في البداية اطرح ملاحظة هامة, إن هذا الدراسة لا تدخل في إطار التحيزات المذهبية أو الدينية, وإنما يجري التعامل مع قاموس المصطلحات الطائفية مثل (سنّي) و(شيعي) و(ميليشيات) و(جماعات مسلحة) و( متمردون قوميون سنّة ) و( سلفيون جهاديون) بوصفها مصطلحات أداتية مجردة من اي نزعة نابية كما ان هذه الدراسة ليست معنية بتصحيح أو تخطئة ما يندرج تحت تلك المصطلحات من تصـورات دينية، أو أيديولوجيه، فضلاً عن ذلك نحاول في هذا العمل القيام بمراجعة جذرية للكثير من المفاهيم والتصورات السياسية والسياقات التاريخية التي فقدت نجاعتها الرمزية والوصفية, حيث يعد المخبر العراقي ما بعد العام 2003 نقطة تحول قصوى في تطوير المفاهيم السياسية, وسوف يدفع الباحثين إلى إعادة النظر في الأجهزة المفاهيمية، والقواميس، والمقولات الجاهزة لا سيما في ما يتعلق بالهوية (الهويات) والطوائف، والأقليات، والنزاع الأهلي.
نحاول هنا ان ندرس مسالة الحرب الأهلية الطائفية التي تكثفت للاعوام 2006 – 2014 والاعوام 2014 – 2017 في أساسياتها الاجتماعية والسياسية، حيث اننا نجد الصورة الانقسامية في القاع السوسيولوجي للمجتمع العراقي، وإن الدولة العراقية منذ التكوين الأول تقوم على بنى عصبوية طائفية، وهنا تبدو فرضية الحرب الأهلية في العراق. على جدول أعمال المجتمع / المجتمعات العراقية وممثليها السياسيين الفاعلين منذ التكوين التأسيسي، فهي فكرة أو مشروع متوطن في الذاكرة التاريخية والأيديولوجية وتاريخ المعتقدات الدينية، وتاريخ الجماعات سواءً كانت المجتمعات الشيعية أو المجتمعات السنّية، إذن الحرب الأهلية الطائفية ومنذ انهيار نظام صدام في العام 2003 أخذت مسارات متعددة، لتكسب أطرافاَ محلية وإقليمية، ودولية تقوم هذه الحرب على التطهير الاثني، والطائفي والديني المتبادل، والقتل اليومي، والتهجير من أجل إعادة رسم الخرائط الديموغرافية، وتفجير السيارات المفخخة، والانتحاريين والاغتيالات، وتفكك جغرافية الدولة، وتوطن تلك المجتمعات في مناطق محدودة ومنفصلة، فالميليشيات الشيعية المسلحة حققت انتشاراَ واسعاَ في جنوب ووسط العراق (البصرة، والعمارة، والكوت، والسماوة، والناصرية، والديوانية) أما الميليشيات السنّية المسلحة فقد توطنت في غرب وشمال العراق في (الموصل، والانبار، وتكريت، وديالى، وكركوك)، هذا الانتشار فرض الحدود للانقسامات الطائفية والقومية والاثنية، ومن ثم بروز دويلات وإمارات، وتم كسر احتكار الدولة التي لم يكتمل تكوينها بعد الانهيار الشامل العام 2003 لمجال القوة والعنف، مما أدى إلى تداخل التمركز الطائفي للسيطرة على الثروات والموارد، والأفراد الفاعلين وتكيفهم على وفق التصورات المذهبية.
