحرير الشام، لتكون القوة الوحيدة المسيطرة على المنطقة، وهي منظمة مرفوضة من جميع القوى الدولية، حتى تلك التي ساعدتها سابقا وبشكل علني، وعلى رأس الأخيرة تركيا، المندرجة مع الموقف الروسي منها ومنذ شهور في العلن مع استمرارية العلاقة اللوجستية في الخفاء، ولا يمكن لروسيا قبول التلاعب التركي، وتوسع المنظمة، فهي على رأس قائمتها الإرهابية مع داعش، ولإرضاء روسيا، وضعتها تركيا قبل روسيا أمام استحقاقات مؤجلة تكاد أن تضيع، منها حل ذاتها، ولم تعير السلطة ولا إيران ولا روسيا أية أهمية لهذا الطلب التركي المرفوض سلفا من قبل الهيئة، مع ذلك حاولت تركيا التغطية على رفضها، لشراء الوقت والاستمرار في حالة اللا سلام واللا حرب، لخلفيتين: الخوف من موجة الهجرة المتوقعة وانتقال التكفيريين إلى أراضيها. والثاني الأمل في احتمالية الحصول، خلال تلك الفترة الزمنية، على الموافقة الروسية لمطلبها حول طريقة حلها للقضية الكردية في شرق الفرات، وهو ما أدى لأن يصدر تصريح من روسيا على أن صبرها تكاد تنفذ في مؤتمر سوتشي الأخير، بعدما لم تتمكن تركيا من إنجاز أي بند من البنود المتفقة عليها لحل الإشكاليات التي كلفت بها أو تكفلت بها في مؤتمر سوتشي السابق بتاريخ 17 أيلول عام 2018م.
العملية التي تريثت فيها تركيا وتكاد أن تفشل فيها بشكل كامل، حول المنطقة الأمنة والتي تطالب فيها أن تكون هي المسيطرة، دفعت مؤخرا للبحث عن محاور أخرى وحلول مختلفة، فقامت بتحريك حركة الإخوان المسلمين بدفعها لإصدار بيان أقل ما يمكن القول فيه خيانة الوطن، تطالب فيه أن تكون هناك منطقة أمنة في شمال سوريا تحت الوصاية التركية، وقبلها ظهر تصريح أبشع من هيئة تحرير الشام بأنها ستساند تركيا عند مهاجمة شرق الفرات، حتى ولو كانت خدعة واضحة لتطمين تركيا، على محاربتها وطردها لحركة نورالدين زنكي من إدلب.
وجل طموح تركيا في هذا المخطط هي لتحقيق مسارين: الأول، الوفاء لوعدها مع روسيا بإخلاء منطقة إدلب من التكفيريين، وذلك بنقلهم إلى المناطق الكردية عفرين وشرقي الفرات فيما إذا حصلت على المنطقة الأمنة، وليست فقط كما تدعي بإعادة المهجرين وسكان المخيمات إليها، لتغيير الديمغرافية الكردية، وهنا يكون أردوغان قد قضى على القضية الكردية من جهة، ومن جهة أخرى تتخلص من المعارضة المسلحة والمدرجة في قائمة الإرهاب الروسي، وبعدها ستكون قد نفضت يدها منهم، وستتركهم لبراميل الموت للسلطة السورية وللطائرات الروسية.
ولكن وحسب مجريات الأحداث، وحتى اللحظة، يتبين أن المخطط التركي فشل، وأمريكا والدول الأوروبية لن يخرجا من شرق الفرات، ولن يتخلوا عن القوات الكردية، ويلاحظ ومنذ مؤتمر سوتشي الأخير، أن الخناق يتضايق على تركيا قبل المعارضة المحمية حتى الأن، لعدمية وجود جغرافية لإرسالهم إليها، وما تؤشر إليه البوصلة أن معظم المساومات والصفقات بين تركيا وروسيا تكاد أن تعلن فشلها، وبالتالي لا يبقى أمام تركيا إلا:
1- إما التخلي بشكل علني عن المعارضة ويتم قصفهم من قبل روسيا أي القتل مثلما جرى في حلب الشرقية والغوطة، ولا يستبعد أن تشترك فيها تركيا أيضا، تحت عاملين: أولا، أنها أيضاً صنفت هيئة تحرير الشام في قائمة الإرهاب، وبالتالي سمحت لذاتها في محاربتها. والثاني، بناء على ما صرح به وزير خارجيتها في بداية هذه السنة بأنها قد تشترك مع روسيا في قتالها خاصة بعدما لم تمتثل لأوامرها بالتخلي عن السلاح الثقيل وقامت بطرد منظمة نورالدين زنكي من إدلب، وضربت بعض الفصائل الأخرى الموالية لتركيا، وكانت نتائجها وخيمة على العديد من الدول.
