فعلى امتداد الأعوام الماضية، لجأت سلطات سلطات الإحتلال إلى حجز أقسام من هذه الأموال أو حجزها كلها كرد على موقف أو حادث طارئ ما، ثم لا تلبث أن تعيد هذه الأموال تحت ضغط الإدارة الأميركية التي كانت حريصة على ألا ينقطع خيط التفاوض بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، ولأنها بالأساس لا توافق على ذلك.
وفهم في ذلك الوقت، أن هذا الإسلوب جزء من السياسة الرسمية الإسرائيلية، كلما أرادت أن تضع السلطة الفلسطينية أمام استحقاقات، من بينها مواجهة عمليات المقاومة الفلسطينية وتحميل السلطة مسؤولية أية خسائر توقعها هذه العمليات في صفوف العدو.
في هذه المرة، تأتي القرصنة الإسرائيلية في سياق مشروع أميركي – إسرائيلي تحت مسمى «صفقة العصر»، وتطبيقاً إلزامياً لما سبقها من شروط على لسان المبعوث الأميركي غرينبلات التي طرحها على مسامع قيادة السلطة الفلسطينية. من بينها وقف مخصصات ذوي الشهداء والأسرى، وعندما لم يتم ذلك (ومن الطبيعي ألا يتم) اتخذت بالفعل الإدارة الأميركية إجراءات عقابية مالية بحق السلطة. أي أننا الآن أمام خطوة تطبيقية من خطوات المشروع المذكور، لا تهدف إلى مقايضة الافراج عن المال المنهوب بموق أو إجراء من السلطة.لأن الموقف الأميركي – الإسرائيلي ينطلق من زاوية ثابتة ترى في شهداء الشعب الفلسطيني وأسراه ومصابيه إرهابيين ومجرمين ينبغي معاقبتهم، وترى بالتالي في المخصصات التي يتلقاها ذويهم مكافأة على هذا «الإرهاب». وكل ذلك، في سياق الشروط التي تريد من الشعب الفلسطيني أن يمحو من ذاكرته ووجدانه نضالات أبنائه وتضحياتهم في سبيل تجسيد حقوقهم شعبهم، مثلما تريد من الشعب الفلسطيني أن يمحو من ذاكرته أن نكبة كبرى عصفت بحياته وأخرجته عن سكة تطوره الطبيعي على يد المشروع الصهيوني في العام 1948، وبالتالي لا داعي للحديث عن قضية اللاجئين الفلسطينيين وحقهم في العودة إلى ديارهم وممتلكاتهم التي طردوا منها إبان النكبة وما بعدها.ومن هذه الزاوية نفسها يرى مهندسو المشروع أن التوطين حل عادي ولايستحق كل هذا الرفض.
لذلك، لا تنفصل مسألة التعامل مع القرصنة الإسرائيلية لأموال المقاصة على خلفية رواتب الشهداء والأسرى عن مسألة الموقف العملي من المشروع الأميركي – الإسرائيلي برمته من الحقوق الفلسطينية، لأنها جزء من خطواته التطبيقية. ولهذا السبب، ترقبت الأوساط السياسية والشعبية الفلسطينية بإهتمام الرد الذي يمكن أن تقوم به قيادة منظمة التحرير والسلطة في مواجهة القرصنة الإسرائيلية لرواتب ذوي الشهداء والأسرى.
وبالفعل اجتمعت اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية وناقشت الموضوع بإستفاضة وتم الحديث عن القيام بإجراءات من بينها مقاطعة الاحتلال عبر وقف التنسيق الأمني ومقاطعة شاملة لبضائعه والقيام بحملة سياسية ودولية لفضح سياساته ووضع القرصنة الإسرائيلية أمام المحاكم الدولية ذات الاختصاص، وهذا حق لفلسطين العضو في عشرات المؤسسات والهيئات الدولية.
لكن الأوساط التي ترقبت ردة الفعل على القرصنة الإسرائيلية تفاجأت أو صدمت بالموقف العملي الذي اتخذته السلطة تجاه الموضوع، والذي يتلخص بنقطة واحدة لا غير: رفض استلام المقاصة إذا خصمت إسرائيل منها أي مبلغ(!) ولم يسمع أحد شيئاً عن الإجراءات والخطوات التي تم تداولها والاتفاق حولها في اللجنة التنفيذية.
