أمسية أدبيّة مغايرة وبنكهة خاصّة للمبدع فادي بديع أبو شقرة، أقامَها منتدى حيفا الثقافي بتاريخ 14-3-2019، في قاعة كنيسة مار يوحنا المعمدان، وتحت رعاية المجلس الملي الأرثوذكسي الوطني، وذلك احتفاءً بباكورة إبداعه (رهين الجسد)، وسط حضور كبير من أدباء وأصدقاء وأقرباء، وقد ازدانت أطراف وزوايا القاعة بلوحات الفنانة فاطمة رواشدة، وبعد أن رحّب المحامي فؤاد نقارة مؤسس ورئيس المنتدى بالحضورـ تولت عرافة الأمسية خالدية أبو جبل، وتحدث عن الكتاب كلّ من: د. راوية بربارة عن قناع الكاتب في النّصّ السّيْرذاتيّ، ود. محمد هيبي عن فادي أبو شقارة، “رهين الجسد” طليق الفكر والرّوح!، ثمّ ختم اللقاء المحتفى به، شاكرا المتحدثين والمنظمين والحضور، وقد تخللت الأمسية مداخلات غنائية للفنان عبدالسلام دحلة من تلحينه وصوته، ثم تمّ التقاط الصّور التذكارية!
مداخلة العريفة خالديّة أبو جبل:
أمسيتنا اليوم ليست ككُلِ الأمسيات، فهي أدبيّةٌ نعم، ومن النّوع الثّقيل. لكنّها مُميّزةٌ بالابتسامةِ الّتي ستحملونَها حين مُغادرتِكم، وأنتم تعيشونَ أرقى وأعظم حالات الإرادة والعزيمة والأمل، وأنتم تَلْمسون بأياديكم روح الحياة، من خلال روايةٍ حرّرت صاحبَها من أنّاهُ، كَسرَ القيد، وأطلق الصّرخة، فصار الكون مداه.
“الوقوف، المشي، الرّكض، ارتداء الملابس والأحذية، الاستحمام، صعود الأدراج، تسلق السّلالم، القفز بالحبل، السّباق جريًا، تسجيل هدف في المرمى، تصويب كرةً في السلة، ضرب كرة تنس بالمضرب، الغوص، السّباحة، التزلج، الرّقص، الدّبكة، الملاكمة، الكراتية، ركوب الخيل، الدّرّاجة، الأرجوحة، السّواقة، تقبيل فتاةٍ، الزّواج بها، ممارسة الجنس معها، إنجاب أولاد منها، تربيتهم، رؤيتهم يكبرون، الافتخار بهم وبالأحفاد، لن تكون لي حفلة خطوبة، ولا حفلة زواج، لن أكون أبو فلان . أسمّيها “قائمة المُحرّمات: حقوق أساسيّة تولد مع كلّ مُعافى، أنا مُعاق، هذه الحقوق بالنّسبة لي تَرَفٌ، لا تحظى به إلّا الطبقة المختارة المميّزة، وأنا لست منها“.
فماذا تراك اليوم صديقي وأخي العزيز فادي، وأنت بين هذه الطبقة المُختارةِ المميّزةِ من الأدباء والشّعراء، وأصحاب الفكر والقلم، جاؤوا يحتفون بك وبرائعتك “رهين الجسد” الّتي أهديتها لكلّ البشر، لتكون رسالة إنسانيّة توقظ الضّمير من سباته، فيستحق اسم البشر. نعم، عَرَفْتَ طريقَكَ ، ووَقَفْتَ بقلمك منتصبًا، وظِلُّكَ من خلفك طويلٌ طويل.
مداخلة د. راوية بربارة بعنوان: قناع الكاتب في النّصّ السّيْرذاتيّ
مساؤكم آذاريّ. كان قد احتفى فادي قبل أيّام، تحديدًا يوم الثامن من آذار بذكرى ميلاده، أوَتظنّونها صدفة أن يولَد فادي في يوم المرأة، ذاك اليوم الّذي راح ضحيّته مئات النساء حرقًا؟ ذاك اليوم الّذي يشهد على تضحية المرأة في كلّ مجتمعٍ بطريركيّ، أوَ ليست هي رهينة العاداتِ والتقاليد وتعاني من صلافة تعامل المجتمع ونظراته؟ أوَ ليس الفقراء في عالمنا والمحرومون الحياة والجوعى هم رهناء ذلّهم؟ أوليس العاقلُ رهينَ عقلِه، على حدّ قول الشّاعر:
ذو العقل يشقى في النّعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
لم أجد مرتاحًا جادَ وأبدعَ، فالإبداع الحقّ يولدُ مِن قلبِ المأساةِ غيريّةً كانتْ أو شخصيّة؛ فهل أبدعَ بيتهوفن أجمل موسيقاه إلّا والصّمم قد سرقه الاستمتاع بلذَة ما أنتج؟ وهل أبدعَ رهينُ المحبسيْن مِن فراغٍ فلسفيّ أم من شقائه في العمى والدّار، وعلى حدّ قوله: رهينُ المحابس الثّلاثة أنا: العمى والدّار والجلد الخبيث، وعلى علّاته أصبح فيلسوفَ الشّعراء وشاعرَ الفلاسفة، وترك لنا إرثًا أدبيّا وتراثًا نتوارثُهُ ونفخرُ به.
وأنت فادي، ماذا تركتَ بين أيدينا؟ تركتَ جرحًا مفتوحًا لا تقوى السّنونُ على تضميدِهِ، لأنّك حفرتَ عميقًا في الوجدان أخاديدَ حزنٍ ومجاريَ دموعٍ، كيف تجرّأتَ وعرّيْتَ كلَّ ذاك الألمِ، وألبستَنا رداءَ الغباء والعار؟ كيف تجرّأتَ ورششتَ بحبركَ الملحَ فوق جراحِنا ففتّقتَها؟
كم كنّا نظنّ أنّنا نُعاني الألمَ، لكنّ صرختَكَ أخجلتْ أَلَمَنا، ما أصعبَه من وصفٍ يَنطقُ صدقًا، حين وصفتَ ألمَك الجسديّ والنّفسيّ والاجتماعيّ:
“الآلامُ الجسديّة الّتي ترافقُ الإعاقةَ لا تُطاقُ. الجلوسُ لفترةٍ متواصلةٍ يُؤدّي إلى آلامٍ في الفخذيٍن، ومِن هناكَ يتصاعدُ الألمُ إلى الظّهر حتى يحتلَّ جسديّ كلّيًّا. وكذلك الأمرُ خلالَ أوقاتِ النّوم، فأحتاجُ إلى تغييرٍ في وضعيّةِ النّوم والجلوس من وقتٍ إلى آخر. ما عانيتُهُ في طفولتي كافٍ ليُدمّر حياةَ أيّ معاق.. تحديقاتُ النّاسِ وتعليقاتُهم المُشفقةُ تارةً، والسّاخرة تارةً أخرى، الّتي لا أدري أيّها مهينة أكثر، مع الآلام الجسديّة والنّفسيّة النّابعة من العجز والنّقص واليأس والإحساس بالدّونيّة والظلم، والأسئلة المتكرّرة لماذا أنا؟ أيُّ ذنب اقترفتُه؟ هل سأُشفى لاحقًا؟ كيف سيُعاملني المجتمع؟ كيف سأتحمّلُ مصيري؟ هل أحاولُ أم أستسلمُ للواقع؟ عشتُ كابوسًا لا يقدرُ كلُّ صاحبِ إعاقةٍ تجاوزَه“.
