الإثنين, نوفمبر 25, 2024
Homeمقالاتقصة قصيرة بمناسبة يوم المرأة : يوسف أبو الفوز

قصة قصيرة بمناسبة يوم المرأة : يوسف أبو الفوز

 إجتياز ــ بقلم النصير يوسف أبو الفوز

نص قصصي كتب تحية لرفيقاتي النصيرات البطلات وأرواح الشهيدات الخالدات، اللواتي احببن الحياة وتعلقن بها وتميزن بالشجاعة والريادة والقدرة على التضحية، ورسمن بزهر شبابهن ودمائهن تأريخا متميزا تتعلم منه الأجيال اللاحقة. من كتاب ” تلك القرى.. تلك البنادق” مجموعة قصصية عن تجربة وحياة الأنصار الشيوعيين والكفاح المسلح في كردستان العراق،اربيل ـ وزارة الثقافة في كوردستان العراق 2007. لوحة الغلاف الفنان النصير ستار عناد ” أبو بسام”

***

 

ـ اليوم!

صباح ربيعي، كل شيء يبدو زاهيا يبعث الانشراح والاحساس بالانتماء. تجول قليلا في ارجاء المقر، تابع تفاصيل الحياة اليومية للوادي الصغير، حيث قرية الأنصار التي شيدوها بسواعدهم لتكون مقرا لهم قاعدة لنشاطاتهم. توقف عند المطبخ الصغير ن المكتظ بأكوام الحطب اليابس، شاكس الخفيرة حول مهارتها في طبخ العدس. حيا حراس السجن، ومر عند فرن الخبز ارتشف مع الخبازين شايا اسود.

ـ اليوم!

من غرفة الاعلام، ومن مجموعة الكتب التي يصر مسؤول مكتب الاعلام على تسميتها “المكتبة” استعار كتاب (سعدي يوسف ـ الاعمال الكاملة). قرب قاعة نوم أنصار فصيل المقر تفرج قليلا على لعبة شطرنج بين نصيرين من أيام وهم في تحد متبادل.

ـ اليوم!

ليس بعيدا عن القنطرة الخشبية الصغيرة، التي ساهم في اجازته الماضية في إعادة تشييدها، استند الى جذع شجرة جوز عملاقة يتهامس مع سعدي بن يوسف: (يكفي ان نتنفس، كي نتفرس في الأفق المفتوح).

ودفعه واحده يجد نفسه يرتمي في نهر جارف، تحمله برفق أمواج وجد متداخله، بين اجفانه تتراقص اقواس قزح، وفي اعماقه ينهض عملاقا، شفيفا كأغاني الأمهات، يزهر في خلاياه عشبا ومطرا و…

ــ اليوم!

ولكن هذا القلق اللعين؟ الارتباك الذي تتسم كل افعاله؟ ترى هل انتبه رفاقه الأنصار الى كل ذلك؟ هل انتبهت النصيرة الخفيرة الى ان تحت الحوارات المرحة، الساخرة، التي تبادلها معها كانت تختبئ نيران القلق. تحرق كل ما اعد من كلام لهذا اليوم، وان كل مهارته في تحضير المفردات قد تتلاشى في لحظة واحدة؟ و…

ـ اليوم!

ان كل شيء صار واضحا، جليا، كرشقة رصاص مذنب في سماء ليل ساكن. الامر لم يعد يحتمل التأجيل. نضج بما فيه الكفاية. ولم يعد يحتمل التأخير. سيبدو مغفلا كبيرا لو مر اليوم مثل البارحة، مثل الأيام التي سبقته. كل هذه الأفعال الصغيرة الدافئة المتداخلة، تجعل الروح محتشدة بالأغاني والازهار والالق. كل هذه الايماءات المتوهجة بالدهشة والاسئلة، التي تخترق القلب برشقات متواصلة من النضارة والفرح، تجعله محتدما في التداعي، يندلع في خلاياه حريق من الهواجس، تتجمع من كل الزوايا، تحاصره، ترميه في مساحة شاسعة من الأضواء الملونة، فتكون في داخله شيئا عذبا، واضحا ومبهما في الوقت نفسه، بهيا كنجمة قصية، وحيدة، مشرقة في السماء، و…

ــ اليوم!

