حسب بعض العلماء والمؤرخين والمصادر، يعد السومريون أول مجموعة بشرية وأول حضارة تحتفل بعيد (زاكموك Zag-mug) منذ عصر (أريدو -5300 ق.م. ) وبالذات في جنوب بلاد ما بين النهرين. وكان يُحتفل به مرتين في العام الواحد، في فصلي الربيع والخريف. فقد وردت اشارات في النصوص المسمارية الى ان هذه الاحتفالات كانت معروفة في بلاد الرافدين القديمة كمدينة اور وأصبحت شائعة في كل بلاد بابل وآشور بإسم (أكيتو) في نهاية العصر البابلي القديم (2000 – 1500 ق.م ) واستمرت على نحو متواصل حتى القرن الثاني ق.م.
كان يحتفل بعيد (زاكموك Zag-mug) في العصر السومري طبقا للدورة النباتية لموسم الحصاد والبذار وكلاهما كان يؤشر بداية السنة الجديدة ومرور الفصول أو عودة الشمس. أما البابليون فقد جرت العادة عندهم على اقامة الاحتفال بعيد (أكيتو) كل عام حسب التوقيت البابلي القمري في اليوم الأول من شهر نيسان (نيسانو). وكان الشهر القمري يبدأ مع القمر الجديد، وأن طول هذه الفترة كان حوالي 29 يوم و12 ساعة و44 دقيقة و3 ثواني يتوسطها اكتمال القمر مرّة واحدة شهريا، مما يعني بأنه لا يمكن تحديد تاريخ مرقـّم لرأس السنة الجديدة لأن القمر الجديد سيتغيّر تاريخه الرقمي كل سنة بالتقويم الحديث. و (نيسانو) يعني: العلامة، وفي العربية (نيشان) لأنها العلامة أو النيشان على حلول فصل الربيع والإعلان عن ولادة الحياة ورمزاً للخصب وحَبَل الأرض بكل ما هو أخضر والذي يعتبر لون الحياة.
(زاكموك): هو عيد الإحتفال بحصاد الشعير، كذلك هو عيد الإعتدال الخريفي المتزامن مع موسم قطف التمور، وكان الإحتفال به يجري في الخامس عشر من شهر أيلول من كل عام، ويرمز لقدسية نخلة بلاد الرافدين ولتجدد وخصب الأرض المتمثلة بشعائر الجنس في (الزواج المقدس).
جز صوف الماشية والأغنام: كان أكيتو في جذوره القديمة الأولى عيداً شعبياً لجز صوف الماشية والأغنام، وكان يُحتَفَل به بين شهري آذار ونيسان، ويُمثل رأس السنة الجديدة (الإعتدال الربيعي)، ثم أصبح من المتعارف عليه الإحتفال بهِ في اليوم الأول من شهر نيسان كل عام في إقليميَ الوسط والجنوب من بلاد النهرين.
كان الإحتفال بعيد (أكيتو) يستمر لمدة (11) يوماً متواصلة، حيث لاحَظَ الإنسان في بادئ الأمر أن دورات الطقس والمناخ تتكرر وتُعيد نفسها كل إثني عشر دورة من دورات القمر تقريباً، فسمى تلك الفترة (سنة) إكراماً لإله القمر (سن) ، فقسموها إلى أربعة فصول وسموها بمسمياتها: (الربيع) وهو أول فصول السنة وكرسوه للإله (مردوخ) الإله الحكيم ورب الكون. يليه فصل (الصيف) وكرسوه للإله (ننورتا) إله الرياح الجنوبية ورب القنوات والسدود والري، ثم فصل (الخريف) وكرسوه للإله (نابو) إله الكتابة والحكمة وإبن الإله مردوخ، ثم فصل (الشتاء) وكرسوه للإله (نركال أو نرجال) وهو إله الموت والعالم الأسفل، معتقدين أن الشمس تكون في منازل تلك الآلهة خلال تلك الفصول. أما الأشهر الأثني عشر فكانت أشهراً قمرية يبدأ كل منها مع ميلاد قمر جديد، وإعتبروا الأول من نيسان هو عيد رأس السنة، لكنهم أدركوا بعد فترة زمنية طويلة أن عيد رأس السنة الذي إعتادوا أن يحتفلوا به في الربيع بدأ يتراجع تدريجياً إلى الوراء بحيث أصبح يقع ضمن فصل الشتاء، أو بعد فترة زمنية أخرى يقع ضمن فصل الخريف!!، وإستنتجوا من كل ذلك أن الطقس والمناخ تتحكم به منازل الشمس في الكون، وأن السنة القمرية لا تتطابق مع السنة الشمسية، وأن هناك إختلاف بينهما هو أحد عشر يوماً، ومن أجل أن تتناغم الفصول التي تتحكم بها الشمس مع التقويم القمري، أعادوا صياغة التقويم القمري بإضافة أحد عشر يوماً ما بين نهاية شهر آذار وبداية شهر نيسان، وأصبحوا يحتفلون بتلك الفترة كرأس أو بداية للسنة الجديدة.