ولعلّك أيّها الرّاوي بعدَ أن أخذتَنا في رحلةِ عذابِكَ، أصبحنا فلاسفةً من الألم ومن التّأمّل، وتَذكّرنا الفيلسوفَ والمفكّرَ الفرنسيَّ ميرلوبونتي الّذي أخذَ الإنسانَ، انطلاقًا مِن واقعِهِ المَعيش، فكرةً وجسدًا وعقلًا وعاطفة ووعيًا ولا وعي، مُحاولًا أن يَجمعَ بينَ التّجربةِ المَعيشةِ والتّأمّلِ الفكريّ، وبناءً على هذا الموقفِ، طرحَ فلسفةَ الالتباس الّتي لا تريدُ أن تَحِلَّ المُشكلات، بل أن تُدرّسَها بعُمقٍ أكثر، وقال إنّ الوجودَ الإنسانيّ هو رهينُ الجسد، (أو بالأحرى البدن كمظهر خارجيّ)، فالإنسانُ لا يتعرّفُ إلى العالم، ولا يتعرّفُ إليه العالمُ إلّا باعتبارهِ جسدًا/ لحمًا .وهذا ما فعلَهُ الكاتبُ الضّمنيّ، فقد طرحَ في روايتِهِ فلسفةَ الالتباس، فلم يَطرحِ السّيرذاتيّ ليبحثَ عن حلٍّ، بل ليُريَنا العالَمَ مِن وجهةِ نظرِ إنسانٍ، تعرّفَ إلى الدّنيا الّتي أفقدتهُ الجسد السليمَ، فرآها بمنظاره، وأرانا إيّاها حين تدير ظهرها لإنسانٍ، وأراها كيف عامَلَها وواجهها حتّى أعطته وجهها بعد أن أبدع، بعد أن تماهى الكاتبُ الحقيقيُّ معَ الكاتبِ الضّمنيّ مع الشّخصيّةِ المركزيّة، فالتبستْ علينا نقاطُ التّقاطُع مع نقاطِ الانفصال، وكثُرتْ نقاطُ التّماسِ بينَ الرّوائيّ وبين السّيرذاتيّ، وقد تجلّتْ هذهِ النّقاطُ في التّقاطُعاتِ بين شخصيّاتِ الرّوايةِ وتجاربِها الحياتيّةِ المُشتركة، الّتي جمَعَها ذلك الجسدُ الضّعيفُ فقوّاها وجمّعها، فتناوبتْ على السّردِ، كي نرى الواقعَ مِن وجهاتِ نظرٍ مختلفةٍ؛ فكم مرّةً رأينا مروانَ يُدافعُ عن حقِّ مراد بالحياةِ الحرّةِ الكريمةِ، فيُهدّدُ ويتهجّمُ ويُقدّمُ الجسدَ لأخيهِ؟ كم مرّةً سيُقدّمُ الدّفاع؟ كم مرّةً سينجح؟ كم مرّةً سيكونُ هذا البديلُ الجسديّ نافعًا وكافيًا وسادًّا مَسدَّ الحاجة؟ هذا تركَنا كقرّاء نتساءَل:
هل نستطيعُ أن نُعوّضَ إنسانًا ما فقدَهُ؟ هل المحبّةُ تكفي؟ هل العينُ بعدَ السّمعِ تكفي مكانَهُ، أم السّمعُ بعدَ العين يَهدي كما تُهدي؟ هل استطاعَ مروان أن يحميَ حبيبةَ مراد، وأن يَقيهِ هذا العجزَ النّفسيّ؟ هل استطاعَ أن يُعينَهُ على مشاعره:
“كانت لحظة شَعَرْتُ فيها بالعجز، شعرتُ أنّ الإعاقةَ الّتي ألفتُها وألِفَتْني، عادت تُقيّدُني جسديّا ونفسيًّا، كما قيّدتْني في طفولتي! شعرتُ بعارٍ شديد، خجلتُ من نفسي، كرهتُ نفسي، كرهتُ القدَرَ، إنّه يُهينُني ويَستحقرُني مرّةً أخرى! أيُّ حبيب أنا؟ أرى حبيبتي تُضربُ أمامَ عينيَّ ولا أدافعُ عنها؟ آه لو كنتُ أمشي! لو أعطاني اللهُ هذهِ المعجزةَ لنصفِ ساعةٍ، لا أطلبُ أكثرَ مِن ذلك، نصف ساعة فقط، لأمْسَكْتُهُ وارتكبْتُ جريمةً بحقّه!”
