ضمن سلسلة كوارث العراق المزمنة ومآسيه المرعبة، شهدت الموصل، أخيرا، كارثة جديدة أحدثت حزناً عميقاً وجرحاً غائراً في النفوس، وأوجدت احتقاناً اجتماعياً لا يبارَى، ضمن احتقانات المجتمع ضدّ السلطتين، المحلية والمركزية، فضلاً عن وحدة الخيرين والطيبين إزاء البشاعة وصنّاعها من السماسرة الجشعين في التي يسمّونها “المكاتب الاقتصادية”. ومنها مكتب الجزيرة السياحية في منطقة الغابات في الموصل، وكان المكتب ينقل الناس، ضمن واحدةٍ من عبّاراته، إلى الجزيرة النهرية، إذ انقلبت العبّارة بالناس التي عليها في نهر دجلة، وهي تحمل أكثر من مائتي راكب، من نسوة وأطفال وشباب، ليذهب أكثر من مائة قتيل غرقا وأربعين مفقودا، مع إنقاذ الأهالي ما أمكن إنقاذهم من مياه دجلة الطاغية في ذلك اليوم المشؤوم، إذ لم تمتلك الشرطة النهرية أي زورق إنقاذ.
تتكّتم الجهات الرسمية على أسماء المسؤولين الحقيقيين، والجهة المستثمرة وراء الكارثة، ما يثير تساؤلاتٍ عن وجود جريمةٍ مع سبق الإصرار والترصّد! ولكن جرى اتهام المحافظ ونوابه بالمسؤولية، على الرغم من الشكاوى ضده، كونه أحد أشنع المتهمين بالفساد، مع رهطه المحسوبين على فصيلٍ من المليشيات، إذ أبلغ المحافظ على أسرار “الحشد الشعبي” المشارك في عقد الاستثمار بطريقة غير قانونية. وبدا المحافظ رفقة رئيس الوزراء، في أثناء تفقّده الضحايا في الطب العدلي، وبدا غير مبالٍ بالكارثة. ولما أبلغ رئيس الوزراء البرلمان بمناقشة تبديل هذا المحافظ، هرب الأخير نحو أربيل، وبلغ الهياج الجمعي داخل الموصل أقصى مداه من جرّاء الحزن والغضب على السلطتين، المحلية والمركزية، إذ تهاونت كل منهما في إعمار المدينة من انسحاقها، وإنقاذ آلاف الناس من المخيمات، وعدم تقديم مستحقات الموصل المالية، وعدم الاهتمام بمرافقها وجسورها وأسواقها ومستشفياتها.. وقد تبجّح المحافظ، نوفل العاقوب، أنه سيمتثل لأي أمر يصدر من المرجع الشيعي، السيستاني، وكأنه موظف عند الأخير، وهو ليس من أتباعه! وقد تواترت الأخبار عن وصول بعض رموز الفساد إلى هذا المحافظ لمساومته بإسقاط التهم عنه في حال تكتم على القوى الشريرة في الموصل.
وقد تبيّن من المحافظ أن وراء الكارثة مستثمرين فاسدين، ينتمون لفصيل عصائب أهل الحق، المسلح. ولما انكشفت الحقيقة، هدّد أحد عناصر الفصيل بأن العصائب لا تخضع للحساب والمساءلة، وتحدى العالم بأن المكاتب لن تخرج من الموصل. والسؤال: من يقف وراء هذه العصائب؟ من أين رضع هؤلاء كل هذه السموم؟ أين هي الحكومة المركزية إذن؟ أين دور القضاء؟ أين البرلمان؟ لماذا يتكتمون على الجريمة؟ لماذا لم تجر أية تحقيقات مباشرة وفي الحال؟ لماذا لم يُحَل أحد إلى القضاء؟ هنا، ينبغي على أهل الموصل إدراك حجم الكارثة التي لا تقتصر على مجرد عبّارة غرقت في دجلة، بل معرفة من يسيطر عليهم سيطرة عمياء، ومعرفة حجم الجريمة التاريخية التي تُرتكب بحق الموصل والعراق كله.
ليست هذه الكارثة نهاية المطاف، بل ستعقبها سلسلة كوارث، ما دامت الأمور كلها بأيدي إرهابيين مليشاويين لهم أجندتهم الخفية في تدمير الموصل وبقية المحافظات، وعملهم على تغيير الديمغرافية السكانية، وإلا ماذا نفسّر بقاء الحشد الشعبي في الموصل وسيطرته أمنياً واقتصادياً واستثمارياً، وإعاقته كلّ المشروعات الحيّة والضرورية.
