و فيما كنا نسير تذكّرت حادثة وقعت لي آنذاك اثناء سير تلك المفرزة، حين سقطت مغشياً عليّ بسبب الحمىّ العالية التي كنت اعاني منها اثر اصابتيبالتهاب قصبات حاد تطوّر سريعاً بسبب البرد، و كيف تركني رفاقنا لارتاح في ره شمال ـ بيت شعر ـ و تركوا معي رفيقين مسلّحين، على ان يلتقي الجميع بعد ان اتحسن في قرية سيلوه الحدودية الإيرانية . و تذكّرتكيف نمت هناك نوماً مضطرباً بسبب الحمى وترائى لي و انا لا اصدّق . . اني سمعت صوت ربّة العائلة تنادي ابنتها وهي تصيح :
ـ اجلبي النفط من الكاني !! . . بهذا الدلو !! (1)
و اني استيقظت و وجدت نفسي غارقاً بعرقيالذي كان يتصبب و انا مكسواً بدهن الطعام وملفوفاً بفروة سميكة عملت و اشارت بها ربة البيت . . كانت الصوبة (2) حمراء كالجمر، الاّ اني لم ارى حطباً قربها كالعادة !! بل كان محيط الصوبة نظيفاً تفوح منه رائحة كالنفط، وضحكت من فكرة انهم يستخدمون النفط للتدفئة هناك، فمن اين يجلبوه وكيف ؟
وقلّبت فكري حينها في صياح المرأة ” اجلبي النفط من الكاني (عين الماء) ؟! . . هل يوجد النفط في المياه هنا ايضاً؟! و اين ؟ هنا في سقف عالمنا، بين الثلج ؟!
عندما استيقظت عند الفجر نشيطاً معافى، وذهبتمتدثراً بالفروة لقضاء حاجة، فخرجت من جهة الرشمال التي خصصها اهل البيت للضيوف . . كانت الريح ثلجية باردة وكان رذاذ من مطر خفيف ينهمر وسط معمعة خافته وثغاء خراف، وشاهدت انواراً بعيدة تتلألأ بمجاميع وسط ذلك الظلام الذي كان لايزال مخيّماً في السهول الواقعة في الاسفل و الذي زادته الغيوم المرابطة هناك، و قلت مع نفسي : هذه “اشنوية” (3) وتلك “خانة” التي كانت ابعد .
واثارت انتباهي هناك آثار اقدام شكّلت شبه ممر، فسرت عليه الى نهايته حتى وجدت نفسي امام بركة صغيرة لسائل داكن مسود . . بركة تحيط بها حشائش خشنه كالثيّل ايضاً، وكان موضوعاً جنبها صفيحتين مرتبتين بهيئة دلوين، كانتا مملوئتين بسائل لزج القوام كما بدا، تنبعث منه رائحة النفط الممزوجة برائحة الطين . . وتأكدت بعد ذلك من ان الذي كان يسيل من تلك العين والذي استعملته زوجة الراعي لاشعال الصوبة، هو النفط الذي يخرج ويسيل من الأرض بشكل طبيعي في بلادنا، في واحدة من اعاجيب بلاد النفط، و كررتفي نفسي انه ينبع من تلقاء ذاته لايحتاج لا الى حفّارات و لا اجهزة و لا اخصائيين كبار لايُعرف مدى صدقهم من كذبهم.
. . . .
. . . .
و فيما كنت افكّر بمفرزة سيلوه تلك و النفط و الحدود . . استمرينا في كيله شين بصعود جبل ثلجي جديد الى قمته لنصل الى سطح كبير ثلجي يلوح بقفره و سطوع الشمس عليه و انفتاحه على السماء و كأنه صحراء ملحية للوهلة الأولى . . الاّ ان برودة الريح كانت تذكّر دوماً انها ثلوج ناصعة البياض تهفهف عليها الرياح و كأنما لتعيد استوائها او بنائها و رونقها . . انها شئ يذكّر بالصحراء ايضاً، لأن ماء ثلجها كأي ماء الثلج الطبيعي لايروي العطش . .
