قراءة في الجزء الثاني من ثلاثية محطات ( كفاح ) للروائي حميد الحريزي
تعتبر تقنيات المتن الروائي متنوع ومختلف في الرؤى والرؤيا , في ابراز العوالم الجمالية في التعبير السردي . الذي يستلهم فنية براعة مقتنيات وتكتيكات الفن الروائي الحديث , لكي يعطي جوهر مضمون التعبير ونواصبه الايحائية من موضوعية الواقع العام , التي تعمقت في استقراء مرحل السياسية الحرجة , التي مرت على تاريخ العراق , في الصراع السياسي والطبقي . وتحليل وتشخيص كفاح ونضال التيار اليساري , المتمثل بالحزب الشيوعي العراقي , في مراحل نهوضه السياسي , في مجابهة الحكم الملكي المرتبط بالاستعمار البريطاني , ومراحل النضال المتعاقبة بعد ذلك , او بعد سقوط الملكية واعلان قيام الجمهورية ,التي فجرت الصراع السياسي والطبقي , الذي اخذ منحى وشكل اخر من دائرة الصراع الحادة . وتأثيرات المناخ السياسي , على الواقع المعاشي بشكل مباشر , بتأثيراتها الحيوية , ففي عهد اعلان الجمهورية , تدشين مراحل التخبط السياسي المضطرب , بالصراع العنيف والتناقضات في التعامل السياسي , الذي يفقد الرؤية السياسية الواضحة في المواقف الحادة التي خلقها الواقع الجديد , لا من قبل قادة الثورة , بالاخص قائدها الزعيم ( عبدالكريم قاسم ) ولا من ناحية الاحزاب والتيارات السياسية المتصارعة في حلبة الصراع , لاقتطاف ثورة تموز وسرقتها لصالحها . لقد كانت معاول الهدم اكثر بكثير من معاول البناء , بالسلوك المتوحش , في استغلال ضعف الثورة في اتجاه هويتها السياسية المرتبكة , فقد كان التشويش والارتباك والتخبط , ابرز عوالم قادة الثورة في سلوكهم السياسي , في الصراع بين التيار القومي والبعثي , الذي يخطط لاجهاض الثورة واسقاطها . وبين مطاليب الحزب الشيوعي بالحسم الثوري في الاقتصاص من اعداء الثورة واجهاض مخططاتهم الشيطانية والشريرة . وخاصة ان ان اعداء الثورة تحالفوا على مختلف مشارفهم , في جبهة واحدة في اغتيال الثورة . وكانت تضم من المتضررين من التوجهات الاصلاحات للثورة , وهم من الرجعية الدينية والاقطاع والتيار القومي والبعثي , اصبحوا اللسان الناطق , او اصبحوا وكلاء لشركات النفط الاحتكارية , التي عملت بكل وسائل الدعم والاسناد , بالمال والسلاح الى عملاءها او وكلاءها , في الاسراع في عجلة اسقاط ثورة تموز . في استغلال مطبات المتخبطة لثورة تموز , وبالفعل تكلل نجاحهم الباهر , في الانقلاب الاسود في الثامن من شباط عام 1963 , ليدشن مرحلة العنف الدموي . وطغيان البطش والتنكيل . واطلاق العنان لذئاب المتوحشة المتعطشة لسفك الدماء . من قطعان ( الحرس القومي ) , في مراحل الصراع السياسي , الذي تحمل العبء الكبير , الحزب الشيوعي , في الاعدامات بالجملة , ونصب اعواد المشانق في الساحات والمدن . بعد اغتيال الثورة . مما خلق حالات من التذمر والغضب في الشارع العراقي . وزاد الطين بلة , في تصاعد العنف الدموي , اصدار فتاوى من العمائم الدينية المزيفة , بمحاربة الشيوعية بأعتبارها كفر وألحاد , هذه الفتاوي اضفت الشرعية على القتل وسفك الدماء الجارية . من اعداء الثورة , من التيار القومي والبعثي والاقطاع , عملاء شركات النفط الاحتكارية , هذا التحالف العريض كان مستعداً لتحالف مع الشيطان . في سبيل اسقاط الثورة , وابادة الحزب الشيوعي واخراجه عن دائرة الصراع السياسي . وبالتالي دفع ثمن تخبط للثورة , قادتها وقائدها , وهذا ما حصل في اعدامهم في اليوم الاول لشباط الاسود . لقد دفع قائد الثورة , ثمن التخبط والخلاف مع قاعدته الشعبية , فقد نجحوا اعداء الثورة , في خلق فجوة وخلاف كبير , بين قائد الثورة , والحزب الشيوعي , وميل كفة الميزان في الصراع , لصالح جبهة اعداء الثورة , بفتح السجون والمعتقلات الى التيار اليساري , وكان هذا الهدف الاعداء , في نزع قاعدة الثورة وسورها الجماهيري الصلب , ثم يفتح الطريق السهل لهم في اسقاط ثورة تموز , ونجحوا بذلك نجاحاً باهراً . هذه هي مؤشرات المشهد السياسي , في المتن الروائي , في تسليط الضوء بجوانب المناخ السياسي القائم آنذاك . لذلك هناك تطابق في رؤية النص الروائي , بين الرواي او السارد , ورؤيته الفكرية في الفضاء الروائي . فالراوي هو احد المساهمين في النشاط السياسي والحزبي , وتأتي تسلسل الاحداث الدراماتيكية ومواقفها , كأنه يسرد سيرة حياته النضالية والمعاشية ,فان رؤيته السياسية , تمثل وجهات نظر السياسية للمناخ العام , ومراحل الصراع السياسي والطبقي , بأعتباره احد المنضمين الحزبيين في صفوف الحزب الشيوعي , وينشط في الجانب العمل السياسي والجماهيري .
