الطفل نواة تكوين مجتمع صالح او طالح ، حسب معطيات المحيط الذي يعيش فيه ومايتلقاه من تعليمات وتصرفات ارادية و لا ارادية من المقابل لتعبئة مساحته الخزنية لإستخدامها فيما بعد مع بيئته المحيطة ، فالأهل يلعبون دورهم في بناء شخصية هذا الطفل بالتربية الصحيحة والتعليم والتقويم ..الخ ، وتستمر بديهيات تكوين تلك الشخصية بإستقامة ليكون عنصراً ناجحاً فعالاً في خدمة نفسه ومجتمعه، فكيف لطفل ان ينشأ بعيداً عن هذه الدائرة السليمة ليجد نفسه في وسطٍ لا يعرف إلا العنف ، التطرف والإرهاب ؟
في بداية تكوين الدولة العثمانية تأسيس الجيش الإنكشاري ، كان يعمل هذا الجيش على اختطاف الأطفال من المناطق الأوربية القريبة بعد شن الغارات عليها بين الحين والآخر كونها (بلاد كفر) حسب زعمهم حيث يحل لهم فيها النهب ، بشراً كان أم متاعا ، كانوا يأتون بعد كل غارة بعدد لابأس به من الأطفال المسيحيين يسمونهم بـ (المقطوفين)* فيودعونهم في مدارس من اجل تنشئتهم نشأة (اسلامية عسكرية) يكون الولاء فيها للدولة العثمانية فقط ، لتبدأ من هنا المسيرة بالتأثير في الطفل والتأثير به ليصبح كالآلة المطاوعة لتنفيذ مآربهم في بث الرعب في نفوس من جاورهم لإتساع النفوذ والسيطرة على العالم اجمع شيئاً فشيئاً .. ربما ! ..
ربما فكرة خطف الأطفال بدت كلقاح تنقله الرياح في انحاء العالم، لكن هذه المرة لم يكن لقاحاً للحياة بل كان لقاحاً للموت المرعب ، ففي شمال اوغندا التي تقع شرق افريقيا كانت المعارك مستمرة لعقدين تقريبا (1986 – 2006 ) بين (جيش الرب الأوغندي) والحكومة الاوغندية للإطاحة بالأخيرة واقامة دولة وحكم يقومان على (الوصايا العشرة الإنجيلية) ، كان جيش الرب عنواناً مأساوياً في المنطقة كما سالفها ولاحقها من الأمم ، إذ يَخطف الأطفال ذكوراً واناثا هو الآخر، ويودعهم مخابئ عناصره المتمردة ، ويقوم بتعليم الذكور منهم اساليب القتال بعد عملية غسل الأدمغة وتعبأتها بأفكاره ليمارسوا اساليب القتل والذبح بحق عائلات مناطقهم ومن ضمنها عائلات الأطفال انفسهم ، أما الإناث فيجبرن على ان يكنّ زوجات لقادة الجيش لإنجاب الأطفال ليكملوا مسيرة جيش الرب ولإعادة انتاج الحروب مع المناطق المجاورة لإحتلالها و التوسع الى مابعدها ثم كما اخوات افكارها .. حكم العالم ..
كل الأفكار التوسعية لم تخلُ من الإرهاب مبَررَة من اصحابها على انها (الخلاص) لهذا العالم ، كبش فدائها دائما الناس الآمنين .
فلقاح الموت لاح فئة اخرى فاقت كل ارهاب التأريخ دموية ، نعم عزيزي القارئ (داعش) الإرهابي لاغيره ، عندما هاجمت عناصره الإرهابية بعض المدن العراقية وعاثت في أرضها فسادا بالسيطرة عليها لحلم المستقبل الخرافي (فتح روما)!!! ، كان للأطفال نصيباً لايستهان به من تلك الزوبعة على مدار تلك السنوات من ترسيخ الأقوال والأفعال في اذهان الأطفال وان لم ينخرطوا في صفوفهم ، فالشوارع كفيلة برسم صور انتشار عناصرهم و نقاطهم الإعلامية ورسومهم وشعاراتهم على جدران المدن ، مدينة الموصل خير شاهد في تلك الحقبة ، لكن سرعان ما اعلن تحرير المدن وطردهم شر طردة تقودهم قوافل الخزي والعار إما الى السجون او الى جهنم على ايدي الأبطال سرعان ما عادت الحياة وبدأت المدارس تمارس دورها في تثقيف التلاميذ والطلاب واعادة برمجة العقول نحو السلم ونبذ العنف ومشتقاته مع دور الأهالي في ذلك وبنسبة كبيرة كان مستوى الإستجابة مفرح .