لم نمرّ بقرية و لم نشاهد قرى او علامة حياة في الطريق و لم نصادف نبعاً و لمسافات طويلة . . و بقي العديد من الأسئلة مفتوحاً، هل دُمّرت القرى هنا بفعل الطبيعة ام انها هُجّرت ؟؟ لأننا شاهدنا دلائل لها من ابنية خربة شاخصة في منعطفات . . بل و في احد المواقع كان هناك نبع ماء مبني و مثبّت باحجار سميكة كبيرة كأنها الواح من المرمر، و يتصل بساحة حجرية واسعة تلتقي عندها طرقات حجرية ايضاً . .
و مررنا بمناطق كانت الغيوم تلتف حولنا فيها كأنها ضباب يمنع الرؤية . . غيوم تملأ الأخاديد التي سرنا فيها و نحن لانشعر و كأنما لم تشرق الشمس بعد . . و بعد ان خرجنا من مناطق الغيوم رأينا ان الشمس صارت تتجه نحو السمت في تلك المناطق الخالية ليس من البشر فحسب، و انما الخالية من الحيوان ايضاً في صمت مطبق و ثلج طاغيين . .
و فجأة شاهدنا على بعد طيوراً كبيرة كاسرة تشبه النسور ذوات الأعناق العارية، كانت متجمعة في مكان يطل على ساحة معركة ضارية بين طائرين منهما، تطاير فيها الريش و الثلج . . و لم افهم لماذا لا تبالي الطيور المتجمعة بما كان يجري بين الطيرين العملاقين رغم انها كانت تشاهدهما جيداً، و لكن لاحركة منها، و لاهروب او هجوم و انما كانت الطيور تكتفي بالنظر اليهما و هي تتابع بكل انتباه و يقظة الصراع الجاري بين الطائرين، في معركة بدا و كأنها لا تنتهي بسهولة، خمّن البعض مايجري فيها بكونه صراعاً كالصراع بين حصانين على قيادة القطيع . .
و على كيله شين شعرنا بحرقة في الوجوه . . حيث بدأ الجلد و كأنه يحترق تحت ضربات البرد القاسي الذي يسبب تيبس البشرة، و ضربات الشمس القوية التي صارت تواجهنا، حتى صار من الصعوبة تحريك الحواجب و خاصة عندما تهب رياح تتسبب بتشقق الجلد المؤلم و كأنه يتلقى مقذوفات صغيرة جارحة، اضافة الى تقرح جلد اليدين لمن لم يلبس كفوفاً. و ضحكنا و نحن ننظر الى بعضنا لبعض لأن وجوههنااسوَدّت، و شعرنا بالحاجة الى مراهم الجلد و الى نظارات داكنة، لأن قوة الشمس و انعكاسها القوي على الثلج و لمعانه الحاد، صارت لاتطيقها العيون . .
و بينما توقفنا لأتفقّد الجرحى في احدى المرّات، صاح الدليل من فوق مرتفع :
ـ لاتقفوا !! اتبعوني بلا توقف . . بسرعة !! بسرعة !!
و صاح حمه هركي فوراً و بوجه قاسي عبوس :
ـ تحركوا تحركوا بسرعة !!
و اضاف لي بصوت اجش :
ـ دكتور !! هذه الغيمة الصغيرة هي اسوأ علامة !! ستهب عواصف ثلجية ممكن ان تدفننا جميعاً هنا في الثلج !! و اشار اليها و صاح :
ـ اسرع اسرع . . . !!!
و بينما التفتّ بسرعة لأشاهد الغيمة و اسرع صاعداً مع الآخرين، لمحت غيمة صغيرة شبه ثابتة، لم ادرك ماهية خطورتها . . اسرعنا جميعاً نحو المرتفع حيث يقف الدليل، الجرحى على حيواناتهم و الآخرون ركضاً رغم كلّ التعب و الانهاك، حتى وصلنا قمة المرتفع و اخذنا استراحة قصيرة تماماً للتنفس و واصلنا صعود مرتفع ثاني بهمة عالية و بهدوء و حتى طرف رابية ذات سطح جليدي قاسي هناك . . حيث قال الدليل :
ـ هنا تستطيعون الراحة . .
و فيما كانوا يحاولون الجلوس على قطعة من النايلون يحملوها معهم، صاح الجريح ابو آذار :
ـ شوفوا شوفوا هناك . . !!
