كما يقولون «إذا وُلِدَ النصاب يولد أمامه ألف ضحية».. فالتاريخ مليء بهؤلاء المحتالين، الذي سجلوا اسمهم بحروف «النصب» في صفحات الجريمة، و ربما يعتبر الكثيرون النصب، أمراً غير مقبول مثله مثل السرقة تماماً، إلا أنه لا يمكن إنكار أن النصب (فن) يحتاج لمزيد من التفكير والتخطيط والابداع فضلاً عن الموهبة.
واحد أشهر هؤلاء المبدعين، اسم تاه بين العباقرة، فهو بحق أحد العباقرة المبدعين، الذين سبقوا الزمن بفترات كبيرة؛ خاصة أن أفكاره للنصب كانت سابقة لعصرها.. ففي مطلع القرن الماضي أشتهر رجل في أمريكا بالاحتيال والنصب، وقصصه في هذا المجال لا تنتهي.
فقد كان يمتلك من الحذق والبراعة وأناقة المظهر ومعسول القول ما ضحك به على الكثيرين. حتى لقب بـ”النصاب عابر البحار” لتوزع ضحاياه بين نيويورك وواشنطن، فقد كان أحد اشهر المحتالين الذين عرفهم التاريخ، أنه المحتال التشيكي الأصل “فيكتور لوستيج – Victor Lustig”.
ولد “لوستيج” فى بوهيميا عام 1890م، وتخصص فى النصب بباريس ونيويورك، وقد كانت أول عملية نصب نفذها “لوستيج” بدهاء كبير هي قيامه ببيع صندوقاً صغيراً، قال عنه للزبائن إنه “ماكينة طباعة نقود”، يمكنها نسخ 100 دولار خلال 6 ساعات.
وأقتنع الطامعون أنذاك، ووافقوا على دفع مبلغ كبير من المال نظير شراء الصندوق؛ ليكتشفوا بعد ذلك أنه يطبع أوراقاً بيضاء بعد نفاد مخزون الأوراق ذات المئة دولار التي وضعها بداخله. فلا يستطيعوا أن يفعلول شيئاً، وهل سيذهبوا إلى الشرطة ويقولوا لهم إنهم اشتروا جهازاً للتزوير ووجدته لا يعمل، ونريد منكم معاقبة الذي يروج للجهاز، وخذوا لنا حقنا منه؟!
كان الرجل هكذا يوقع بالناس المغفلين الطامعين، وقد جمع “ لوستيج ” من هذا الصندون مبالغ مالية ضخمة، فقد باعها بما يزيد على 30 الف دولار.
ولم يكتفى بالنصب على الأغنياء والأثرياء أصحاب العقليات البسيطة والشرفاء، بل تمكن من الاحتيال على آل كابونى اشهر رجال المافيا الأمريكية فى التاريخ؛ حيث اقنعه بأن يستثمر 50 الف دولار في صفقة أسهم، وأحتفظ “لوستج” بأموال لنفسه في صندوق لمدة شهرين, وبعدها رجعهم إليه, الا انه اعاد له أمواله بعد فترة من الزمن؛ خوفاً من قوته وبطشه، مدعياً ان الصفقة قد فشلت. وأعجاباً بمهارته، منحه آل كابونى 5 الالاف دولار.
أما أشهر عملياته فكانت بيعه لـ”برج إيفل” في عام 1925م عقب خروج فرنسا من الحرب العالمية الأولى.. فقد جاءته الفرصة العظيمة بعد أن تعرضت باريس للقذف، وتدمير أجزاء كبيرة من هذه المدينة الجميلة في أعقاب الحرب، مما جعل “برج إيفل” أيلاً للسقوط، وكان لا بد من وجود بدائل.
وقتها قرأ “ لوستيج ” مقالاً نشر بإحدى الصحف، يناقش مشاكل مدينة “ باريس” عقب خروج فرنسا من الحرب العالمية الأولى، ومنها مشلكة “برج إيفل”، والتكاليف الباهظة التى ستتكلفها أعمل الصيانة به، حيث يحتاج إلى ملايين الفرانكات؛ لطلائه وإجراء عمليات إصلاح داخلية له، حتى يستمر قائماً.
ولكن “ لوستيج ” لم يمر مرور الكرام أمام المقال، الذى دلل على صعوبة عملية الصيانة، وأن البرج على وشك السقوط، وسيحتاج الكثير والكثير من الأموال فى فترة صعبة تعيشها هذه المدينة، وقرر أن يستغل الأمر بخبث ودهاء لصالحه، فقد كان المحتال متواجداً بمخططه الجهنمي.
فروج لشائعة مفادها أن البرج على وشك الانهيار، مستغلاً ذلك المقال الصحفي، فقام بإنتحال شخصية موظف كبير بالحكومة الفرنسية، ممثل الدولة الفرنسية المكلف بـ”وضع البرج في سلة المهملات” كما كان يحلو له القول، وزور بطاقة أعمال، أدعى فيها أنه نائب مدير عام وزارة البريد والتلغراف.
وقام بدعوة ستة من كبار تجار الخردة والمعادن إلى اجتماع سري في “فندق كريلون”، وهو احد فنادق “باريس” العتيقة، رفيعة المستوى، وأخذ يشرح لهم دوافع اختيارهم على أساس سمعتهم الجيدة كرجال اعمل أمناء، وبعدها اسقط القنبلة، وأبلغهم بأن الألواح المعدنية الموضوعة على سقف البرج، وضعت تمهيداً لهدمه، لذلك هو معروض للبيع.
