يوم أليم عاشته إثيوبيا الأحد الماضي بعد أن تناقلت وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي منذ الصباح نبأ تحطم طائرة البوينغ 737 Max 8 التي كانت في طريقها إلى العاصمة الكينية نيروبي. مشاعر الحزن والألم لم تقتصر على إثيوبيا والإثيوبيين فحسب، بل امتدّت إلى دول الجوار كينيا والصومال والسودان وإريتريا وأوغندا للارتباط الوجداني والعاطفي لشعوب هذه الدول مع بعضها البعض، كما حُظيت الكارثة الجوية باهتمامٍ إعلاميٍّ لافت نسبةً لنوعية الركاب الذين قضوا نحبهم في الحادث المؤلم فهُم 157 شخصاً يتوزعون بين 35 جنسية مختلفة حول العالم، ومن بينهم عدد كبير من خبراء ومسؤولي الأمم المتحدة كانوا في طريقهم للمشاركة في مؤتمر دولي بكينيا.
في هذه المقالة سنسرد تفاصيل الكارثة وسنحاول التعرف على أسبابها ومدى تأثيرها على مكانة الخطوط الجوية الإثيوبية والمكانة التي وصلت إليها إفريقياً وعالمياً بحصولها على جوائز دولية مرموقة. هل ستتأثر سلباً وتفقد كل ما حققته من إنجازات وتوسعة؟ أم ستكون الحادثة سحابة صيف عابرة في مسيرة الشركة العملاقة؟
حادث غامض
صباح الأحد كل شيء كان على ما يرام في مطار بولي الدولي بقسميه الاثنين، المبنى 1 الذي تنطلق منه الرحلات الداخلية إلى مدن إثيوبيا المختلفة، وبعض الرحلات الدولية للتخفيف عن المبنى 2 المخصص بأكمله للرحلات الخارجية ورغم ذلك لا يكاد يستوعب الأخير حركة الطيران الكثيفة خاصة للمسافرين العابرين «ترانزيت» من وإلى دول القارة السمراء.
ركاب الطائرة المنكوبة المتجهة إلى نيروبي بدؤوا في التوافد إلى المبنى 2 من مطار بولي في ساعة مبكرة، بطبيعة الحال كان غالبية المسافرين على الطائرة من «ركاب الترانزيت» وهم قادمون من وجهات عالمية.. من أوروبا وأمريكا ومن دول عربية وإفريقية، لم يكن هناك ما يدعو إلى القلق فقد سارت إجراءات السفر بسهولة ويسر، وتمكّن معظم المسافرين من الجلوس بمقاعدهم غير مدركين إلى أنها ستكون آخر دقائق في حياتهم، فيما نجا من الموت المحقق مسافر يوناني يدعى أنطونيوس مافروبولوس الذي تأخّر بضع دقائق فقط عن الرحلة المنكوبة فنجا من أن يكون الضحية الـ 150.
أقلعت الطائرة الجديدة التي لم يمض على تسلمها سوى 4 أشهر متأخرة عن موعدها بدقائق قليلة «8:38» بتوقيت أديس أبابا، «5:44» بتوقيت غرينيتش، من دون أن تواجهها أي مشاكل لكن بعد 6 دقائق فقط فُقد الاتصال بها وقبل أن يُفقد الاتصال ذكر قائد الطائرة «يارد قيتاشو» أنه يواجه صعوبات وطلب الإذن بالعودة فسُمح له حسب رواية الرئيس التنفيذي للشركة تيولدي جبري مريام لكن على ما يبدو أن القدر كان أسرع لم يمهله حتى يعود، إذ تشير بيانات موقع «فلايت رادار» إلى أن سرعة الطائرة لم تكن مستقرة أثناء الصعود التدريجي ما يشير إلى فرضية وجود مشكلة في المحرك بحسب بعض التخمينات.
«سيساي غيمشو» وهو فلاح من أهالي منطقة بيشوفتو التي سقطت فيها الطائرة، قال إنها «بدت وكأنها تحاول الهبوط في حقل قريب لكنها تحطمت قبل أن تصل إليه»، المعلومة أكدها «تقيقن ديشاسا» أحد السكان المحليين، قائلاً: «كانت النيران تشتعل في الطائرة حينما وقعت على الأرض، الطائرة كانت أصلاً مشتعلة قبل التحطم بقليل»، إذاً روايات شهود العيان تشير إلى أن الطائرة المنكوبة ربما اشتعلت فيها النيران فور إقلاعها ولذلك لم يتمكن الكابتن ومساعده من العودة إلى المطار رغم قربه فمدينة بيشوفتو «دبرزيت» لا تبعد سوى 50 كلم تقريباً من أديس أبابا.