قطائع مع خطابات
إن الفعل الإجرائي الأول الذي يجب تحديده، يكمن في إحداث قطعية معرفية مع المصطلحات المتداولة إعلاميا ونقصد بذلك المصطلحات والتسميات التي تحمل نعتاً وحكماً أيديولوجياَ وتفتقد للعلمية والرهان على إنتاج معرفة موضوعية عن البنية السوسيولوجية، والمجال التاريخي للمجتمع العراقي وإعادة إنتاج مفاهيم ومقولات محايدة لتسمية الدوائر والهويات العراقية. عبر الإجابة على سلسلة من الأسئلة، لماذا تم تفجير أكبر خزان للأساطير الما قبل تاريخية، وإعادة إنتاج الظاهرة السلفية داخل السيرورات الطائفية العراقية، وتحولها إلى أديان مغلقة واستنفار الطاقة التخيلية للمنظومات السياسية، والسرديات الفقهية، والإرث الديني، والطبقات السفلى من تركيبات الجماعات الدينية الأصوليّة؟ ما مدى الارتباط بين ظهور النزعات الطائفية، والانبعاثات السلفية والنصوص السياسية والدينية، والأيديولوجية للجماعات العراقية ونشوب صدام الهويات الطائفية الدينية العراقية على تقنيات ومؤسسات وتركيبات اجتماعية واقتصادية، وسياسية؟ ما الأسباب التي جعلت الدولة منذ التأسيس في العام 1921 تفتقد للخصائص السوسيولوجية والأيديولوجية، وتشكل بنيتها على المجال الطائفي الذي يخترق الجسم السياسي للدولة العراقية؟
أنساق في كشف لعبة الخفاء الايديولوجي
لكون المجتمع عبارة عن أنساق سيوسولوجية لذلك فهو منتج لخطابات دينية – سياسية ومرجعيات أيديولوجية مختلفة داخل نظام الفكر ما يتطلب كشف لعبة الخفاء الأيديولوجي للحركات السياسية أو النخب الدينية العراقية في إعادة إنتاج الهوية الطائفية الأصوليّة التي تعبر عن البنية الأجتماعية العراقية في هندسة الدولة؟ هل أدت البنية الطائفية لدستور العام 2005 دوراً في اتساع ظاهرة الحرب الأهلية الطائفية والتشظي السياسي للمجتمع العراقي ولتبدد وضوح هوية الدولة الدينية أو المدنية؟ لذا تتطلب مراجعة التاريخية العراقية الحديثة والكشف عن السلسلة المروعة من الحروب، والعنف السياسي، والاجتماعي، والاقتصادي والانغلاقات الثقافية، والتهميش والإقصاء للجماعات، والمكونات العراقية والإبادات المتبادلة والعنف الإيديولوجي وعمليات إعادة إنتاج الإخضاع والهيمنة داخل نسق السلطة السياسية، المجتمع العراقي خضع الى سلسلة من التحولات (مجموعة كبيرة من الثورات والانتفاضات والانقلابات) منذ تأسيس الكيان السياسي، ولكن (الدولة) بالمعنى الاستعاري لم تخضع الى متغيرات او اعادة بناء للنسق الوظيفي، وانما دائماً يتم اعادة بنائها على اساس نظام من التوترات المعقدة حيث نجدها دائماً وعبر التاريخ مجالا للفوضى والفوضى المضادة تتمحور حول الاستبداد والمدنية المنقسمة والنخب الدائرية والتي تتم اعادة انتاجها باستمرار، والقائمة على استنفار المخزونات التاريخية للطبقات السفلى من المجتمع لبلورة مجموعات ايديولوجية وتوسيع دائرة الصراع على الرهانات السياسية، وإلى الان لم تتم كتابة سرديات الاقصاء المتبادل بين الجماعات العراقية والعلاقات الدموية والابادات التي تمت من قبل الدولة القومية العراقية 1921- 2003 وانعكاس هذا كله على تشكل المجتمع وتحديد الوجود الموضوعي البشري وتخطيطات انماط الثقافة والهيمنة بوصفها اداة ضبط فائض القيمة الرمزية.