×× احداث المتن الروائي .
ينتقل ( مظلوم / غضبان ) من مدينة ( النجف ) الى العاصمة بغداد , هرباً من الاقتصاص العشيرة في عرف الاخذ بالثأر , ويستقر به الحال في بغداد , بتقديم يد المساعدة والعون من رفاقه الشيوعيين , الذين قدموا كل الدعم والاسناد , حسب الظروف المادية المتوفرة لهم . وخاصة من الاستاذ ( منير ) الذي عرف فيما بعد بأنه ( سلام عادل / سكرتير الحزب الشيوعي العراقي ) . ويصبح حارس ليلي , وفي الصباح عامل مطبعة , حتى تعلم اتقان المهنة بجدارة , وتعلم القراءة والكتابة , وانخرط في الحياة السياسية والحزبية , كنشيط حزبي يدير احدى المطابع السرية للحزب . ويتواصل مع عائلته بالاستمرار , حتى يجيئه البشير في بيان الحزب , الذي يتطرق , بأن هناك حدث عظيم على وشك الوقوع , يغير الطابع السياسي للعراق , وانه على وشك اعلانه الى الشعب . وكان الحدث العظيم هو انطلاقة ثورة 14 تموز , وسقوط الملكية واعلان الجمهورية . فور اعلان البيان الاول للثورة , هبت الجماهير الغفيرة , تعبر عن فرحتها وبهجتها بالثورة , بانطلاق الاعراس الشعبية , التي اخذت تطوف في الشوارع , ولكن مع هذا الابتهاج العظيم للشعب , لكن رافقته هستيريا جماعية متوحشة , نحو الهوس في اراقة الدماء والقتل , مثلما حدث بقتل العائلة المالكة . والتمثيل بجثثها , بالطعن بالسكاكين , وكذلك رميها بالحجارة والاحذية وسحلها في الشوارع . في هياج هستيري كأنهم من أكلة لحوم البشر. لذلك كان الاستاذ ( منير ) مستاء جداً ومتألم من هذا الحالات الوحشية , التي اصابت الجماهير وحشودها الهائجة , التي فقدت الصواب والعقل , وكان يشعر بالحزن والاسى . بأن هذه الافعال المدانة والسيئة , بأنها تحرف لتوجهات السلطة الجديدة . التي انتصرت على الخونة وعملاء الاستعمار والامبريالية , ووكلاء شركات النفط الاحتكارية . فكان الاستاذ ( منير ) او بالاحرى ( عادل سلام ) يرفض هذه التصرفات الوحشية ( كأنها مرادفة للثأر , في سواني واعراف العشيرة , يبدو لي أنه ثأر وليس ثورة . ماذا يفعل هؤلاء الرعاع أنهم يسحلون الجثث بشكل وحشي وغير أنساني , من أعطاهم هذا الحق ؟ من اصدر هذه الاحكام ؟ انها محكمة الشارع المسعور !!! ) ص73 . لم يمض عام على عمر الثورة , حتى اصاب الفزع اعداء الثورة , من انطلاقة التظاهرة المليونية في بغداد عام 1959 , بمناسبة عيد العمال العالمي , فقد بدأت حالات التوجس والخوف من قوة الثورة الجماهيرية , والدعم المنقطع النظير لقائد الثورة المحبوب , وبدأت تظهر الدسائس والمؤامرات والخطط , في دك اسفين في الثورة , تبدأ بضرب الحزب الشيوعي , وخلق الخلاف والفجوة الكبيرة , بين قائد الثورة والحزب الشيوعي , بكل الوسائل الثعلبية والشيطانية , بما فيها استغلال التأثيرات الدينية , في اصدار فتاوى تحارب الشيوعية بذريعة أنها كفر وألحاد , بهدف اضعاف قوة الحزب , وزرع الخلاف والشقاق في صفوف الثورة , وبالتالي اضعاف الثورة , وسورها الجماهيري . حتى ( أم كفاح ) زوجة ( مظلوم / غضبان ) ادركت هذه الحقيقة الظاهرة في غش العمائم الدينية المزيفة , التي تحالفت مع اعداء الثورة