موضع سقوط الطائرة المنكوبة
ورغم أن الخطوط الجوية الإثيوبية أكدت في بياناتها والمؤتمر الصحفي الذي عقده رئيسها التنفيذي جبري مريام أن الطائرة المنكوبة حديثة لم يمض على تسلمها من الشركة المصنعة سوى 4 أشهر فقط، وأنها خضعت لصيانة في الشهر الماضي، فإن الناقلة لم تستعجل في توجيه الاتهام إلى شركة بوينغ والقول إن هناك شكوكاً في تصنيع الطائرة، إذ اكتفت بإيقاف أسطولها من الطراز المعني B 737 Max وهي خطوة اتخذها لاحقاً عدد كبير من الدول وشركات الطيران كالصين وإندونيسيا والمغرب والبرازيل وسنغافورة كإجراء أمني احترازي لضمان سلامة الركاب.
سجل جيّد للخطوط الإثيوبية في السلامة الجوية
فور حدوث الكارثة وجدت الخطوط الجوية الإثيوبية تضامناً كبيراً من عامة الجمهور، مشيرين إلى أنها عرفت بالدقة والحرص على السلامة والأمان، كما أنصفها محلل الطيران المعروف أليكس ماشيراس قائلاً «إنها شركة طيران آمنة وموثوق بها بشكل لا يصدق. هذه ليست شركة طيران ذات «سجل سلامة ضعيف»، وأوضح في مقابلته مع شبكة CNN الأمريكية «لا يجوز سرقة مجهود الناقلة خلال الـ20 عاماً الماضية والقول بأن سجل الإثيوبية ضعيف بسبب الحادث الأخير، إذا كان الأمر كذلك فإن شركة الخطوط الجوية الأمريكية والخطوط المتحدة والفرنسية هي شركات ذات سجل ضعيف أيضاً.
كاتب المقالة استطلع رأي مستشار الطيران المدني زهير يونس للحديث عن أسباب تحطم الطائرة الإثيوبية، فعلّق بقوله: «مهنياً نحن لا نصرح بأي استنتاجات غير مؤكدة.. المصدر الوحيد الذي نعتمد تقاريره هو لجنة تحقيق الحوادث والتي تعتمد بدورها على كم هائل من المعلومات من عدة مصادر منها الصندوقين الأسودين وتسجيلات الاتصالات بين الطائرة وبرج المراقبة وتحاليل ونتائج فحوص الأنقاض زائد السجلات الفنية للطائرة».
واعتبر يونس، وهو من أوائل خريجي أكاديمية الطيران الإثيوبية، أن ما ورد على لسان بعض المهنيين في مجال الطيران «يتلخص في عيب ببرنامج حاسوب الطيار الآلي لطراز الطائرة والحساسات المغذية له بالمعلومات. كما أنهم يتصورون أن هذه الحادثة مطابقة لتلك التي حدثت في الصين والأخرى في ماليزيا إذ تحطمت طائرتان من نفس الطراز في ظروف مشابهة أي بعد الإقلاع بعدة دقائق».
ويتابع محدثنا: «قد يكون تخمينهم فيه شيء من الصحة إلا أنه بحكم سابق التجربة أجد نفسي أميل لطرح سؤال وهو إذا كان قد ثبتت حالة الخلل في أي من الطائرتين المنكوبتين سابقاً لماذا لم تقم الشركة المصنعة للطائرة وسلطات الطيران المدني الأمريكي بسحب هذا النوع من الطائرات من الخدمة فور ثبوت هذا الخلل؟».
ويخلص مستشار الطيران زهير يونس إلى ترجيح احتمالية وجود عطل فني أو خطأ بشري تشغيلي كما أن هناك احتمالاً ثالثاً بوجود عمل تخريبي ذي طابع سياسي. بحسب وصفه.
هل ستتأثر مكانة الناقلة؟
على مدى السنوات الأخير، مدّت الخطوط الجوية الإثيوبية جسور الصلة لتغطي أكثر من 90% من محطات القارة السمراء، ولذلك أصبحت خياراً مفضلاً لمعظم المسافرين من دول إفريقيا وحتى لمن يزورون القارة السمراء من الأوروبيين والآسيويين وغيرهم، وظلت تحوز على تصنيف أفضل شركة طيران إفريقية من مؤسسة سكاي تركس المتخصصة في تصنيف شركات الطيران العالمية.