بعض الحكومات الإسلامية في تأريخ العراق كانت قد حرمت ومنعت الإحتفال به لإعتبارهِ عيداً وثنياً!. بينما إستمر الإحتفال به عند أقوام أخرى رغم إسلامهم. وتقول بعض المصادر أنه شاعت تسمية (نوروز ونيروز) أو (عيد الأم) أو (عيد الشجر) بينما إختفت تسمية (اكيتو) و (زاكموك) وبقيت فقط عند مسيحيي العراق والشام من الكلدان والآشوريين والايزيديين.
الإله السومري ( دموزي ) والبابلي (تموز) و (مردوخ) الذي أخذ شخصية (دموزي) و (طاؤوس ملك) الايزيدي مع (إينانا) السومرية و (عشتار) البابلية، يلعبون الدور الأساسي في هذه المسرحية الكونية المرتبطة بالطبيعة والتغيرات المناخية وتعاقب الزمن وفصول السنة إرتباطاً بشكل رئيسي مع العملية الزراعية (حبة القمح) التي تمثل في جانبها الطبيعي عملية الحياة والموت.
أود فقط الإشارة إلى ما يتصل بموضوعنا من علاقة (سرسال)، عيد رأس السنة الايزيدية والمهرجانات (الطوافات) التي تقام في قرى وقصبات الايزيدية بعيد (زاكموك – أكيتو) السومري- البابلي.
يعتبر رأس السنة (سرسال) عيد طاؤوس ملك ايزيدياً، بما يحمله من معاني سرّانية وطقوس، إنعكاساً وإستمراراً لعيد (زاكموك – أكيتو) مما لا لبس فيه. ويمكن القول بأن الايزيدية هي التي احتفظت أكثر من مسيحيي العراق (الكلدان والآشوريين) بطقوس وعادات هذا العيد السومري – البابلي الممتد في أعماق التاريخ وذلك من خلال التجليات التالية:
– منع الزواج وحفر الأرض في شهر نيسان الذي يعتبره الايزيديون “عروس الأشهر”.
– سلق وتلوين البيض.
– جز صوف الماشية والأغنام، حيث كانت تجري عملية جز الصوف لتاريخ قريب في قصبتي بعشيقة وبحزاني على أنغام (الدف والشباب).
– تعليق شقائق نعمان فصل الربيع مع قشور البيض على واجهات البيوت، والتي كانت تسمى في زمن البابليين بـ (نيشان) أي العلامة.
– الاحتفال بعيدين: الأول (سرسال) في شهر نيسان، والثاني (الجماعية) نهاية أيلول/بداية تشرين الأول.
– تقديم القرابين والنذور.
– المهرجانات (الطوافات) التي تقام في جميع القرى الايزيدية بدءاً من طوافة بعشيقة وبحزاني يوم الجمعة التي تلي عيد (سرسال) يوم الاربعاء مباشرة ويستمر الى آخر (طواف) ينتهي في بداية شهر حزيران.
كان احتفال السومريين والبابليين المستمر لمدة (11) أو (12) يوماً بعيد رأس السنة الجديدة يوم الأربعاء من شهر نيسان، هو ملاحظتهم في بادئ الأمر أن دورات الطقس والمناخ تتكرر وتعيد نفسها كل إثني عشر دورة من دورات القمر تقريباً، فسمى تلك الفترة (سنة) إكراماً لإله القمر (سن). وبما أن التاريخ القمري يتغير ولا يتطابق مع السنة الشمسية فقد أضافوا (11 و 12) يوماً ، أما في التقويم الايزيدي فهناك إضافة (13) يوماً ، ولهذا نرى التقويم الايزيدي يتأخر عن التقويم الميلادي بثلاثة عشر يوماً. كما أن هنالك تفسيراً آخراً للإحتفال بهذه الأيام الـ (13) والذي كان رقماً مشئوماً عند بعض الشعوب الآرية لإعتقادهم بأنه في الأيام الثلاثة عشر الأخيرة من كل عام تعم الفوضى بين قوى العماء والسكون وبين قوى التجديد.