استدار الجميع الى حيث اشار . . و رأوا على البعد ما يشبه الإعصار محاطاً بهالة هائلة مضببة و كأن هناك مخاض عنيف لصيرورة جديدة في المنطقة ، اعصار يتحرك منحرفا من امامنا بعيدا عنّا متجها شرقاً . . كان يفترس ما امامه من تشكيلات جليدية في اماكن و يترك خلفه قبباً و جبالاً جديدة في اماكن اخرى جديدة . . و شاهدنا على البعد انهيارات ثلجية مستمرة تبعث على الرهبة . . اذ ما الذي يمنع من انهيار المنطقة التي يسيرون عليها ؟؟ السؤال الذي اجاب عليه ابو داود بسؤاله و ابتسامته :
” لماذا وجود دليل معنا اذن ؟ ” !!
و اضاف حمه هركي بادب :
ـ لأني من عشائر المنطقة . . تدربنا منذ صغرنا على هذاالطريق لأنه من طرق الكويستان (4) في اعالي جبال كيله شين التي ندوس عليها الآن، حيث تذهب عشائرنا في الصيف سنوياً نحو المراعي هناك بعيداً عن الحر و الجفاف في السهول. و كنت منتبهاً الى حركة دليلنا الذي سبقنا الى تلك النقطة و الزاوية بالضبط لتقدير الوضع في منتصف النهار. حيث ان ظهور مثل تلك الغيمة شبه المستقرة مهما كانت صغيرة في المنطقة في هذا الوقت، يعني انها نذير بهبوب عاصفة لا تُذر و لاتُبقي، و لابد و انها ستكون مصحوبة بانهيارات ثلجية، الإنهيارات التي طمرت المئات و المئات تحتها منذ التأريخ القديم، لقد طمرت العام الفائت لوحده اكثر من مئة من الأهالي مع حيواناتهم اضافة لعدد من البيشمركة . .
بعد ان استرحنا قليلاً بالجلوس على قطعة من النايلون على دكّة صخرية جفّت بتأثير حرارة الشمس، حيث شربنا شاياً من ترمسي حمه هيركي الذي مازال دافئاً، و اكلنا قليلاً مما حملنا، و دخّنا مسترخين قليلاً تحت الشمس . . و بعد ان اطمأنيت على حال الجرحى، عدلنا ملابسهم و احزمتهم و ابتدأنا بالسير . .
كان الطريق يتّجه الان بانحدارات كبيرة نحو الأسفل، فبعد مسافة من بقعة متموجة . . بدأنا بالنزول نحو وديان عميقة و بدت المنطقة المحيطة رطبة بتأثير امطار سقطت حديثاً و اذابت اجزاءً من الجليد في ذلك الجانب من الجبال . . و بدأت تلوح اسفلنا مروجٌ خضراء اخذت تظهر فيها سجادات الربيع المزهرة المتنوعة الألوان . .
حتى صار الطريق منحدراً بشكل كبير، الأمر الذي اقلقني و اخذت اتلفّت لمعاينة احوال الجرحى و خاصة يوسف هركي و ابو آذار، و اطمأنيت و انا اراهم ممسكين بقوة و تركيز بمقدمة سروجهم . . فيما بدأ يلوح لنا في الأسفل شريطاً فضياً ملتوياً اخذ يزداد وضوحاً، انه نهر .
. . . .
. . . .
و في اثناء الكتابة عن ذلك النزول الشاق . . تذكّرتقافلة جرحى اقتتال الأخوة في نيرجين، التي كنت مسؤولها حين سُدّت امامنا كل الطرق فيها، و حين كنّا ننزل من جبل سفيّن من جهته الشديدة الإنحدار لأنها الاكثر اماناً من حيث الواقع العسكري لربايا السلطة، وكنّا متّجهين الى اطراف قرية نازنين، حين تأملت بقلق حالة الجرحى الخطرين الذين استطعت انقاذ حياتهم في سهل اربيل، و خاصة النصير البطل فاخر (5) المصاب بكسر خطير في عظم الفخذ جهة رأسه بسبب اطلاقة بندقية برنو و استطعب بصعوبة ايقاف نزيفه، ومام بايز (6) المصاب بشظية في صدره، استقرت على جدار القلب . . حين كنا ننزل و الجرحى على حيواناتهم بسرعة كبيرة في موقع غير مطروق سابقاً، تحت وابل قصف مدفعية الربايا الحكومية و دوشكاتها و نحن نحسب الف حساب لإحتمالات وجود كمائن على جانبي الطريق بسبب حرب الأخوة . .