ويتساءل المراقبون هنا عما إذا كانت القيادة الرسمية الفلسطينية تُدخل في حسابها أن سلطات الاحتلال التي تريد معاقبة الحالة الفلسطينية على تضحيات شهدائها وأسراها لن تتوانى في تعميم ذلك وتوسعته ليطال المطالبة بتقديم تعويضات عن كل «ضرر» يصيب المستوطنين عندما يدافع الفلسطينيون عن أنفسهم أمام اعتداءاتهم؟ وأن الأمر مفتوح على مداياته عندما يجد الاحتلال أن الرد الوحيد على جريمته يقتصر على ماتم اتخاذه بشأن نهب رواتب ذوي الشهداء والأسرى.
ثمة سؤال آخر يفرض نفسه، ماذا يعني بالنسبة لإسرائيل أن تكتفي السلطة برفض استلام أموال المقاصة دون أن تقوم بأي إجراء آخر. وهل هذا الموقف سيأتي بضغوط المجتمع الدولي وقواه الغطي لتنصب على رأس حكومة نتنياهو مقرعاً إياها على هذه الجريمة؟ وهل توجيه رسائل الشكوى من القرصنة الإسرائيلية إلى هذه الجهة أوتلك يعيد لنا حقوق شهدائنا وأسرانا وقوت عيالهم؟
ومع ذلك، ظهرت مباشرة نتائج «سلاح الرسائل» التي استخدمته بنجاعة القيادة الرسمية الفلسطينية في التعامل مع القرصنة الإسرائيلية. فهناك من نصحها بإستلام الأموال منقوصة من رواتب الشهداء والأسرى «حتى لا تقعون في أزمة مالية جديدة فوق أزماتكم» وأرفق ذلك بوعود بالمساعدة، وهذا يعني أنه خارج موضوع التدخل لوضع الأمور في نصابها. وهناك من اعتذر عن الوقوف إلى جانب السلطة لسد استحقاقات عدم استلام أموال المقاصة. وهذا طبيعي ومتوقع، وحتى لو حصل ذلك وتم تقديم المساعدة (وهو دين) فهذا يعني أن هذه الأطراف التي تم التوجه إليها لم تدخل في صلب الموضوع وتتعامل مع حقيقة السلوك الإسرائيلي القائم على النهب والقرصنة وفرض المشروع الأميركي– الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني كأمر واقع. لكن جوهر المشكلة أن القيادة الرسمية ذهبت في جميع الاتجاهات ماعدا الصحيح منها وهو على الأقل قد تم التوصل إليه خلال مداولات«التنفيذية» حول المقاطعة الشاملة ووقف التنسيق الأمني والتوجه إلى مؤسسات الأمم المتحدة وتحكيمها ضد جرائم الاحتلال وفق القانون الدولي، ولكن يبدو ذلك انتهى كما انتهت إليه قرارات المجلسين الوطني والمركزي، حيث اتخذت قرارات متقدمة ثم أودعت الرف.وهذا يؤكد أن اللجنة التنفيذية قد حُولت إلى هيئة للتشاور والدردشة وليس لها علاقة باتخاذ القرار، وهي التي انتخبت في المجلس الوطني على أنها «حكومة الشعب الفلسطيني».
كل ماحصل يعيدنا إلى التأكيد على أن الموقف الرافض لصفقة القرن لا يكون حقيقياً إلا إذا تحول إجراءات وسياسات تواجه الصفقة وأهدافها وتعزز قدرة الشعب الفلسطيني وقواه الوطنية على مقاومتها.ولن يحصل ذلك، إذا استمرت مواجهة أخطار تصفية القضية الفلسطينية محصورة في نقاشات القاعات والمجالس، ومن وراء المايكروفونات، وعندما تتحول هذه كلها إلى «قرارات» تحال إلى دوامة من اللجان التي تتناسل كي تدرس .. وتدرس آلية تطبيقها.. بينما خطوات تصفية القضية والحقوق تمضي الواحدة تلو الأخرى دون أن تجد ما ومن يردعها.