وأسألكُم أنا: هل الحبُّ هو الّذي يفضحُ ضَعفَنا، ويُكبّلُنا ويُحوّلُنا جميعًا إلى مُعاقي مجتمعٍ؟ أسئلةٌ كثيرةٌ تطرحُها الرّواية، تتركُنا مُتأمّلينَ تلكَ اللّحظاتِ الّتي تُغيّرُ مَجرى حياتِنا. إنّ تَناوُبَ السّردِ في الرّوايةِ برأيي، وُظّفَ للمقارنةِ، بل للمفاضلةِ، فأيُّ السّاردينَ وضعُه أفضل؟ الأمّ الّتي ضحّتْ بعمَلِها وخصوصيّتِها وحياتِها بكلِّ سعادةٍ من أجلِ عائلتِها، أم الأب الّذي علّمتْهُ الحياةُ أن يُبرمجَ حياتَهُ على وقعِ حياةِ الآخرين؟
تلكَ المفاضلةُ الّتي عقدَها الرّاوي بينَ مروة ومراد؛ رأينا فيها مروة تشرحُ لنا حبَّها وعِشقَها وألمَها من خيباتِ القدَر، وكيفَ تحوّلتْ هي أيضًا لمُستهدَفٍ رهينِ أفعالِهِ ورهينِ المجتمع، وتناقشَتْ مع مراد عن أيُّهُما أصعبُ في هذا المجتمع، أن تكونَ رهينَ إعاقةٍ جسديّةٍ، أم نفسيّةٍ أم اجتماعيّةٍ، في ظلِّ مجتمعٍ يُصبحُ فيهِ الرّافضُ للخيباتِ مُعاقًا وعاقًّا، وممّا وردَ على لسانِ مروة:
“أنْ تكوني امرأةً في مجتمعٍ عربيّ يعني؛ أنْ تكوني في القاع. أنْ تكوني امرأةً مُطلّقةً يعني؛ أنْ تكوني معدومةَ الوجود. تجادلتُ مع مراد كثيرًا في سياقِ هذا الموضوع: مُجتمعُنا مَن يحتقرُ أكثر؟ امرأةً طلّقها زوجُها، أم شخصًا ذا إعاقة؟ أقول له: إنّ أوّلَ إحساسٍ يُثيرُهُ المعاق هو الرّثاء والشّفقة، أمّا أوّلُ إحساسٍ تُثيرُهُ المُطلّقةُ هو الاحتقار. وهو يَردّ: إنّ موضوعَ الطّلاقِ يتمُّ نسيانُهُ بعدَ فترةٍ، أمّا المُعاقُ فَيبقى مُعاقًا في نظرِ المجتمع. أقول له: يوجدُ يومُ المُعاقِ العالميّ، ولا يوجدُ يومٌ للمطلّقة، فَيردّ قائلًا: لو سافرنا إلى بلادٍ غريبةٍ، سيَروْنَهُ مُعاقًا ولن يَعرفوا أنّي مُطلّقة. أقول: إنّ الطّلاقَ تركَ وصمًا على جَبيني. يقولُ: إنّ الإعاقةَ وصْمٌ على جبينِهِ وجسدِهِ وقلبِهِ..”
ويعودُ الرّاوي ليستلمَ زمامَ السّردِ الّذي أفلتَ مِن ضميرِ (هو وهي وهم وأنتم)، وانطلقَ بضمير (الأنا)، مُتجرّئًا على البوْحِ والتّصوير، مُعبّرًا، صارخًا، ساخرًا، ذلكَ أنّ الكتابةَ مَنفسٌ ومهرَبٌ وداءٌ ودواء؛ والجسدُ الرّهين حرّرَهُ الحبرُ مِن مأساتِهِ وألمِهِ، من صمتِهِ وإعاقتِهِ، مِن تخاذُلِ التّعامُل المجتمعيّ معه ونحوه، ذاك المجتمع الّذي يُحاصرُهُ:
“مُعاقون، مُعَوّقون، ذوو احتياجاتٍ خاصّة، ذوو قدراتٍ خاصّة، ذوو الإعاقة، ذوو القلوب الطيّبة، ذوو الهِمَم العالية، لا أفهمُ لماذا يَبذلُ كلُّ النّاس والمُؤسّساتِ الحكوميّةِ والصّحّيّة الطاقةَ، لإعطائنا لقبًا يُميّزُنا عن غيرنا، وكَأنّ الفرقَ الواضحَ الصّارخَ المُهينَ من ناحيةِ الحقوقِ غيرُ كافٍ؟! نطالبُ بالمساواةِ حتّى في الاسم. لا نريدُ اسمًا ولقبًا خاصًّا!
هل ننادي الأشخاصَ الّذين يُعانونَ من السُّمنةِ بذوي الدّهون الزّائدة، أو أصحاب الأوزان المرتفعة، أو ربّما أصحاب الشّهيّة المفتوحة؟ وكيف ننادي مَن يُعانونَ مِن قِصرِ القامة؟ ذوي الطول المنخفض، أو ذوي الارتفاعات المقصوفة، أو ربّما أصحاب القامة المتواضعة؟ وماذا عمّن بشرتُهُم سوداء؟ هل هم ذوو الغلافِ المُظلم، أو أصحابُ الجلدِ القاتم، أو ربّما أصحابُ البشرةِ المُتميّزة؟“
بهذا الطّرحِ الصّريحِ الجريءِ يُواجهُنا الرّاوي المُتلبّسُ بروحِ الشّخصيّةِ المركزيّة، مُعلِنًا أنّ الحياةَ مسرحٌ، والمُعاقَ لا يمكنُ أن يكونَ البطل. لا يمكنُ أن يكونَ الشّخصيّةَ المركزيّة.
وكيف عوّض الكاتب عن البطولة المفقودة؟ عوّضَ عنها بالكتابةِ. أصبحَ كاتبًا بطلًا بجرأتِهِ وطروحاتِهِ، فلنسمعْ صوتَ الرّاوي الواصفَ مسرحَ الحياة:
“في مسرحِ الحياةِ أنتظرُ خلفَ الكواليسِ فرصةً لن تأتيني وحدَها. على ملعبِ الحياةِ أجلسُ على دكّةِ البُدلاءِ. مصيري بيدِ المدرّب. في فيلم الحياةِ أنا كومبارس.. موجودٌ وغيرُ مَحسوس. على شجرةِ الحياةِ أنا ثمرةٌ تتدلّى على غصنِها، توشكُ على السّقوط ولا يَقطفُها أحد. في خزانةِ الحياةِ أنا ثوبٌ بالٍ مُهترئِ، بينَ مجموعةِ ملابس لأشهرِ مُصمّمي الأزياء. في غابةِ الحياةِ تمَّ مَحوُ صفحتي، ويجبُ إعادة كتابتِها وأنا الوحيدُ الّذي يَملك القلم. الحياةُ هي أكبرُ درسٍ لنا، ما نتعلّمُهُ مِن تجاربها لا يمكنُ للكتبِ أنْ تعلّمنا إيّاه. في البدايةِ نكونُ كالطّينةِ بين يديْها، وما نتعلّمُهُ في صِغرِنا مِن مغامراتِها ومِن المجتمعِ المُحيطِ بنا، يَرسخُ في عقولِنا وقلوبنا ويَبني شخصيّاتِنا. قدّمتْ ليَ الحياةُ جسدًا معاقًا، بكلّ ما يَحملُ معهُ مِن وجعٍ وعجزٍ وحرمان.. كُتِبَ عليّ أنْ أُحاربَ وأُصارعَ وأُقاوم، أنْ أتحمّلَ وأصمدَ وأصمت، وأنْ أُواظبَ لأصلَ إلى نفسِ النّقطةِ الّتي وصلَ إليها غيري دونَ جهدٍ أو بجهدٍ أقلّ. حياتي عبارة عن حرب على ثلاث جبهات: الجسد، المجتمع والرّوح. يحتاجُ الصّراعُ في كلّ جبهةٍ منها إلى أساليبَ وأسلحةٍ مختلفة، ويتركُ في جسديّ وقلبي نَدَباتٍ متفاوتةَ العُمق. كُتِبَ عليّ الصّراعُ حتّى لحظة الوداع..”