في اجهاضها . بقولها ( والله يبو كفاح همه هذوله متحالفين من زمان , مو من اليوم , لا الاقطاعيه يفارجون أهل العمايم , ولا اهل العمايم يفارجون الاقطاعية ) ص84 . بهذه الشكل تكون الحياة العامة , صريعة التناوشات والاختناقات في الصراع السياسي . وتكالب الذئاب على نهش الثورة , بدعم من الشركات النفط الاحتكارية , بنشاطات عملاءها المسعورين على مختلف مشارفهم , من اصلاحات الثورة , التي راحت تنزل الى العظم المشاكل , برفع الظلم والاستغلال , لذلك وجهوا نشاطهم المسعور , في سبيل وقف المد الاحمر , لذلك انفرزت ظاهرة الالوان الى قطبين , اللون الاسود والاصفر والاخضر في صف الاعداء الثورة , واللون الاحمر في صف الشعب والثورة , فاصبح الفلتان والفوضى , هي من عيوب الثورة التي عجزت عن الحسم , بل راحت تتوجس من مناصريها وقاعدتها الشعبية , بفتح السجون والمعتقلات , بحجة ايقاف المد الاحمر , وانتصار الباطل بتوحده على الحق المتشتت بالخلاف والشقاق ( توحد اصل الباطل , وتفرق وتشتت اهل الحق , الحزب يطالب الزعيم , والزعيم يخشى الحزب , فريق تعاطى بالتسامح وحسن النية , وفريق قرر ان لا ينتظر , قرر التعاون مع الشيطان , منعاً لهيمنة اللون الاحمر , واللون الاحمر مكتوف الايدي ) ص80 . وكان قطف ثمار اعداء الثورة بأسقاط ثورة تموز, بعملية قتل قائدها ورفاقه الميامين , وكشف عن مخالبهم الوحشية المتعطشة للدماء والقتل , وكانت قطعانهم من الذئاب السائبة ( الحرس القومي ) تجول وتعيث قتلاً ودماراً , بشريعة الغابة , في البطش الدموي المجنون , وهم في قمة احتفلاتهم الدموية . تأتي ألانتفاضة المسلحة في معسكر الرشيد , بقيادة الثوري الشجاع ( حسن سريع ) , لتزرع الخوف والفزع في قلوب قادة انقلاب شباط الاسود , كادت الحركة المسلحة من الحنود والعرفاء , ان تنجح وتطيح في قادة انقلاب شباط , لولا الاخطاء الفادحة التي وقعت فيها , وكرد انتقامي وحشي على بسالة الحركة العسكرية , قاموا في ارسال اكثر من 500 سجين من مختلف الرتب والاختصاصات العسكرية والمدنية في حشرهم في ( قطار الموت ) وارسالهم الى ( السماوة ) واصدار امر الى سائق القطار , ان يسير في سرعة بطيئة جداً , وخوفاً على البضاعة المحمولة في ( فراكين ) الموت الحديدية في صيف تموز الحارق , بهدف موتهم في الطريق , لكن يقظة السائق وروحه الانسانية , انطلق باقصى السرعة , من اجل محاولة انقاذهم من الموت المحقق , وحين وصل الى محطة ( السماوة ) كانت الحشود البشرية الغفيرة من اهالي السماوة تنتظر قطار الموت , تحمل الماء والملح والطعام والمواد الطبية , في اسعاف السجناء , وهم يصارعون انفاسهم الاخيرة , بهذه البسالة والشجاعة , تم انقاذ السجناء من الموت المحقق . هذه المأثرة الشعبية العظيمة , خلقت الشقاق والخلاف في معسكر القومي والبعثي , ووصل الى حد التأزم والتصادم بينهم , الى حد كسر عظم الاخر , وتحميله الفظائع الوحشية في اراقة الدماء والاعدامات الجماعية, وما بقاءهم في السلطة إلا مسألة وقت , حتى تحسم الامور بينهما , بالاسقاط احد الطرفين المشاركين في السلطة الدموية
جمعة عبدالله