على سبيل المثال، في أغسطس/آب من العام الماضي، أعلنت الخطوط الإثيوبية أنها اشترت حصة بـ30 مليون دولار مقابل إعادة إحياء طيران زامبيا الذي كان قد أعلن إفلاسه عام، كما دخلت الشركة في محادثات مع العديد من الحكومات الإفريقية ومن بينها غانا لإعادة انطلاق طيرانها الوطني، ثم تشاد التي وقعت معها الخطوط الجوية الإثيوبية اتفاقاً مماثلاً وامتلكت 49% من أسهم الشركة التشادية على أن يكون ما تبقى 51% ملكاً لحكومة تشاد.
وأظهرت الناقلة الإثيوبية المملوكة للحكومة اهتماماً غير مسبوق في السوق الإفريقية الكبيرة، إذ تدير أيضاً خطوط طيران مالاوي عبر اتفاقية وقُعت عام 2013، كما تشارك في شركة الطيران الخاصة بجمهورية توغو «أسكي» من خلال مقرها الرئيسي في العاصمة لومي، وتجري الشركة في الوقت الراهن محادثات مع جيبوتي وغينيا الاستوائية وغينيا لإنشاء شركات طيران عبر مشاريع مشتركة، وتقترب أيضاً من تأسيس شركة طيران جديدة في موزمبيق ستتملكها بالكامل.
صحيح أن الإثيوبية تعد أقل شركات الطيران الإفريقية تعرضاً للحوادث، حيث كان آخر حادث كبير تعرضت له في يناير/كانون الثاني 2010 عندما سقطت طائرة تابعة لها بعدما أقلعت من بيروت بفترة وجيزة، لكن من الصعوبة بمكان تصور ألا يؤثر عليها حادث الرحلة ET 302 فهناك عدد من الركاب يتملكهم شعور بالخوف من أي شركة طيران تعرضت إلى كارثة جوية، كما ستؤثر كارثة الأحد على سُمعة ومكانة الناقلة بشكل أكبر إذا ثبت وجود تقصير في صيانة الطائرة المنكوبة أو خطأ من طاقمها، هذا سيضرب سمعة الشركة في مقتل، أما إذا كانت الأسباب خارجة عن الإرادة فإن التأثير على مكانتها سيكون بشكل أقل خاصة إذا ثبت أن العيب التصنيعي في الحاسوب سابق الذكر هو السبب في الحادث فستصبح الخطوط الإثيوبية نفسها ضحية وتكسب تعاطف الغير كما يقول المستشار زهير يونس في حديثه الخاص مع كاتب المقالة.
الآثار السلبية تظهر على الشركة المصنعة مباشرة
الأثر السلبي ظهر فورياً لشركة بوينغ المصنعة للطائرة فقد هوى سهم عملاق صناعة الطائرات الأميركية، بنسبة 13% عند افتتاح تداولات بورصة وول ستريت بنيويورك ليوم أمس، بعدما مُني بخسائر فاقت 22 مليار دولار، على خلفية حادثة تحكم الطائرة الإثيوبية التي راح ضحيتها 157 راكباً من 35 جنسية بالعالم.
ورغم أن شركة بوينغ، قالت إن التحقيق في تحطم طائرة الخطوط الجوية الإثيوبية ما زال في مراحله المبكرة ولا حاجة لإصدار إرشادات جديدة للشركات المشغلة لطراز الطائرة المنكوبة وهو 737 Max ، فإن عدداً كبيراً من الشركات أعلنت تعليق رحلات الطراز وبعضها أوقفت عمليات شراء الطائرة مما كبّد الشركة خسائر فادحة.
نذّكر هنا بأن الاتحاد الدولي للنقل الجوي «إياتا»، صنّف الخطوط الجوية الإثيوبية بأنها أكبر شركة طيران في إفريقيا، وفقاً للإيرادات والأرباح، إذ بلغت إيراداتها في العام المالي 2017 نحو 3.7 مليار دولار، وتنقل الشركة الركاب والبضائع إلى أكثر من 117 وجهة عالمية.