و تذكّرت كيف كنت حانقاً طوال الطريق، قبل نزولنا المنحدر الخطرعلى ملتحقين جدد آنذاك كانوا يتصورون الحال و كاننا في نزهة، و ليس بمهمة خطرة تتضمن نقل جرحى مخطرين في النهار امام مرمى الربايا الحكومية، و يتربص بهم مقاتلون من منظمة بيشمركة شقيقة ابتدأت حرباً ضدّهم . . فقد كانوا يتحدثون عن افلام برجيت باردو و مارلين مونرو و عن اللقطات الأكثر جاذبية لهما ، فيما كانوا يكرّزون حب الرقي المحمص و يبصقون قشوره على طول الطريق، محدثين ضجة كبيرة شوشت على اصغائي و المرافقين لما حولنا، رغم محاولات الأقدم اسكاتهم لمرّات . . حتى نهرهم بشدة بأن ينتبهوا على الطريق لأن الجميع معرضون للقتل، فجمدوا من المفاجأة ؟!
. . . .
. . . .
كنا ننزل من جبال كيله شين ـ نحو وديان كأنها من عالم آخر، حيث كان الربيع في الوديان مزدهراً . و مرّينا برعاة بقر ببنطلونات جينز و قبعات كما في الأفلام الأميركية . . قيل انهم مسيحيون، و ان القرى المحيطة هناك هي قرى مسيحية، و كررت مع نفسي السؤال الذي لم القَ له جواب ” لماذا قراهم انظف من قرانا . . و قرآننا و احاديث الرسول الأكرم كلّها تشدد على النظافة ” ؟!
بعد ان اجتزنا المروج الخضر التي كانت مجاميع كثيرة من البقر ترعى فيها، و الذي استغرق اكثر من ساعة . . عبرنا قنطرة حجرية قيل انها جسر نهر ” غادار” (7) الشهير في المنطقة بكونه اطول انهارها . . و استمرينا داخلين مدينة اشنوية الخضراء الجميلة، و اجتزنا عدداً من الطرق الى ان وصلنا الى مقر بيشمركة الحزب الديمقراطي الكوردستاني ـ حدك في اشنوية.
كانت الساعة الثانية بعد الظهر عندما وصلنا المقر،و فات علينا ان اليوم كان يوم جمعة، و ان المقر يكون في العادة مغلقاً . . الاّ ان الخفراء فتحوا الباب و ادخلونا الى الغرف المفروشة كي نستريح في ذلك المكان الدافئ، و قد زادوا من تدفئته باشعالهم اكثر من صوبة فيه . و شعر الجميع كأنما لو انهم قدموا من عالم آخر . . و فيما كان افراد المفرزة يغتسلون و يرقدون على ظهورهم في ذلك المكان الدافئ، انشغلت بفحص جميع الجرحى خوفا من نزيف جديد و تسكين من احتاج الى مسكّن، و قمت بتعليق مغذي جديد للجريح يوسف مضافاً اليه المانيتول لتنظيم الضغط و النبض، و جرع الانتي بايوتك الاصولية، بعد الاهتزازات القوية لذلك النزول من كيله شين .
بعد ان نام قسم و رقد قسم آخر، جلسنا و شربنا الشاي الطازج الذي أُعدّ لنا، و اكل الجرحى طعاماً خفيفاً بناءً على توصيتي لأنهم يتهيأون للذهاب الى المستشفى حيث سيقوم الأطباء هناك بفحصهم وفق الاجهزة المتوفرة و تقرير مايجب عمله معهم. و قد ارسلنا مقر اشنوية بباصين صغيرين مع مرافق الى مستشفى رضائية حيث انتظرنا معتمد حدك هناك، كاك مجيد . . الذي قام بالإجراءات الرسمية الأصولية لإدخالهم و بضمنهم يوسف هيركي الى المستشفى وفق قرارات الأطباء هناك، و قد حُدد لبيشمركة المفرزة مكان للراحة في مقرات قيادة حدك في راجان ، ثم قام المعتمد بترتيب سفر الجرحى من سرية روستي المرسلين الى طهران ، و ادخال الآخرين الى مستشفى رضائية . .