كم هذه الرئاسات الثلاث (رؤساء الجمهورية والحكومة والبرلمان) في العراق ساذجة وغير مسؤولة، ولا تعي حجم الكارثة، إذ تخرج الرئاسات، بعد اجتماع ثلاثي عقدته يوم 22/3/ 2019 بتوصياتٍ هزيلةٍ، منها تعويض أهالي المنكوبين بمبالغ نقدية، وتشكيل لجنة تحقيق تنظر في الأمر! يا للتعاسة، هل تعوّض الأرواح المفقودة بمجرّد مال.. أهذه قيمة العراقيين لديكم؟ وهل الكارثة تحقق فيها لجنةٌ يعرف العالم كلّه مصيرها، كبقية اللجان الأخرى في كوارث أخرى حدثت في العراق، وأهمها جريمة سقوط الموصل بأيدي تنظيم (داعش) في عام 2014؟ المطلوب، يا قادة البلاد، إحالة المتهمين باقتراف الجرائم والفساد مباشرة إلى القضاء ومحاكمتهم، وفق الأصول القضائية، لينال من تثبت عليهم الاتهامات جزاءهم العادل، ومعهم المحافظ وأعوانه المتهّمون بالفساد، وعلاقته بالسماسرة، وبيعه “سكراب المدينة” إلى مستثمرين في “الحشد الشعبي”. وأيضاً إيقاف عمل القوّات الأمنية جميعها، كونها لا تقوم بواجباتها، إذ حصل تفجير إرهابي كبير قبل كارثة العبّارة، راح ضحيته العشرات. مطالبات الأهالي اليوم تقوم على سحب “الحشد الشعبي” من داخل الموصل، وإيقاف إجراءاته التعسّفية ضدّ أهالي الموصل، وإعلان حكم طوارئ حتى تنفيذ القانون، والبدء بحلّ مشكلات الموصل المتفاقمة، والبدء بإعمارها على نحو إنساني، ورفع مئات الجثث المتيبّسة والمتعفنّة من تحت أنقاض المدينة القديمة، وإعمار المستشفيات والجسور وكلّ المرافق الحيوية، وحلّ مشكلة النازحين.. إلى غير هذه كلها من المشكلات التي يعاني منها أهالي الموصل.
يسجّل أهالي مدينة الموصل، اليوم، موقفاً مضاداً ومعارضاً ضدّ كلّ السياسات التي تريد تمرير أجندة خارجية وطائفيّة، وهم يطالبون بالثأر لكرامتهم المهدورة وأرواح أبنائهم وبناتهم، وأن يقفوا ضدّ السياسات الحكومية إزاءهم، فضلاَ عن معاناتهم اليومية والمعيشية، وأنهم قد تعلّموا كثيراَ من سياسات الحكومات المتعاقبة تجاههم، ولم يعودوا يقبلون أيّ رضوخ جماهيري، أو كسر إرادة، أو قتل بشر، أو إفناء المدينة من خلال مكاتب اقتصادية، أو هيمنة حشود شعبوية. وهم لا يطالبون الآخر بإرسال التعازي والمواساة، بقدر ما يهمّهم أن يكونوا أسياد أنفسهم في بلد ممّزق، ومؤسساته مهترئة، وسلطاته مخترقة، ومجتمعه لا يعرف الانسجام، وسلطاته تتكتّم على الكوارث وفق أجنداتٍ مثيرة للشبهات، وحكومة محليّة لها تواطؤها مع مراكز قوى عميلة ومليشيات فاسدة، من غير أهل نينوى..
وأخيرا، إن نجحت الموصل في فرض إرادتها، سيكون ذلك مفتاحاً لكلّ العراقيين بخلاصهم من الفساد والفاسدين، ورحيل الطارئين النهائي. ولكنني أشك في ذلك، نظراً إلى حجم المؤامرة، وبطش العدوان، واهتراء السلطات، وهزال الحكومة، وبشاعة من يقف مع هؤلاء.. رائع هو كسر أهل الموصل لصمتهم ، فقد عيل صبرهم .. رائع هو توحدّهم ضدّ المكاتب الاقتصادية وعصاباتها الشريرة ، وضد السماسرة من أولاد الطابور الخامس .. السؤال: متى يدرك الشعب العراقي المأساة التاريخية وكيفية سعيه في خلاصه من مصادرها الخبيثة ؟
نشرت على صحيفة العربي الجديد / لندن اليوم الثلاثاء 26 آذار / مارس 2019 ، ويعاد نشرها على الموقع الرسمي للدكتور سيار الجميل
http://sayyaraljamil.com/