أما في الجانب الميثي/السرّاني، فان (دموزي- تموز- تاوز- طاؤوس ملك) أصبح في (عصر الزراعة) إلاهاً للقمح بشكل خاص، بل كان القمح جسده وكان هو للقمح روحاً. ان اكتشاف الانسان للقمح وأكلة الخبز كان القفزة الحضارية الكبرى التي حققها الانسان، وكان رغيف الخبز برزخ العبور من مرحلة الهمجية الى مرحلة الحضارة. وفي ملحمة كلكامش كان أول عمل قامت به المرأة التي قادت به أنكيدو من حياة البرية الى حياة المدنية أن جعلته يتذوق الخبز الذي غدا بعد أكله بشراً سوياً.(فراس السواح، لغز عشتار،ص 79) وما زال القمح من بين أهم المقدسات عند الأيزيدية وبه يقسمون ويعتبرونه زاد الدين والايمان، الانسان الذي لا يأكله لا دين له ولا ايمان، بمعنى أن سرّ طاوؤس ملك يكمن فيه: “Bi vî qutê îmanê, yê ne xot ne dîne ne îmane- أي قسماً بهذا الزاد الذي لا يأكله لا دين له ولا ايمان”. ولقدسية القمح فانه يدخل في تركيبة الكثير من الأكلات الخاصة في الأعياد والطقوس الدينية كـ(السماط-Simat) في غالبية الأعياد. وقد عبر الانسان القديم عن أفكاره ومعتقداته بشأن مظاهر الكون والخليقة ودورة الطبيعة وإكتشاف الزراعة وتدجين الحيوانات، عن الحياة والموت…عن طريق اقامة الطقوس والأعياد.
ان أعياد وطقوس الأيزيدية ، وفي مقدمتهم (سرسال)، منسجمات ومترابطات بشكل كبير مع دورة الطبيعة وحركة فصول السنة، منسجمات مع حبة القمح- أي دورة الزراعة التي تعلمها الانسان أول الأمر- ومنسجمات مع مفهوم الحياة والموت بمعناها الكوني، منسجمة مع مفهوم (تموز- تاوز- طاؤوس ملك) الحي أبداً حسب المعتقد الأيزيدي. فطاؤوس ملك يحمل في جسده بذرة العذرية، قوة “اليانج” الموجبة و “ين” السالبة، بذرة الأنوثة والذكورة في آن واحد كما هو الحال عند بذرة القمح مثلاً حيث تراها بشكلها اليابس إلاّ أنها في الحقيقة تحمل جميع المواصفات الواردة أعلاه، تحمل صفات الجنس وتحمل سرّ الحياة والديمومة، ومن أجل أن تخلق حبّة القمح الحياة الجديدة يجب أن تموت (تدفن في الأرض) وتوفر لها الشروط اللازمة من رطوبة، تراب، أشعة ونور.. أعياد الأيزيدية، وإن كانوا بأسماء متعددة، فأنهم مرتبطين بالاله تموز ابن وحبيب الاهة الكون. وهم يرتبطون مع عملية زراعة القمح اعتباراً من (الحرث، الانبات، النضوج والحصاد..).
عيد (سرسال) الايزيدي وريث عيد (زاكموك- أكيتو) يحمل بصمات العصر الزراعي، “بطله” القمح، أما سرّه هو موت وانبعاث الإله أو الإلاهة، وهي دورة الحياة الأزلية المتجددة بذاتها. (لمزيد من المعلومات راجع كتابي: الدين الايزيدي/المعتقدات، الميثولوجيا، الطبقات الدينية، الفصل الرابع “لمحات من الاسطورة والتكوين وسرّ أعياد الايزيدية” الصفحات 101-142)
خليل جندي
مانيلا 2/نيسان/2019
ودمتم سالما دكتور وشكرا لمعلوماتك القيمة