استغرب رئيس الردهة الجراحية الإيراني من ان الفلاح الكوردي الواقف عند باب غرفته في المستشفى يتكلّم الإنكليزية، و زاد استغرابه بشكل كبير من ان ذلك الفلاح بقمصلته المهترئة هو الذي قام بعملية استخراج الشظية الصاروخية من دماغ الجريح يوسف هركي و صار مفاجأة هائلة !! خلّصه منها و هدّئه كاك مجيد بتوضيحاته و بأثبات شظية الصاروخ التي اخرجتها من جيبي و قدّمتها لطبيب الردهة ليرى حجمها و مادتها و شكلها ليستطيع تكوين تصوّر اولي حول الإصابة يساعد فحصه السريري الابتدائي لتقدير ماهية حجم الإصابة و للفحوصات الشعاعية و المختبرية الضرورية و بالتالي للتوصل الى تقرير ما اذا كانت مستشفى رضائية قادرة على القيام بالعلاج ام لا ، ام كيف .
بعد ان اتصل رئيس الردهة الجراحية بالرئيس العام لقسمه و تفاهم معه تليفونياً عن كيفية التصرف مع الجريح يوسف هركي، حيّاني رئيس الردهة و قادني الى جناح اقامة الرئيس العام لقسم الجراحة في المستشفى لأرتاح فيها، و جلب لي مناشف و سيت داخلي للنوم و اطلعني على تفاصيل الجناح الذي توفرفيه حمام و انواع الأطعمة و المشروبات الغازية، طالباً منيّ الهدوء او الاستلقاء و النوم لأن من المحتمل ان يكون امامي شغل متعب .
بعد ان اخذت حماماً و ابدلت ملابسي و اكلتقليلاً مما موجود، ذهبت في سبات نوم عميق، ايقظني منه رئيس الردهة في حدود السابعة مساءً طالباً منيبرجاء، اعداد شئ لعقد سيمينار مع اطباء قسم الجراحة في المستشفى حول عملية الدماغ التي قمت بها و ظروفها، و الأدوات و المواد الطبية المستعملة، و ان اعدّ تقريراً طبياً بالأنكليزية بذلك، لأرساله الى بروفيسور مستشفى الجراحة العصبية المركزي في طهران، بناءً على طلبه .
و بعد السمينار وسط دهشة الاطباء الحاضرين و كثرة استفساراتهم . . اعددت التقرير الطبي للجريح يوسف بالإنكليزية و ارسل في نفس الوقت بالفاكس الى البروفيسور في طهران، الذي كلّمني بعدئذ تلفونياً من هناك و كان الحديث بالانكليزية . . ثم عاد و اتصل بي مرة اخرى و ثمّنني على ما قمت به و اخبرني بانه سيرسل تقريرا طبيا بذلك التثمين الى مستشفى رضائية وفق الطريق الحكومي الأصولي .
استيقظت في الصباح الباكر في غرفة رئيس قسم الجراحة . . على صوت ضجة كبيرة في حدائق المستشفى الأمامية . . و شاهدت من الشباك المئات من الرجال و النساء و الأطفال من افراد العشائر امتلأت بهم حدائق المستشفى الأمامية الفسيحة، و لم افهم مالذي يحدث هناك . و بعد قليل جاء اليّ كاك مجيد و قال، انهم من عشيرة هركي جاءوا للسلام على يوسف هركي و عليك لإنقاذك حياته، و كان اربعة من الكهول خلفه سلّموا عليّ بحرارة عالية و قرأ احدهم عليّ تعاويذاً ، و خرجت الى البلكون لأحييّ ابناء العشيرة، كما اقترح كاك مجيد .
و بعد اجراء الفحوصات المختبرية الضرورية بالأجهزة المتوفرة في المستشفى باشراف بروفسور طهران، و التي استغرقت يومين، نظّم كاك مجيد ارسال يوسف هيركي مع مرافقين من اقاربه الى مستشفى بروفسور الجراحة العصبية في طهران و فق توصيته . . و قد تأثرت كثيراً بكلمات الامتنان و الوداع التي قالها لي يوسف هيركي و هو يودّعني، و توديع محمد هركي الحار .