ليس بعيدا عن موقع المشجب جلس بعض الأنصار الجدد، ينظفون أسلحتهم التي استلموها حديثا، اختلط صوت طقطقة المعادن بضحكاتهم المرحة، منذ يومين وهو ينوي تنظيف بندقيته لكنه اجل الامر عدة مرات، و..

ـ اليوم!

لماذا هذا التأجيل؟ لطالما تساءل مع نفسه، فهذا التردد سيفسد كل شيء. لماذا التردد، وهو المعروف بين الأنصار بالجرأة؟ هل هو حالة ضعف مشروعة؟ حتى الخوف حالة مشروعة، فبدون اشواك الخوف لا يمكن جني حلاوة الشجاعة. هكذا علمته الحياة، وهو النصير المتقدم رفاقه دوما في المسير واقتحام مواقع ربايا العدو؟ من ماذا يخاف تحديدا؟ و…

ــ اليوم!

يوميا يجتاز القنطرة عدة مرات بين جانبي المقر، يزور غرفة مكتب قيادة الفوج في شان ما، يدخل قاعة نوم أنصار السرايا، ويراجع الطبيب للفحص الدوري. اليوم يجد في نفسه خشية حتى في الاقتراب من القنطرة. لم يبد له احتيازها عصيا هكذا؟

ــ اليوم!

سار بمحاذاة الساقية التي تخترق المقر كولا كخيط من الفضة، ينشر الطراوة والندى على جنباته. ما ان تحرك قليلا حتى لمح بين الأعشاب بعض الازهار البرية تطل مشرقة، قطف بعض منها، و …

اليوم!

رآها تغادر غرفة النصيرات تقترب من قاعة المستشفى. هل هي مريضة؟ عصر أمس كانت، في ساحة كرة الطائرة، تنظ مصل ارنب بري. اجتازت قاعة المستشفى. تنفس الصعداء. توقفت عند المخزن، تبادلت واداري المقر المتواجد هناك حوارا قصيرا، رأها تشرق بضحكة جذلة، تدفع راسها للخلف، تهتز ضفيرتها. فتورق في كفه باقة الازهار. على شفتيه يحس طعم لاذع لخمرة معتقة. تتجاوز في سيرها غرفة المخزن. الى اين ستتجه؟ الى اين؟ بحق السماء؟ ارجوك الى …

ــ اليوم!

هل ستتوجه الى غرفة اللاسلكي ام الى غرفة مكتب الفوج؟ بخطى واثقه، تتجه نحو القنطرة. بإتزان مترع بالأنوثة والبهاء تجتازها. قلبه يدق بعنف. الى اين ستمضي؟ هل ستذهب الى غرفة مكتب الاعلام؟ ترفع كفها النحيلة وبأصابعها الخالية من طلاء الأظافر ترفع عن عينيها خصلة شعر متمردة. تضج في روحه مهدهدة موجه من فرح طفولي. تستدير. ازداد لهاثه، كمن يرتقي عدوا قمة جبل وعرة. قلبه يكاد يثب من مكانه. لماذا؟ كل يوم يقضيان واياها اوقاتا طيبة، منفردين او بمعية بقية الأنصار، لم اليوم يغزوه هذا الاضطراب؟

ــ اليوم!

تتجه نحوه تماما، تسبقها ابتسامتها المشرقة، أراد ان يرفع باقة الازهار ويشمها بشهيق عميق الا انه أحجم عن ذلك. اصلح وضع حملات الرخت  جيدا . سوى ياقة قميصه بحركة يجيجها منذ أيام دراسته الثانوية. استكان: سعدي يوسف” تحت ابطه الايسر. تقترب منه أكثر، حاول ان يستعيد بسرعة الكلمات التي قضى الليل كله في تهيئتها والاضطراب يجتاح كل خلاياه.