لكن هناك ممن لم يحالفه القدر بأن يكون في كنف عائلته ومدينته واي ملاذ آمن ، ولم يذق حلاوة التحرير و التحرر من تلك المشاهد المميتة ، انتشل من بين ذراعي امه ليكون شبلاً من (اشبال الخلافة) المزعومة قسرا، يملأ بالعدائية لأبناء جلدته اولاً ثم العالمين ثانياً ان لم يبايعوا (الخليفة) وينعتهم بـ (الكفار) ، ذلك هو الطفل الإيزيدي ..
منذ التأريخ المشؤوم 3/8/2014 يوم سيطرة داعش الإرهابي على مدينة سنجار غربي محافظة نينوى – العراق فُقِد المئات من الأطفال الايزيديين مع عوائلهم ناهيك عن الآلاف الآخرين من الرجال والنساء الذين مازالوا اسرى لدى التنظيم الإرهابي مجهولي المصير ، واليوم بعد تحرير آخر جيب لداعش في الباغوز – سوريا واشراق شمس الحرية على اغلب المعتقلين والمخطوفين تم تحرير عدداً من اطفال إيزيديين وهم الأغلبية وغير إيزيديين كما عرضت بعض القنوات في لقاءاتها معهم ، فمنهم من مدينة تلعفر ومنهم من داخل مدينة الموصل مع اطفال سنجار، وقد عُبِؤوا بسموم الفكر المتطرف بدون حول منهم ولاقوة ، اوراق ناصعة البياض جاهزة للكتابة عليها بما تشتهي انفس الإرهاب النتنة ، دججوهم بدروس في عقيدة داعش لأكثر من سنة ثم الإرسال الى معسكرات التدريب ليتقنوا جميع الأسلحة ابتداءً من اصغر سلاح الى اكبره كالمدافع والدبابات فضلاً عن قيادة العجلات بأنواعها حتى المسرفة منها ،حراسات ليلية على المقرات ، الطفل يبلغ سن الخامسة عشر يكون مهيئاً لقيادة (خلية اشبال) في معركة حقيقية كـ (أمير صغير) ، تدربوا على القتل بشتى الطرق بدءً بإطلاق الرصاص الحي على الدمى او نحرها بالسكين الى التنفيذ الفعلي بالمعتقلين كما اوضحت اصداراتهم .
اليوم هؤلاء الأطفال حُرروا واصبحوا بين اهليهم ان كانوا اهليهم على قيد الحياة او لدى اقاربهم ان كان العكس في مخيمات النزوح ، دون تأهيل ، دون عناية ، دون شعور بالخطر الذي يلم بالأطفال انفسهم وتأثيرهم على الأطفال الآخرين المحيطين بهم ، لا يخلو اجتماع هؤلاء الأطفال مع اقرانهم من الكلام عن حياتهم لدى داعش وعن الذي تعلموه لأنهم لم يعيشوا طفولتهم الحقيقية والسليمة ليكَوِنوا قصصاً بريئة للتحدث بها ، وحتما سيلقون آذاناً صاغية جيدة لهم ، فانتبهوا..!!
تلك عقيدة وذاكرة سوداء يصعب ازالتها بسهولة دون مختصين محليين كانوا او دوليين للتأهيل ، والأهالي ورجال الدين من مختلف الأديان لهم دورهم المهم في التوعية ايضا ، ولكن بجدولة تتماشى مع استيعاب ذلك الطفل ومراعاة الفئات العمرية والفروق الفردية ، فاللقاءات الخجولة من قبل الشخصيات والمنظمات الإنسانية للحصول على (سبق) لن تجدي نفعاً ما لم يتم التحرك بجدية وانقاذ مستقبل هؤلاء الأطفال النفسي على اقل تقدير .
هؤلاء اطفالنا أمانة في اعناق الجميع وحري بأن يلعب الكل دور الأب والأم لهم وأن يخرجهم من بودقة تلك السنين العجاف الى وجهة نيرة مستقيمة اساسها المحبة وبنائها السلام لنعيد بهم .. لقاح الحياة .
ايهاب عنان سنجاري
كاتب ومستشار اعلامي
E-mail : ehab_alsinjary@yahoo.com