وأسألك فادي:
كيف يتركُ لنا القدَرُ علاماتٍ على المفارق؟ كيف يُسمّى هذا الكاتب فادي ويكون رهينَ جسدٍ؟ كيف فدانا الفادي بجسدِهِ، لنصبحَ أحرارًا من خطيئتِنا؟ هكذا فدانا فادي أبو شقارة، لنُحرّرَ مفاهيمَنا العقيمةَ نحوَ غيرنا مِن البشر. ونحنُ الآنَ نصومُ ونتذكّرُ مَن صامَ عن حلاوةِ الدّنيا. ونحن الآن نصومُ، نفهم أنّ كلًّا منّا يحملُ صليبَهُ ويسيرُ في هذه الدّنيا. ونحنُ الآن نقرؤُكَ، نفهم أنّ الحياةَ إرادةٌ، وأنّ الإبداعَ مُنقذٌ، وأنّ تبادلَ الهمّ يُخفّفُ مِن وطأتِهِ. كم كان جميلًا أن تُشاركَنا إبداعَك، وأن يَنضحَ كتابُكَ بتجربةٍ نضجتْ وأصبحتْ نبيذًا أدبيّا مُشتهى. تابِعْ مسيرتَكَ الإبداعيّةَ وطوّرْ أدواتِكَ يا فادي، ولا تُقوقعْ نفسَكَ لا في إعاقةٍ جسديّةٍ، ولا في غيرها من نظراتِ المجتمع، فنحنُ ننتظرُ عطاءَك القادم.
مداخلة د. محمد هيبي بعنوان: فادي أبو شقارة، “رهين الجسد” طليق الفكر والرّوح!
أهداني الكاتبُ فادي أبو شقارة باكورةَ أعمالِهِ الرّوائيّة “رهين الجسد“. روايةٌ تمتّعتُ بقراءتِها، فهي روايةٌ تتمتّعُ بقسطٍ وافرٍ مِن الجَمال، لتَماسُكِها من حيثُ شكلِها وبناؤها وجرأة مضمونها. ويكفيك فخرًا يا فادي، أنّني أثناء قراءتي، شعرت أنّني أنا المُعاقُ ولستَ أنت. نحن جميعا، بشكل أو بآخر، رهناء أجسادنا، لكن لسنا جميعًا قادرين على الانطلاق بفكرنا وأرواحنا كما فعلت أنت. السّجن بلا جدران، قد يكون أقسى ألف مرّة، من السّجن بين الجدران وخلف القضبان. فقد شعرت أثناء قراءتي، كم أنت قادر على الانطلاق، بينما كنت أنا مُقعدًا رهين جسديّ وروايتك“. وعليه، فأنا أجد في “رهين الجسد“، رواية جريئة كشفت عُرْيَنا وفضحَتنا، نزعت الأقنعة عن وجوهنا، وأزالت الألوانَ المزيّفة عن وجوهنا الممكيجة.
“ما الإنسان“؟ سؤال فلسفي حيّر الكثيرين، وأهمّهم الفلاسفة والأدباء، لأنّ الأدبَ لا يكون إنسانيًّا، إن لم يبحث عن إجابة له. وفلسفة رواية “رهين الجسد“، أنّها حقّقت أدبيّّتها وإنسانيّتها بمُساهمتها الجادّة في الإجابة عن هذا السّؤال. فهي قصّة الإنسان العاجز أمام الطبيعة، وليس بالضّرورة جسديّا، وشغله الشاغل أن يبحث عن سبيل للخلاص من عجزه. وهذا ما يقوم به فادي الّذي بدأ في مرحلة ما، بعد ولادته، يعي معاناته، ليس بشكل ذاتيّ من خلال إعاقته فقط، وإنّما من خلال علاقته بالآخر، وما سبّبته تلك الإعاقة للآخرين من ألم وصراع ومعاناة. خاصّة أولئك الّذين تعالوْا فوق جراحهم، ووقفوا منتصبين أمام قدرهم، يُضحّون بكلّ نفيس، ماديًّا ومعنويًّا، ليلبّوا لفادي ولبطل روايته احتياجاته، لا ليخفّفوا من عجزه ومعاناته فقط، وإنّما ليقنعوه: أنت مثلنا ولا تختلف عنّا، أنت رهين جسدك ولكنّك لست عاجزًا. وهي قصّة الإنسان، الّذي مَهما ضاقت به الدّنيا، لا يستطيع أن يتخلّى عن إنسانيّته، فيبحث عن سعادته في سعادة أخيه الإنسان. كم كان بوسع الأب والأمّ والأخ والأخت، أن يتخلّوْا عن ذلك المولود المنذور لشقائه وشقائهم، وأن يتخلّصوا منه أو يتركوه لقدره في المستشفى؟ أوليس هناك من فعلها استسلامًا لإنسانيّته العاجزة؟
وكم كان بوسع الأصدقاء والزّملاء كذلك، أن يتخلّوْا عن ذاك الصّديق المعاق الّذي يُقيّد حركتهم، بقيد حركته الّذي لا ذنب لهم فيه؟ ولكن لا شيء استطاع أن يُقيّد مشاعرهم الإنسانيّة، بل زادها تدفّقا لتُترجَم أعمالًا، أقلّ ما يُمكن أن يُقال فيها: إنّها التّضحية الإنسانيّة التي لا هدف لها إلّا سعادة الإنسان وتخفيف معاناته. تلك هي متعة التّضحية التي تكره العجز الإنسانيّ، ولا تألُو جهدًا للخلاص منه. هذا هو الإنسان، الّذي يبحث عنه الأدب في دواخلنا، ليحرّرنا ويحرّر الإنسان عامّة. ولذلك، تجيء هذه الرّواية، فعلا إنسانيّا يحمل هدفيْن سامييْن على الأقل: الأوّل تحرير كاتبها من نير إعاقته، والثاني وربّما الأهمّ، تحمل اعترافه بفضل أولئك الّذين غمروه بإنسانيّتهم وحدّوا من معاناته.