وفازت الشركة العام الماضي بجائزة «أفضل شركة طيران إفريقية» للعام السابع على التوالي، وذلك خلال الدورة الخمسين لجمعية شركات الطيران الإفريقية (أفرا) في العاصمة المغربية الرباط. ونجحت الشركة، في جعل إثيوبيا أكبر معبر للرحلات إلى القارة السمراء والإطاحة بمكانة مدينة دبي التي كانت تحتل هذا المركز حتى العام الماضي.
ما ينبغي على الخطوط الإثيوبية فعله لتجاوز الأزمة
مع النجاحات العديدة التي حققتها شركة الخطوط الجوية الإثيوبية التي تمتلك أسطول يفوق 100 طائرة ركاب، وتغطيتها لأكبر من 90% من أنحاء القارة السمراء وامتلاكها أكبر وأفضل أكاديمية طيران في الشرق الأوسط والقارة السمراء، فإنها تعاني من بعض الإخفاقات الواضحة أولها: مشكلة في التواصل مع الجمهور ووسائل الإعلام، عندما حدثت الكارثة الأخيرة تأخرت المجموعة في إصدار بيان رسمي لفترة تزيد عن الساعتين بعدهما نشر موقع الشركة وحساباتها على مواقع التواصل الخبر المفجع، بينما نشره الحساب الرسمي لرئيس الوزراء آبي أحمد على تويتر في وقت مبكر من صباح الأحد، وكذلك أوردته عدد من القنوات الإخبارية والمواقع الإلكترونية، صحيح أن ما حدث كان كارثة بكل المقاييس ولكن هذا لا يعفي إدارة الاتصال والإعلام من القيام بواجباتها في تمليك الحقائق مهما كانت مُرة.
ثانياً، عدم وجود مطار كبير يستوعب العدد المتزايد من الركاب، كثير من الذين سافروا على متن الإثيوبية من ركاب الترانزيت على وجه الخصوص عبروا عن سخطهم من ضيق المطار رغم التوسعة التي افتتحها رئيس الوزراء آبي أحمد الشهر قبل الماضي، فالمطار الحالي محدود المساحة مهما تمت توسعته، ولذلك ينبغي الإسراع في تنفيذ المطار المقترح في مدينة بيشوفتو «دبرزيت» لحل جذري لهذه الأزمة، ورغم عدم ارتباط هذا الجزء بشكل مباشر مع كارثة طائرة نيروبي إلا أنه يمكن تسويقه كإنجاز يرفع مكانة الناقلة ويعزز قيمتها وقد يطغى على الصورة الذهنية السالبة التي شكلتها فاجعة تحطم الطائرة.
ثالثاً، ينبغي الإسراع في تعويض أسر الضحايا من ركاب الطائرة المنكوبة، ورعاية أهالي طاقمها من الطياريْن والمضيفات، فهذه الأشياء لها أثر بالغ في تخفيف المصيبة والتقليل من الحزن، وتشجع أطقم الشركة على الولاء للناقلة فقد كانت صورة رئيسها التنفيذي تيولدي جبري مريام وهو يتفقد حطام الطائرة المنكوبة بنفسه مشهداً أبلغ من أي كلمة تُقال ومن أي بيان أذاعته الشركة.
الرئيس التنفيذي للخطوط الإثيوبية يتفقد حطام الطائرة المنكوبة
زيادة على ذلك، التعامل مع كارثة البوينغ ماكس يتطلب جهداً مكثفاً من إدارة الشركة لمحو الآثار السيئة والترويج لسلامة الناقلة وسجلها، خاصة إذا أثبتت التحقيقات وجود خطأ بشري أو تقصير أمني، أما إذا كانت الكارثة بسبب خلل تصنيعي من شركة بوينغ فإن مهمة الخطوط الجوية الإثيوبية لا تقل صعوبة لأهمية مخاطبة الرأي العام الداخلي والخارجي من أجل تبرئة ساحة الشركة الصاعدة من فرضيات التقصير.
الإحصاءات التشغيلية للخطوط الجوية الإثيوبية تثبت خلو السجلات من حوادث كبيرة أو صغيرة خلال السنوات الماضية، وبرغم فداحة كارثة الأحد يمكن القول بأن سجل الخطوط الإثيوبية نظيف نسبياً، ولذلك فإن مكانتها وسمعتها تواجه اختباراً كبيراً ربما هو الأصعب في تاريخها فعندما وقعت حادثة بيروت عام لم تكن للخطوط الإثيوبية المكانة والسمعة التي تتبوؤها الآن وهنا يكمن الفرق.