فرضية النزاع الديني
منذ بدايات النزاع وصفت تلك الحرب الاهلية الطائفية بكونها امتداداَ للانقسام الشيعي/السنّي في القرن السابع الميلادي بشأن الخلافة السياسية للإسلام الكلاسيكي، وهيمنة السنّة على مؤسسة الخلافة وأقصاء الشيعة أو الخط العلوي من توزيعات السلطة والثروة، فضلاً عن ذلك أن الأيديولوجية السنّية الارثوذوكسية ترى في الشيعة عناصر غريبة عن الإسلام ومنحرفين ومهرطقين حتى ظهور الدولة الوطنية في العراق وامتداداتها، جعل من الشيعة يشكلون الطبقات الدنيا في المجتمع، وهي قراءة أحادية، إذ إن اصل النزاع الشيعي/ السنّي في العصر الكلاسيكي الإسلامي، لم يكن يتعلق بالمسائل الاعتقادية، أو المسائل المتعلقة بالعبادات فقط، بل يتعلق أصلاً بالسياسية (الأمير، الإمام) فالسرديات، والأدبيات الشيعية، ترى أن الإمامة والسلطة تنحصر في خط عصبوي وجرى اقصاؤه من توريث الخلافة من قبل الجماعات المؤسسة في حين تؤكد السردية السنيّة على شرعية الخلافة، عبر هذا العمل نرى أن الخلاف كان صراع سياسياً وجرى التعبير عنه في اطار لغة دينية ومذهبية، وجاء إعادة ظهور تلك المشكلات مع التغيرات الجيوسياسية التي حدثت في إيران العام 1979، وصعود تيار (النسخة الخمينية) من الإسلام السياسي الشيعي وكانت الحرب العراقية – الإيرانية أحد تجلياتها أو الجزء الحيوي في تحجيم المد الإيراني وامتدادته في العوالم الشيعية المنتشرة في العراق، والبحرين، والسعودية، والكويت، ثم الانبعاث الشيعي الكبير والصعود الى السلطة في العراق بعد الحادث الأميركي العام 2003، وبفعل ديناميكيات الديمقراطية، إذ لعبت الديموغرافيا وصراع الهويات ادواراً معيارية في انبعاث الصراع السياسي بين الشيعة والسنّة وعلى الرغم من مشاركة سنًة العراق في العملية السياسية، فقد كان لديهم أحساس بالفقدان والخسارة الكبيرة، فهم بناة الدولة الوطنية وعسكرها، وأبناء السلطة العميقة منذ العصور الوسطى، حيث كانوا يملكون المفاصل الدقيقة فيها، أما الهوامش فكانت حصة الشيعة والكرد ويعاملون كمواطنين قيد الدرس، محكومين بسلسلة قانونية واجرائية تحد من صعودهم في هرم السلطة.
فقدان الرشد السياسي
مع انهيار سلطة البعث العراقي العام 2003، أظهر السنّة فقدان الرشد السياسي فقد شهد العراق منذ تلك اللحظة موجات من العنف، والعمليات الانتحارية وتفجير السيارات والقتل ذي الخلفيات الطائفية وخاصة ضد التجمعات الشيعية ومن ثم ظهر تنظيم القاعدة، ودولة العراق الاسلامية، ودولة العراق والشام الأسلامية (داعش) حتى إعلان دولة الخلافة الإسلامية التي مارست الإبادة ضد المختلف دينياً على وفق المدونات التراثية، إذن يعد النزاع الديني أحد التأسيسات الأيديولوجية للحرب الأهلية الطائفية بين الميليشيات الشيعية والميليشيات السنّية بتنوعاتها في العراق، ولكن يبقى هذا النزاع محكوماً بنظام القوة وتوزيع ممتلكات السلطة السياسية، والثروات والهيمنة على الرأسمال الرمزي للدولة وانتاج المعنى، فالحادث الأميركي العام 2003 حطم النظام القديم للعقد الاجتماعية بين المجتمعات العراقية، فضلاً عن ذلك أوجد نظاماً عقدياً جديداً.
جماعات وميليشيات متخيلة
سياسات الحرب الأهلية الطائفية في العراق وموجاتها وامتداداتها الراهنة، أدت إلى خلق واقع سياسي جديد عبر ظهور (جماعات متخيلة) تستقطب الأفراد عبر آليات التمثيل لكون المجتمع العراقي لا يتوفر على نظام ثقافي مستقر يستطيع بواسطته تنظيم العلاقات بين الجماعات الدينية والسياسية، ويعطل العنف التبادلي بين المكونات والتركيبات الاجتماعية، تحولت الحرب الطائفية في المجتمع إلى (عنف بنيوي) قائم على المقدس الديني الطائفي المنغلق وعلى رؤية عصبوية صلبة.
في (الثامن عشر من برومير لويس بونابرت) يبين ماركس أن البشر يصنعون تاريخهم، لكنهم لا يصنعونه كما يرغبون تماماً، لأنهم لا يقومون بذلك في ظروف يختارونها بانفسهم، بل تحت ظروف معينة يجدونها وقد انتقلت اليهم من الماضي، أن تراث الاجيال البائدة كلها، يجثم بثقله مثل كابوس على أدمغة الأحياء، إذ حالما يبدو على الناس أنهم قد انخرطوا في تغيير انفسهم، وتغيير الأشياء من حولهم تغييراً جذرياً، وفي خلق ما هو جديد تماماً خصوصاً في زمن الاضطرابات العميقة، فإنهم يستحضرون بتلهف أرواح الماضي لخدمتهم ويستعيرون منها أسماءها، وعاداتها وشعارات المعارك التي خاضوها في الماضي من أجل تقديم مشهد جديد لتاريخ العالم، لكنه يتقنع هذه المرة بقداسة الماضي، وبهذه اللغة المستعارة) حيث يتم التلاعب بالتاريخ والصراعات الأيديولوجية وفي الانساق الثقافية وفي ذاكرة النزاعات الطائفية، وتشويه واقصاء سرديات الجماعات الاخرى واحتكار سردية كلية شاملة، وتوظف الهويات الاثني- طائفية، (كادوات أيديولوجية) في اضفاء شرعية على هذه الحرب الأهلية الطائفية التي هي إنتاج التفكك المزمن للدولة القومية في العراق.