سأتوقّف ما استطعت في هذه القراءة السّريعة، عند عتبات النّصّ وعناصر مبناه. كلّ ما يسبق النّصّ، من الغلاف حتى بداية النّصّ، نعتبره عتبة من عتباته. وكلّها ملامح ميتاقصيّة، من أبرز أهدافها هو أنّ إعلان الكاتب للقارئ: أنا موجود في النّصّ، ولي صلة وثيقة بكلّ ما يحدث فيه. وقد أتيتُ بهذه العتبات والملامح الميتاقصيّة لتفضح وجودي.
*العتبة الأولى هي لوحة الغلاف، لوحة فاضحة، سواء أرادتها مصمّمة الغلاف كذلك، أم لم تُردها. مضمون الصورة والألوان فيها يتقاطع مع ما جاء في النّصّ وفي عتبات أخرى، العنوان والعتبتين (ص 9 وص 11). في لوحة الغلاف، شخص بلا ملامح، تفضح إعاقته العربة التي يمتطي صهوتها، أو الـ “وينجز“، كما يُسمّيها الكاتب في النّصّ. وإلى يمينه، أشخاص بلا ملامح أيضًا، يُصفّقون، بينما الخلفيّة، أشجار سوداء يابسة يتخلّلها لون برتقاليّ، يُحيل إلى النّور الّذي سيُبدّد السواد والظلام. أعتقد أن مصمّمة الغلاف، وسواء كان ذلك من خلال فهمها للنص، أو من خلال معرفتها بالكاتب، فهمت نفسيته، أو نفسية الرّاوي والبطل، بما فيها من سوداوية بدّدها ذلك الدعم الّذي يُحيل إليه التصفيق من أناس معروفين وغير معروفين، لذلك تركتهم مصمّمة الغلاف بلا ملامح.
*العتبة الثانية، عنوان الكتاب، “رهين الجسد“، فاضح أيضًا. كأنّ الكاتب يصرخ هذا أنا. وحتى القارئ الّذي لا يعرف فادي، قد يُحيله العنوان مع لوحة الغلاف إلى أنّ الكاتب من ذوي الإعاقة. ومهما كانت قدرة القارئ على الملاحظة قليلة، لن يعجز عن فهم ذلك، أو التفكير فيه على الأقلّ.
*العتبة الثالثة كذلك فاضحة. تصريح الكاتب حول الرّواية: “أيّ تشابه بين الشّخصيّات الواردة في القصّة وأيّ شخصية على أرض الواقع هو محض صدفة.. أو لعلّها مقصودة.. أترك لكم الحكم” (ص9). العبارتان الأخيرتان، “أو لعلّها مقصودة.. أترك لكم الحكم“، أي للقارئ، تُؤكّدان ما أكّدته لوحة الغلاف والعنوان. هذا أنا، الكاتب، فادي أبو شقارة، أروي قصّتي!
*في العتبة الرابعة، يقتبس الكاتب بيت شعر لرهين جسد آخر، الفيلسوف الشاعر، المعرّي:
وردنا إلى الدّنيا بإذن مليكنا لمغزىً، ولسنا عالمين بما غزي
المعرّي ينفي عبثية الحياة، ولكنّه عاجز عن فهم أو تفسير ما يدفع عنها تلك العبثية. وفادي كذلك في روايته، ينفي عبثية الحياة التي ظنّها في بداياته، ولكنّه يدفعها عنه بتصوير كل ما ناله من دعم وحبّ من النّاس الّذين أحاطوه بحبّهم ودعمهم. وفي مرحلة ما، تخلّى عن تفكيره الّذي كاد يحبطه، وهو أنّهم يُحبونه ويدعمونه عطفا وإشفاقا بسبب إعاقته.
رواية “رهين الجسد“، مهما حاول فادي الهروب من الاعتراف، هي رواية سيرة ذاتية له. فقد حاول أن يتهرّب فنيّا بواسطة أسماء الشّخصيّات وتعدّد الرواة وبعض الملامح الميتاقصية داخل النّصّ. ولكنّ ذلك لم يُسعفه، هذا بالإضافة إلى اعترافه، وإن كان جزئيا أو مواربا، حين وافق على غلاف الكتاب، وقال ما قاله في عتبات النّصّ. كما ساهم ملامح الميتاقص داخل النّصّ أيضًا، ولو بشكل غير مباشر، بتقديم دليل على وجود الكاتب في النّصّ، حين يقول الأب “لا أرى في انعكاس وجهي في زجاج النافذة بطلا لهذه القصّة” (ص13). وحين تقول الأمّ: “لا اعتبر نفسي بطلة هذه القصّة” (ص19). وكذلك ما تقوله الأخت في الفصل بعنوان “البكريّة“، وهي “مروة” أخت البطل، حين تقف أمام المرآة وتحدّث نفسها: “أنعم النظر بما تبقّى من مروة تلك، أرى الكثير فيها عبر المرآة عدا بطلة لهذه القصّة” (ص24). كل ذلك يطرح السّؤال: من البطل أذن؟ الكاتب ومبنى الرّواية، يقولان: ستجدونه في الفصول التالية. ومما لا شكّ فيه، هذه الملامح الميتاقصية، وما فيها من أقوال حول البطولة، تستفزّ القارئ وتدفعه نحو متابعة القراءة.
ومما تقدّم، تتبيّن لنا جرأة فادي، الّذي لا يتردّد في الاعتراف أمام القارئ، أنّ كاتب الرّواية وراويها وبطلها هم شخص واحد. بل تجاوز ذلك إلى ما يهمّه أكثر، نجاحه في كتابة الرّواية. وربّما الأهمّ من ذلك، هو شعوره وهو يُنجزها، كما حدث في نهاية الرّواية، أنّه يقف على رجليه وينتصب في مواجهة الواقع، ويسدّد الدين الّذي في عنقه لمن وقفوا معه. وقد نجح بكل المقاييس.