شرح لهم ان عملية ترميم البرج وصيانته بائت بالفشل، وان الحكومة الفرنسية اتخذت قرارا ببيع البرج سراً؛ حتى لا يتسبب هذا الخبر في إثارة المشاكل، والبلاد مازالت تعاني آثار الحرب، وهو ما يعد فرصة ذهبية لتجار المعادن الكبار، وأنه هو الشخص المفوض من الحكومة للتفاوض على صفقة بيع البرج، واختيار التاجر الذى سيشتريه.
وهو أمر صدقه التجار، نظراً لان قيمة البرج التاريخية (تم تشييده سنة 1889م، وتم نقله فى عام 1909م)، لم تماثل قيمته وقتها نتيجة للدمار الذي أحل به، فقد كان فى حالة سيئة للغاية، وليس كباقى الاثار الفرنسية الرائعة فى ذلك الوقت..كما لم يساور الحاضرون شكاً في الرجل الذي كان لبقاً، ساحراً، يتحدث عدة لغات بطلاقة.
واصل “ لوستيج ” نصب شباكه على التجار الستة، فاستئجر سيارة ليموزين، ورافقهم فى جولة تفقدية للبرج الذي كان يعرف كل شبر به، وخلال هذه الجولة توصل الى التاجر الساذج الذى سيحتال عليه، وهو “أندري بويسون”، أحد أكبر التجار، ولكنه غير معروف فى الأوساط الكبرى، وكان يطمع فى الشهرة، وبالتأكيد شراء برج ايفل سيمنحه الشهرة، وتضعه في دائرة الشهرة.
وعندها سألهم “ لوستيج ” في أثناء الجولة التفقدية، إذا كانت لدى أحد منهم الحماس لشراء”برج إيفل”، على أن تقدم العطاءات سريعاً وفي سرية كاملة له شخصياً، وهنا أعرب “بويسون” عن رغبته في أتمام الصفقة لصالحه، فطالبه “لوستيج” بابقاء الأمر طى الكتمان، حتى اتمام الصفقة.
وكان دوما يذكر التجار الذين يسعى إلى التحايل عليهم وبيعهم مسبقا “البرج” بأنه مجرد قطع من الحديد، كان يراد منه ورائها تزيين المعرض الدولي الذي احتضنه العاصمة الفرنسية عام 1889م،
ولم يكتفى “ لوستيج ” بهذا الأمر بل لمح الى “بويسون” بأنه موظف حكومة فاسد، ويريد تقاضي مبلغ مالي كرشوة مقابل أتمام الصفقة، وهو ما حدث بالفعل، فقام “بويسون” بدفع مبلغ باهظ من المال لـ”لوستج”؛ حتى يملك هو البرج ولا احد غيره يشتريه.
وعلى الرغم من الشكوك التي ساورت زوجته في الأمر، إلا أنه لم يستمع لها، وسارع بتقديم عرضه، ودفع عشرات الآلاف من الدولارات، التي تسلمها “دان كولينز” نصاب أمريكي أيضاً وسكرتير “لوستيج”، ثم اختفوا، وغادرا الأثنين فوراً إلى “فيينا”، اخذوا القطار ومعهم حقيبة مليئة بالنقود.
وعندما اكتشف “بويسون” أنه راح ضحية عملية نصب، شعر بالحرج الشديد، وفضل ابتلاع الإهانة، وعدم إبلاغ الشرطة خوفاً من الإذلال والفضيحة، وأن كان عانى بعدها أزمات قلبية متتالية قضت على حياته، لذلك لم يتم توجيه أي اتهام لـ” لوستيج ” بسبب تلك الواقعة.
وما فضح “ لوستيج ” هو تكراره لنفس الأمر.. فبعد أشهر عدة عاد “لوستيج” إلى باريس محاولاً تكرار نفس العملية مع تجار آخرين، فقد أعاد المحاولة مع ستة تجار اخرين، ونجح بالفعل في اصطياد احدهم، والحصول على أموال طائلة منه قدرت وقتها بـ200 ألف دولار.
ولكن هذه المرة ذهب التاجر الذى وقع عليه الأختيار وأبلغ الشرطة، التي فشلت في إلقاء القبض عليه لتمكنه من الهرب إلى أميركا، حيث اختار “لوستيج” التوجه إلى مدينة نيويورك، لممارسة نشاطه هناك، وبعد عمليات تزوير ونصب ألقي القبض عليه، وقضى بالسجن عام 1947 .
حيث تمكنت الشرطة وأجهزة الأمن الأمريكية من القبض على “لوستيج” وهو يحتال في أمريكا عام 1943م، الا انه فر من البيت الفيدرالى في نيويورك، ولكن تم القبض عليه مرة اخرى، واعتقاله بعدها ب27 يوما في “بيتسبرج”، وحكم عليه بالسجن 20 عاماً، بعد أن اتهمه القضاء بتهم تحايل كثيرة منها التحايل على باعة المعادن في باريس، وتم وضعه فى أحد سجون ولاية ميسوري، وهو “سجن الكاتراز” المحكم، ليتوفى به عام 1947م، بسبب تقلص رئتاه.
ومن الحقائق المضحكة أنه مؤلف كتاب “الوصايا الـ10 للرجال المحتالين”، أحد أشهر الكتب مبيعاً، وقيل إنه ظل يحتفظ حتى وفاته في هذا السجن ببطاقة بريدية تجسد “برج إيفل” وقد كتب عليها بخط يده “بيع بمائة ألف فرنك”..