ـ اليوم سأخبرها الحقيقة المعروفة من قبل الجميع!

حين أصبحت قبالته ووجهها الباسم الخالي من الاصباغ، الأكثر سحرا والفه هذا اليوم، يحتل اطار عينيه الملتهبتين قلقا ، ملأ ألق عينيها روحه المتوفزة ونثر في خلاياه نضارة روحها. البدلة الكردية الرجالية، وبندقية الكلايشنكوف “السيخوي”  لا يمنحناها مظهرا خشنتا ، انها تبدو اكثر مهابة ، بهاؤءا وجمالا ، و…

ــ صباح الخير!

لا يعرف كيف واتته الكلمات:

ـ ص.. صباح .. النور!

ـ هل كنت بانتظاري؟

ـ انا ؟ لا .. نعم .. كنت ..

أراد ان يقول شيئا، الا ان الكلمات تتعثر عند شفتيه المرتجفتين. لماذا؟ وهو المتصدر جلسات السمر الانصارية مرحا ومشاكسة. أكثر من سنة وهما يعرفان بعضهما كنصيرين في فود انصاري واحد. يوم بعد اخر تبادلا ثقة أكثر وزاد ميله اليها. ازداد احساسه بان احدهما ضروروي للاخر . كان متاكدا انها تملك ذات الإحساس، وكلما طالت فترة غيابه مع السرية خلال جولتها في المنطقة، ازدادت رسائلهما المتبادلة ، رسائل شفيفة، تحمل احاديثا  في مختلف الشؤون ، الا شانا محددا ، قرر اليوم ان يتحدث معها حوله .

ــ يالله ما أجمل باقة الازهار؟

انتبه لباقة الازهار التي كان نسيها. بيد مرتجفة قدمها لها. كاد ” سعدي يوسف” ان يفات من تحت ابطه. ازدرد ريقه. اين الكلمات؟ اين الجراة يا مقتحم الريايا ؟ اين …؟

ـ شكرا.. ان لك ذوق شاعر!

ــ انــ .. نها ..

امامه تقف رشيقة مثل شجرة اسبيندار .  صوتها الهاديء ذو النبرات الرخيمه، يشعره بالخوف الذي يسخر منه، والذي افقده الان لسانه، وجعله يتعثر ، و..

ـ مالذي جرى؟  ما بك؟

ــ أ .. أقول أن .. اريد .. ان انظف بندقيتي. من يومين وانا عازم على ذلك، هل تشاركيني؟

لم يستطع ان يتحرك رغم انه هم بذلك. كانت قد ركزت نظراتها في عينيه. في داخله كانت كل انهار العالم تصخب، تتلاطم، وفي عينيها الساحرتين ثمة هدوء عميق.. عميق. وصدى لكلام كثير، اجبره على ان لا يتزحزح من مكانه امامها. بسمه ساحرة تزين الوجه الأكثر قربا من القلب اليه..

ـ اهذا الذي تريد ان تقوله لي؟

ـ أ ..أ

ـ منذ يومين وانت تتهرب من مواجهتي!

ـ ا..انا ..

ـ وانت في جولة السرية، كتبت لي انك في اجازتك، وحالما تصل المقر ستحدثني بموضوع مهم جدا!

ــ نـ ..نعم !

ـ انا التي اريد ان احدثك!

ــ …

اتعتقد ان الامر بات يحتمل التاجيل والاختباء خلف الكلمات؟ والى متى؟ كل منا حولنا يعرفون ويدركون الامر ويتحدثون عنه باسمه الا انا وانت!

ـ اني..

ـ تعال، لنذهب هناك، ثمة مكان جيد عند ساحة كرة الطائرة، لنتبادل حديثا صريحا ومباشرا، علينا اليوم ان نضع حدا لكل هذا التردد وان نسمي الأشياء باسمائها !

 

أيلول ١٩٨٧ / قرية بيرموس  (سهل الموصل )

RELATED ARTICLES

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here

Most Popular