من الناحية الفنية، استطاع فادي بناء حبكة متماسكة لرواية فنية تقوم على تعدّد الرواة ولا أقول تعدّد الأصوات. فصوت الرّاوي، الأنا الشاهد المشارك المتكلّم، هو الّذي يطغى في معظم فصولها، حتى في الفصول التي ترويها شخصية أخرى. وهذا يُظهر إدراك الكاتب أنّ رواية السيرة الذاتية يجب أن تلتزم الأمانة في نقل تاريخ المروي عنه ومن يشاركونه هذا التاريخ. وعليه قول الحقيقة مهما كانت قاسية. نعم … من حقّه أن ينتقي الأحداث، وأن يسردها ويعمل على تخييلها بأسلوب جميل، ولكن بلا تجميل ولا تشويه، إذ لا مجال هنا للاختراع، وإنّما لعرض الحقيقة سواء كانت جميلة أم قبيحة. ويُدرك أيضًا، أنّ السيرة الذاتية تدور حول شخصية حقيقية يتطابق فيها الكاتب مع الرّاوي والبطل، ويغلب فيها الصوت الواحد، صوت الرّاوي، على بقية الأصوات. ولذا لا يمكننا أن نعتبر “رهين الجسد” رواية بوليفونية رغم تعدّد الرواة فيها. ولكن الكاتب بهذا التعدّد، حقّق ديمقراطية النّصّ وأظهر احترامه للآخر، حين منحه حرية السّرد. ورغم كل ذلك، لم يُفلح الكاتب بطمس حقيقة السيرة، حيث التركيز في الرّواية على إعاقة الرّاوي البطل الجسديّة المطابقة تماما لإعاقة الكاتب.
الزمن في رواية “رهين الجسد” يقوم على التذكّر والاسترجاع وغيرهما من تقنيّات تيار الوعي، مثل التداعي والمنولوج والحلم. ولكنّ زمن الحكاية، أو زمن الإعاقة، موضوع الحكاية، كما في السيرة الذاتية، يسير غالبا بشكل أفقي، حيث يُحدّثنا الرّاوي عن إعاقته وأثرها عليه وعلى من يُحيطون به من أقاربه وجيرانه وأصدقائه وزملائه الطلاب، ملتزما بالمراحل الزمنية المختلفة التي قطعها منذ ولادته حتى سنّ الثامنة عشرة، وفي كل مرحلة عوامل خوفها الّذي يتجلّى كصراع داخلي لدى البطل، يوازيه صراع خارجي مع الآخر ومع الزمن. وقد ظهر هذا الصّراع من خلال السّرد وما فيه من بوح صادق في مونولوجات أحسن الكاتب توظيفها.
الحدث المركزي في الرّواية هو ولادة طفل معاق. وكل الأحداث الأخرى تتولّد عنه وتتناسل منه وتدور حوله. تعيش معظم الشّخصيّات، وخاصّة أفراد الأسرة، صراعا داخليا يدور في البداية حول كيفية التّعامُل مع الوافد الجديد، المولود المعاق، ومن ثمّ حول كيفية تغيير المسار أو الواقع الّذي يعيشه، آخذين بعين الاعتبار إعاقته وصعوبة التّعامُل معها، أو معه بسببها. ولقد انعكست في ذلك، قدرة الإنسان على التحمّل والتّضحية كفعل إنسانيّ صادق ومخلص، يدفع هو بنفسه إليه دون أن يدفعه أحد. ولذلك ليس عبثا أن أول وأهمّ من أسند إليه هذا الدور هما الأب والأم الّذين لا أحد يقدر على أخذ مكانهما أو ملء الفراغ إذا لم يقوما بدورهما. بعدهما فقط جاء دور الإخوة والأصدقاء. ومن خلال هذه الأدوار، حدث التفاعل الإنسانيّ بين الشّخصيّات، كفعل ثنائي الاتجاه، متبادل، وهو ما يجعل التأثّر والتأثير بين شخصية البطل وسائر الشّخصيّات متبادلا أيضًا.
أمّا فضاء الرّواية فقد تعدّدت فيه الأماكن، من البيت إلى المدرسة إلى الـ “وينجز” (العربة التي يستعين بها الرّاوي في تنقّله وتحرّكاته)، وهي أكثر ثلاثة أمكنة تشغل حيّزا مؤثّرا في فضاء الرّواية وتؤثّر على نفسية الرّاوي/البطل. وإذا كان الآخرون هم الّذين أوجدوا له “الوينجز” في الواقع، إلّا أنّه هو الّذي أوجدها في الرّواية، لتضع حدّا لعجزه الجسديّ، ما يُبين إصرار فادي، في الواقع وفي الرّواية، على تجاوز الإعاقة والانطلاق فكرا وروحا، وجسدا أيضًا. ومن هنا ليس عبثا اختار لها الاسم “وينجز” (أجنحة).
وإذا كان لا بد أن نتحدّث عن الشّخصيّات، وعن ألـ “وينجز” التي هي جزء من المكان، نقول بكل ثقة أن الكاتب استطاع هنا أن يُحوّل المكان إلى شخصية من شخصيات الرّواية، فقد أنسنها وأعطاها القدرة على التحرّك، فلعبت دورا في حياته لا يقلّ عن أدوار بعض الشّخصيّات الأخرى، إن لم يفقه. فهي لم تكن تحمله وتنقله فقط، بل حملته وحمته وأنقذته من مواقف ما كان ليعرف كيف سيتصرّف فيها لولا وجودها.
وقد رسم لكل شخصية دورها الّذي يُؤثّر سلبا أو إيجابا، على شخصية البطل ومسار تطوّرها، بالقدر الّذي يليق بها وبتأثيرها عليه. وهذا ينطبق على كل الشّخصيّات، سواء أعطاها الكاتب حقّ الكلام المباشر، أو نقل هو كلامها بشكل غير مباشر. وبالطبع، ليس عبثا أنّه أولى أفراد العائلة، الأب والأم والأخ والأخت، اهتماما خاصا، وأفرد لكل منهم أكثر من فصل في الرّواية. وأعطى لكل منهم حرية السّرد في فصله ومن منظوره، ولكن وفق منظور الرّاوي، فإنّ صوته كان هو الطاغي. ولكن ظنّي انّه لم يفعل ذلك بقصد الهيمنة على الشّخصيّات وإنّما بقصد تكريمها وتقديرها والاعتراف بأهمية دورها. ذلك لأنّ كل واحد من الأشخاص الأربعة، لعب دورا حاسما ومميّزا في حياة البطل.