2- أو البحث عن حلول سلمية غير التي قدمتها تركيا لروسيا والسلطة وبها أشترت صبرهما، علما أن روسيا، صرحت في المؤتمر، وكامتعاض على ما بلغه الوضع هناك، أن “إدلب أصبحت إمارة لتنظيم القاعدة” أي بما معناه أن الواقع لا يمكن تقبله، كما وقال وزير خارجيتها لافروف اليوم، نحث شركاءنا الأتراك على الوفاء بالتزاماتهم التي تم التوقيع عليها في 17 سبتمبر 2018″، مؤكدا على “أهمية الحيلولة دون تعزيز الوجود الإرهابي تحت ستار وقف إطلاق النار الذي تم الاتفاق عليه مع تركيا”
وعليه فالحلول السياسية لا يمكن أن تنجع مع هيئة تحرير الشام، فهي على نمط داعش لا تقبل إلا سيادتها، أو الجهاد، وهي الأن تحتل منطقة مهمة من سوريا، تديرها كدولة مستقلة ضمن دولة، ولا يتوقع أنها ستتخلى عنها بدون صراع دموي، ولتفادي الفوضى والهجرة التي ترعب تركيا يحتمل أن تتقدم بمشروع منطقة تنقل من مبدأ خفض الصراع إلى أمنة على سوية الفيدرالية، ولربما تحت مسميات أخرى، وفي الواقع مثل هذا الاقتراح ستكون على شاكلة دويلة كونفدرالية، لأن حكومتها الإسلامية ستفرض دستورها وبالتالي نظامها الثقافي، والاقتصادي أي نظام الشريعة على نهجها السلفي، وهذه ستكون مرفوضة من الدول الكبرى لعدة اعتبارات، وبالتالي فالمنطقة مهما حاولت تركيا شراء الوقت لا يرى حلا لها في الأفق سوى الحل العسكري، وعليه فإن الشعب الأدلبي ينتظره معارك دموية، وبالتالي ستواجه تركيا كارثة إن لم تكن كوارث من عدة أوجه، ولئلا يحدث هذا المتوقع تحاول أن تدرج منطقة شق الفرات إلى المحافل الدولية، كقضية إرهابية مثل قضية إدلب، مثلما فعلتها بعفرين، وليست قضية قومية للشعب الكردي، وستعمل المستحيل لخلط الحالتين ببعضها، أي تدرجهما في صفقة واحدة، علما وكما ذكرنا سابقاً، لا يمكن لتركيا اللعب بوعي الدول الكبرى رغم المصالح المشتركة وثقلها الدبلوماسي والسياسي.
وبالتالي فالتعامل مع الإرهاب التكفيري لا يمكن حله بالبعد السياسي، ولا بديل عن القضاء عليه عسكريا. أما قضية المنطقة الكردية، شرق الفرات وعفرين، والقوة الكردية التي حاربت الإرهاب الداعشي عن العالم، يعرف أن حلها من السهل الوصول إليه عن طريق التعامل السياسي، والإشكالية هي ما ستقدمه السلطة السورية القادمة، من تنازلات، بل الأحرى ما ستتفق عليه روسيا وأمريكا، عندما يبدأ الحوار الفعلي بينهما على مستقبل سوريا، وهنا فتركيا تحاول السباق مع الزمن وكسب الوقت الضائع، لبلوغ مأربها مع شق الفرات والمنطقة الأمنة، بطرح ما ذكرناه من البدائل أو إحياء اتفاقية أناضول المرفوضة روسيا بأسلوب دبلوماسي، وإيرانيا وسلطة سورية مباشرة.
ورغم كل ذلك فالجدلية ما بين ديمومة المناطق شبه المستقلة ضمن سوريا، تدفع بالحل الفيدرالي كنظام أمثل لسوريا القادمة، وكتابة الدستور على أساسه، أو أن الحروب ستستمر في سوريا ربما لسنة وأكثر وإن كانت بشراسة أقل.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
2/3/2019م