ثم ذهبت صحبة كاك مجيد بسيارة الباص الصغيرة العائدة لمقر البارت في اشنوية، الى رازان، حيث مقر قيادة الحزب الديمقراطي الكوردستاني العراقي ـ حدك . . و قد استقبلني هناك الفقيد فلك الدين كاكائي مسؤول المكتب الإعلامي للبارتي آنذاك، الذي رحّب بي بحرارة و دعاني الى زيارة قسم الإعلام هناك للتعارف .
و كان قسم الاعلام متطوراً فعلاً ، بما فيه من اجهزة اتصال، و اجهزة طباعية حديثة و ارشيفات متنوعة كتابية و صوتية، و جلسنا هناك متناولين الشاي مع اكل خفيف، و دارت نقاشات متنوعة عن دور الإعلام و ماهيته، و التقيت هناك بالشخصية الكوردية الفقيد عزيز عقراوي الذي كان مشغولاً باكمال و طبع اول معجم كوردي قام بتأليفه، ثم دلّه كاك فلك الدين على غرفة هناك ليرتاح فيها، و ليقرأ عدد من صحف و مطبوعات عربية حديثة متنوعة متوفرة هناك .
فقرأت هناك عدداً جديداً من مجلة ” الهدف الفلسطينية” احتوى على ملف كامل مزوّد بصور هامة عن معركة “سي كاني ” ضد قطعان السلطة الدموية التي حصلت قبل شهور بقيادة الشهيد ” مام كاويس ” آنفة الذكر، التي خاضتها قوة من الفوج الخامس اربيل مع قوات الدكتاتورية و جاشها في تلك القرية في ذلك العام، وقد سمّت المجلة تلك المعركة باسم ” معركة سهل كويسنجاق ” . كنت اقرأ و انا افكّر بـ . . ” فيما اخذت المعركة حيّزاً مهماً في صحافة المنطقة . . لاتزال عندنا قيد التقييم بين مهاجم و بين مثمن، في وقت لم يصدر فيه بلاغ وافي عنها او ملف عن المعركة من اعلامنا ” ؟؟
و بعد حدود الساعة دعيت من قبل المناضل علي عبد الله الذي كان سكرتير الحزب آنذاك، الذي رحّب بي و هنّأني بحرارة على نتيجة العملية . . و اعتذر عن عدم وجود رئيس الحزب السيد مسعود بارزاني الذي كان غائباً عن المقر آنذاك لإنشغاله بجولة، و اخبرني عن تثمينه الكبير لماقمت به . . و اهداني سيت صغير لأدوات جراحية ميداني و استلمت قمصلة جبلية بدل قمصلتي المهترئة، شكرته عليها.
و بعد استراحة ليومين هناك بناء على الحاح السيد علي عبد الله . . عدت مع العدد المتبقي من المفرزة الى طبابتنا في مقر الفوج الخامس اربيل في بشت ئاشانآنذاك، عن طريق خانة ـ ميراوة ـ نوزنك، مواصلاً عمليفي الفوج .
. . بعد اشهر وصلني خبر من مفرزة قادمة من نوكان حيث مقر قيادتنا، عن صدور تثمين بروفيسور طهران لي و بأسمه بكتاب رسمي، على ان يكون تسليم ذلك التثمين اصولياً، و باليد في احتفالية في مستشفى الجراحة العصبية في طهران . . الاّ انيّ لم استطع السفر الى هناك، لأني كنت في طبابة الفوج الخامس عند قرية بناوي في سفح جبل كورك آنذاك، وفي وقتها كان الطريق بين نوكان الحدودية و ايران ـ اي بين العراق و ايران ـ قد انقطع تماماً بفعل تطورات الحرب العراقية ـ الإيرانية .
خاتمة :
ما مرّ من احداث في السنوات التي وثّقت في هذا الكتاب . . كانت جزءاً من احداث الشهور و السنوات الاولى لنشوء حركة البيشمركةالانصار و محطة جديدة لزيادة انطلاق من سبقتها، و اخذها ابعاداً جديدة اوسع، بسبب زيادة وحشية الدكتاتورية ثم بسبب الحرب الضارية بين الدولتين الجارتين التي لم تمرّ بها البلاد قبلاً .