يبدو دور الشّخصيّات أيضًا، من خلال الحوار الحيّ الّذي أحسن الكاتب توظيفه باللغة التي تليق به. فلغة الرّواية تأتي على مستويات متعدّدة، بين الفصحى في السّرد والعامية في الحوار، حيث لغة الحوار تُطابق الشّخصيّات ومكانتها الاجتماعية والثقافية. وتعكس كذلك، وبشكل يدعو للإعجاب، كل العناصر التي تتركّب منها ثقافة الكاتب الواسعة: لغة القرية والتراث المتداول فيها، لغة التكنولوجيا الحديثة وما توصلت له من أجهزة وألعاب إلكترونية مختلفة مارسها البطل، ولغة مواقع التواصل الاجتماعي على اختلافها، ولغة السينما والتلفزيون والأفلام والمسلسلات الكثيرة التي شاهدها، وأخيرا، لغة الكتب الكثيرة التي قرأها بنهم.
يقول الناقد المصري يوسف الشاروني “القصّة القصيرة تشبه دوامة على سطح النهر، بينما الرّواية تُشبه النهر كلّه“. ووفقا لرواية فادي، أرى أنّها قد تشبه النهر، وقد تشبه مقطعا يطول أو يقصر منه، وذلك لأنّ القارئ في نهاية الرّواية، يخرج وهو يشعر أنّها لم تنتهِ، وأنّ خطّ سير الشّخصيّة لم يتكامل، وإنّما توقّف أو أبطأ لاتّخاذ مسار جديد. وهنا يأتي دور النهاية المفتوحة التي لا يُحيل الحلم فيها إلى التفاؤل فقط، وإنّما إلى الفرح بالإنجاز، وإلى الامتداد الّذي يعدنا فادي بأنّه سيأتي.
يرسم الكاتب لكل شخصية خطّ سيرها الخاص بها، وهذا الخطّ يلتقي بالضّرورة ويتقاطع مع خطوط أخرى لشخصيات أخرى. وخطّ سير شخصية البطل في رواية “رهين الجسد“، يُشبه جدولا صغيرا في منحدر، تكوّن من التقاء رافدين رئيسين مهمّين، هما الأب والأم. وسرعة التدفّق في هذا الجدول تُحدّدها كمية الماء التي ترفده بها الروافد الأخرى. ولذلك نرى أنّ حركة الماء في الجدول تزداد سرعتها كلما التقى مع رافد آخر. وهكذا هو الأمر بالنسبة للحركة الدرامية في الرّواية، تزداد كلما التقى البطل بشخصية أخرى. وهذا ما حدث عندما التقى خطّ سير شخصية البطل بروافد أو بخطوط سير شخصيات الأخ والأخت والأصدقاء وغيرها من الشّخصيّات. وهذا التّدفّق السّريع، ينعكس أيضًا على لغة الرّواية، فهي رغم أنّها لغة جميلة وتتلاءم في السّرد مع الجوّ العام للرواية، وفي الحوار مع طبيعة شخصية البطل والشّخصيّات الأخرى، إلّا أنّها في كثير من الأحيان، تفتقر للعمق. والأمر لا يبدو غريبا، بل مطابقا للجدول الّذي تحدّثت عنه، فمهما زاد تدفّقه يظلّ الجدول يفتقر للعمق. وهذا مطابق للفترة الزمنية التي اختارها الكاتب زمنا للرواية، فترتي الطفولة والمراهقة، إذ مهما كانت الأحداث متسارعة في الحياة في هذه الفترة، ومهما تناسبت الحركة الدرامية للرواية معها، إلّا أنّ الإنسان مهما كان ذكيا في هذه الفترة، يظل تفكيره سطحيا يفتقر للعمق. وهذا يلفت الانتباه إلى النهاية المفتوحة للرواية. ويذكرني بقول جبران عن السعادة في الحياة التي يُشبهها بالنهر:
ومـــا السـعادة في الدّنيا سـوى شـبحٍ يُرجى فإن صارَ جسمًا ملّهُ البشرُ
كالنهر يركض نحو السهل مكتدحًا حـتى إذا جاءَهُ يـبـطي ويـعـتـكـر
وهكذا هي الحياة، قد تُبطئ أحيانا وتعتكر، ولكن إلى حين، لأنّ الإبطاء والاعتكار، قد يكونا نهاية مرحلة ننطلق منها نحو مرحلة تالية. وهذا تذكير للكاتب الّذي أراه كتب جزءا من الرّواية، إن فكّر بجزء آخر، أقول له: جاء دور جريان النهر في السهل، حيث الهدوء والعمق بعد السطح والاعتكار، الهدوء الّذي يُحيل إلى التروّي والعمق، والعمق بلا شكّ، يتطلّب قدرة أكبر على الغوص، في بحر اللغة وأسرار الرّواية.
وختاما، وبلا أيّة مجاملة، فادي أبو شقارة كاتب وروائي حقّق في أولى غزواته، نصرا مبينا ونجاحا باهرا. و“رهين الجسد“، رواية تستحقّ القراءة والدراسة بجدارة، تستحقّ كل ما كُتب وما سيكتب عنها. فقد ألقت وبجرأة متناهية، حجرا كبيرا في مياهنا الراكدة، وفي مستنقع عاداتنا وتقاليدنا، وفضحت إعاقتنا الفكرية والجسديّة معا.
مداخلة فادي ابو شقرة:
مساءُ الخير، مساء الفن والأدب، مساء التّحرّر من كلّ السجون الّتي تعيقنا عن الإبداع. تحياتي لنادي حيفا الثقافي والمنظمين والمتحدثين، وتحياتي للعائلة الكريمة الّتي ترافقني يد بيد، للضيوف الكرام فردًا فردًا.. لكم محبتي وتقديري.
خلال الأمسيات الخاصّة بالرّواية، إن كان إشهارُها أو المناقشات فيها، يرددون أمامي: “فادي نحن اليوم نحتفي بك، فادي أنت اليوم عريس الحفل“. وكل عريس يحتاج إلى.. ماذا؟ عروس! وعروسي اليوم أكثرهن جمالًا وبهاءً وميّزة.. إنها عروس البحر.. حيفا!
بعد الإقبال الكبير على روايتي فور طباعتها ونشرها، وبعد الصدى الّذي لاقته أمسية إشهارها، وضعت نصب أعيني هدفًا واضحًا، صريحًا، جريئًا، أن أكون ضيفًا أنا وروايتي فوق هذا المنبر المحترم. ولم أكن لأقدم على هذه الخطوة وطلب الفرصة لو لم أشعر وبكل تواضع أن الرّواية من ناحية أدبيّة تستحق النقاش والتحليل داخل هذا المكان الراقي، الّذي يجمع نخبة الأدباء والشّعراء والنقاد المحليين.