انفجار الهويات الطائفية
إذ نرى كيف يتم تشكيل وتفكك الهويات في أتون هذا الصراع الأهلي الطائفي، لكون هذه الحقبة التاريخية التي يمر بها المجتمع والدولة والافراد في العراق، تعد مرحلة الازمات الكبرى، فجميع التكوينات الطائفية والجماعات التخيلية تبحث عن هويات بديلة عن الهويات القديمة، فضلاً عن ذلك انه صراع متعدد الأبعاد ومعقد وهناك العديد من اللاعبين والمصادر السياسية (السلطة والدين والأيديولوجيا والعوامل الاقتصادية)، فمنذ تسعينيات القرن الماضي جرى تثبيت النزاع الطائفي والعشائري في طبيعة تكوين السلطة البعثية، واعادة استثماره الرمزي وألسياسي وتحويله الى أدوات للصراع الاجتماعي، فقد انشأت الدولة القومية السنّية عصبياتها في تلك الحقبة من التاريخ، ما جعل المجتمع الشيعي يبني عصبياته المضادة والدخول في دورة من الانقسامات كل هذا ادى الى ولأدة شبه دولة في العراق ما بعد العام 2003 تجمع خصائص الاستبداد، والمحاصصة، وأنماط من الشموليات الطائفية الحديثة تحرسها المليشيات وهنا نصل إلى ان الطبيعة المتشظية للمجتمع والطبقة السياسية، هي التي اشعلت الحرب الاهلية الطائفية وتحولت بعد العام 2014 الى نزاع شامل، فقد أجرت الميليشيات الشيعية، والميليشيات السنّية تعديلات جوهرية في ستراتيجياتها وتعديل الديناميات السياسية، كان الغرض من ذلك اطلاق حرب شاملة، على وفق أيديولوجية طائفية. في هذا العمل الوقائعي سوف نحاول الكشف عن أشكال الهيمنة السياسية والايديولوجية، فضلاً عن الحفر في البنى الاجتماعية والأطر السلطوية للوصول إلى أن العراق ككيان سياسي أصبح منذ العام 2003 يقع في منطقة (تنازع طائفي) ويمكننا أن نفسر هذا التصدع بين الشيعة والسنّة في المجال المجتمعي العراقي، بوصفه تنازعاً على امتلاك الرأسمال الرمزي، وإنتاج المعنى الصحيح للدين، وإن الطرف الآخر منحرف عقائدياً ويتطلب إعادة (الأسلمة) والتنازع على ممتلكات الدولة السياسية، والثروات المادية ومصادر القوة ونزاع سياسي – مجتمعي، جرى التعبير عنه في (انفجار الهويات) والتحشيد والتعبئة له على وفق المشروعية الدينية – السياسية الطائفية وذلك أن النظام السياسي الذي تأسس بعد الحادث الأميركي لم يستطع انتاج هوية جماعية تدمج داخلها المجموعات الدينية والقومية والاثنية، وهذا يمنحنا القدرة على السعي الى أن نفهم الصدع الطائفي في ضوء العوامل الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية فضلاً عن العوامل الثقافية – الدينية فالمجتمع العراقي لم يخرج حتى الان عن كونه (جماعات مخيالية) وليس مجتمعاً منظماً، فضلاً عن العوامل المتعددة لاطلاق التوترات الطائفية، حيث يشكل الخطاب الطائفي الميراث الثقافي – الديني للجماعات العراقية، فقد اتخذت الحرب الاهلية العراقية اطاراً مذهبياً لكون هذا الخطاب بالفعل يمثل التوليفة المخيالية ويقدم المبررات للنزاعات في المجتمعات التقليدية.
Yusef196161@yahoo.com