و تليها السنوات الصعبة و التي تحققت فيها نجاحات بارتزانية متنوعة ادّت الى وقوع مدن صغيرة و متوسطة عراقية تحت نفوذ البيشمركة ثم مدن اكبر . . الامر الذي ادىّ الى استخدام السلطة الدكتاتورية سياسات التهجير و حرق القرى و المدن الصغيرة بوتائر اوسع و اكثر وحشية . . ثم السنوات الاكثر صعوبة اللاحقة التي هاجمت فيها قوات البيشمركةالانصار حصون و ربايا الدكتاتورية الدموية مقدمة آيات البطولة و الفداء و عشرات الشهداء و انواع التضحيات من كل القوى . .
و اصابت الدكتاتورية بجراح ادّت الى هياجها و استخدامها وتيرة اعلى من انواع الطرق العسكرية و الاسلحة و الحيل السياسية في مواجهة حركات البيشمركةالانصار، حتى وصلت الى استخدام الاسلحة الكيمياوية في باليسان، التي خرجت منها باصابتي في الكبد عن طريق اللمس عند جهودي في انقاذ من اصيب بها و بقي هناك، كما اثبتت التحاليل المتنوعة و المتعددة لحالة الكبد عندي، في مستشفى الشارتيه ـ ويرشو / برلين.
ثم استمرار السلطة في استخدامها في حلبجة و عمليات الانفال سيئة الصيت المعروفة، و كما سيأتي و الذي نُشر موثقاً في جزئي كتابي ” اي رقيب ” الاول و الثاني، الذي نشرته مشكورة مؤسسة “سردم” في السليمانية و تبني الفقيد الشاعر ” شيركو بيكه س” لنشره، و بتقديم البروفيسور د. ” كاظم حبيب ” و المساعدة المشكورة للعزيز الكاتب ” شه مال عادل سليم ” الذي بذل جهوده ان في التذكير باحداث كان شاهدها، او بجهوده و ابن عمته لنقل و توزيع عدد من نسخ الجزئين الى مدن كوردستان و الى بغداد و اوروبا . . و لاتزال اعداد كبيرة من الكتاب بجزئيه راكنة منسية على رفوف مؤسسة سردم الى تاريخ هذه الكتابة.
و لابد من الإشارة الى ان الكتاب الحالي قد مرّ مروراً فقط او لم يتناول نشاطات متنوعة اخرى للبيشمركةالانصار لتلك الفترة الزمنية كنشاط التنظيم المحلي في ايصال الادوية و الادوات الضرورية و اخصّ بالذكر الشهيد البطل ” بيشرو ” من اربيل، و نشاط النساء المتفاني في سبيل انشاء و تقوية و زيادة فاعلية المنظمة و الالتحاقات فيها التي لابد من ذكر الشهيدة البطلة ” عايشة حمه امين ام محمد حلاق ” ، لأن سريّة نشاطاتهن كانت آنذاك هي الصفة الغالبة لها لتأمين نجاح تلك النشاطات الاساسية. و لم يمرّ الكتاب على فرق المدن الانصارية الفاعلة التي كانت لم تظهر بعد، و لا على البيشمركة الداخليين لنفس الاسباب، كما لم يمر على النشاطات المتفانية للمخابرين و مراسلي المناطق الخطرة رجالاّ و نساء و غيرها من النشاطات الاساسية . . التي ورد قسم منها في كتابَيْ ” اي رقيب ” بجزئيه و سيرد قسم آخر في اجزاء اخرى اتأمّل ان استطيع نشرها، ان حصل دعم لذلك .
اتمنى ممن يعرف او يتذكر عمليات او اجراءات طبية قمت بها لإنقاذ ارواح البيشمركة و الانصار و اهالي القرى الابطال، ان يذكّرني بها لتوثيقها و له عميق شكري و مودتي. ولايسعني الاّ تقديم الشكر للذين يعملون لأجل طبع و نشر هذا الكتاب . نيسان 2011 ، برلين. انتهى المقتطع من الكتاب (انتهى)
27 / 3 / 2019 ، مهند البراك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