تحملُ بعض كلمات روايتي في طيّاتها ألمًا، وتشعّ بعضها أملًا، تكشف غيرها ما يحمله شابٌ مقعدٌ من همّ وغمّ، وأخرى تصرخ عاليًا أنّ العزيمة والإصرار هما الأهمّ. فقد عشت في ظلال الإعاقة سنوات بدت لي دهرًا. عشت تحت وطأة نظرات رأت بي شبحًا، وتحت رحمة كلماتٍ تخلو من الرحمةِ. تلقيتُ الضربة تلو الضربة وبقيت واقفًا صامدًا إزاءها، أو وجب القول في حالّتي بقيتُ جالسًا.. صامدًا، ولم يجد اليأسُ سبيلًا إلى قلبي. ولكن لن أطيل الكلام حول الوجع الإنسانيّ الشّخصيّ داخل نص الرّواية ولا خارجها، لم أتِ حتى هنا طمعًا في كسب شفقة من الموجودين، هذا أحد المفاهيم الخاطئة الّتي أحارب من أجل تغييرها.
الرّواية ليست رواية تاريخية، ولا تتناول أي قضية سياسية، لكن هذا لا يجعل منها أقل قيمة وأهمية. قمت بكتابة رواية اجتماعية إصلاحية هادفة، تسلّط الضوء على فئة مهمّشة من المجتمع لتكون المحور الرئيسي فيها، تسعى إلى زرع أسمى القيم الإنسانيّة كالمحبة والمساواة والتواضع وتقبل الآخر. فهل وفقت في ذلك؟
الرّواية غيّرت مفاهيم خاطئة عديدة تتعلّق بأصحاب الإعاقة، كما قامت بثورة فكرية نحن بحاجة ماسة إليها، ساهمت في تحريك مشاعر وأحاسيس القراء ليتعاطفوا ويرغبوا في سماعي والدليل على ذلك أكثر من 1200 نسخة بيعت دون مساعدة أي دار نشرٍ، وأيضًا تم دعوتي من كافة القرى والمدن فزرتُ منذ إصدار الرّواية عيلوط والعزير ووادي سلّامة وعين ماهل والمشهد وكفر ياسيف والناصرة وكوكب أبو الهيجا وكفر مندا وكفر قرع وام الفحم. كما تم استضافتي عبر قناة مساواة ومرتين في برنامج الأسبوع على قناة 13 ريشت، وراديو مكان وراديو جمعية المنارة وموقع بانيت وموقع بكرا ووموقع وازكام وموقع وفا الفلسطيني.. قبل عدة أيام زارني في البيت ثلاث طالبات من الإعدادية لكتابة موضوع إنشاء عن شخصية بارزة في طرعان ووقع اختيارهن عليّ.
أما عن الجانب الأدبيّ فقد سمعنا مداخلتيْ الدكتور محمد هيبي والدكتورة راوية بربارة وتحليلاتهما العميقة وسمعنا نقدَهما الإيجابي الّذي ولّد فرحًا عظيمًا داخلي ورضا عن عملي. وسمعنا نقدهما البناء وأقول بناءً وليس سلبيًا فهو غداء للذهن ودرس سيعود عليّ بفائدة عظمى. وقبلهما تم تحليل الرّواية أدبيّا على يد البروفسور جريس خوري والدكتور الناقد رياض كامل والدكتور محمد خليل، والأستاذ فؤاد خميس والأستاذ جريس دبيات والكاتب حسين ياسين والكاتب مصطفى عبد الفتاح والشّاعر عبد حوراني والكاتبة أسمهان خلايلة والشّاعرة ساهرة سعدي والشّاعرة سناء عبد، كما حاورني الدكتور محمد هيبي عن الرّواية خلال إشهارها.
وبالإجماع أكدوا أن الرّواية على مستوى أدبيّ، جديرة بالنشر، حيث تكلموا عن العمق النّفسيّ فيها، اللغة الشّاعرية، المونولوجات، الفكاهة السوداوية، عنصر التطهير، التناص، صراع الرّوح والجسد. أنا أومن بمصداقية كل من نقد هذه الرّواية، وعلى ثقة كاملة أن التعاطف مع وضعي الجسديّ لم يكن معيارًا بأي شكل من الأشكال، بل تم تحليلها بكل موضوعية وحرفية كما هو مطلوب من ناقد يحترم اللغة والأدب. وأكبر دليل على النضوج الأدبيّ للرواية هو نشر دراسة عنها بقلم الدكتور رياض كامل، تم نشرها عبر مواقع عديدة في جريدة الاتحاد. ودراسة للكاتب مصطفى عبد الفتاح تم نشرها عبر عدة مواقع وفي مجلة الإصلاح. وتم مناقشة الرّواية في عدة منابر.. المركز الجماهيري – طرعان، متجر المها – سوق الناصرة، النادي الثقافي طرعان، نادي القراء طرعان، نادي القراء – الناصرة، نادي القراء – البطوف، نادي القراء – كوكب أبو الهيجا، سينامانا – الناصرة، وبعد أسبوعين من اليوم: نادي القراء – طمرة. والقادم أعظم..
قال محمود درويش “قف على ناصية الحلم وقاتل. ومنذ ولادتي وأنا أقاتل.. أقاتل الإعاقة، أقاتل الضعف والعجز والألم، أقاتل المجتمع وعيونه وألسنته، أقاتل الشّفقة والسخرية، أقاتل من أجل الوصول إلى أحلامي. اليوم على ناصية الحلم أقول قد قاتلت وانتصرتُ.. والدليل على انتصاري هي الرّواية الّتي ما زالت قيد الطلب والاهتمام حتى اليوم بعد نصف سنة من إشهارها، والدليل على انتصاري هو النظرة المغايرة الّتي يراني بها النّاس من معاق لا يعوّل عليه إلى مصدر إلهام للكثير وإلى كاتب أصدر عملا اجتمع هذا الكم الهائل من النّاس مهتمين متلهفين للسماع عنه.
سأنهي بكلمة شكر خاصّة لإنسانة محاربة، درعها الكلمة وسلاحها القلم، ساهمت في إنجاح أمسية إشهار “رهين الجسد” ونجاح أمسية سينامانا ونجاح أمسية اليوم، ووضعت كل ما تملك من طاقة ومحبة صادقة تخلو من أي مكاسب من أجل ذلك. لإنسانة عند مراجعتها لنص الرّواية قبل الطباعة، جاءتني حتى البيت ووعدتني أن لي مع الرّواية مشوار طويل حافل بالانتصارات.. ام طارق بارك الله بروحك الطيبة المعطاءة.. بارك الله فيكم جميعًا على حضوركم على إصغائكم واحتوائكم وتصبحون على واقع أفضل.