شغل بحث ماهية الإنسان ذهن الفل اسفة والمفكرين منذ القدم وقد ت باينت رؤاهم في تحديد ماهية هذا الكائن الذي غيّر وجه الأرض من ذ نشاتها عليها, إذ أبدع في إكت شاف قوانين هذا الكون وبما مكنه من استثمار تراب هذه الأرض وتح ويله الى عمارات شاهقة واجهزة و معدات وادوات لا حصر لها, حولت هذه الأرض الى مركز للكون ينطل ق منها لإستكشاف المجرات والكوا كب ولكشف اسرار هذا العالم, بل ولمعرفة كيفية نشأته التي لا ت زال الثانية الأولى من بداية خل قه تشغل بال علماء الفيزياء وال فلك , الذين أنشأوا مراكز أبحاث لمحاكاة عملية خلق الكون ويأتي في مقدمتها مركز (سيرن) في سوي سرا.
هذا الكائن الخارق حار الفلاسفة والمفكرون في تعريف ماهيته, أل ا وهي كنهه وحقيقته كما يدل على ذلك المعنى اللغوي للماهية. وق د نشأت مذاهب فلسفية متعددة عبر التاريخ كانت لكل منها رؤيتها في الوجود وكيف جاء والى أين يم ضي ومن أين اتت الحياة ولماذا ك ان الكون مهيئا للحياة. وكان من الطبيعي أن تختلف أجوبتهم تبعا لذلك لسؤال ماهو الإنسان؟ أي م اهيته.
ففيما اعتبر افلاطون تلميذ سقرا ط ان الإنسان هو النفس العاقلة الخالدة والأزلية التي لا تلتحق بالجسد الا عرضا, عرّف ارسطو الإنسان بأنه حيوان ناطق أي عاق ل في صفة جوهرية تميزه عن الحيو ان. لكن الفيلسوف ديكارت رفض تع ريف ارسطو مؤكدا على ان التامل ات الذهنية لا يستمدها الإنسان من حواسه او من الواقع بل من ذاته اي من طبيعته أي ان الحقيق ه تنبع من الذات طبقا لقاعدته ا نا افكر اذن انا موجود. واما ا لفيلسوف ابن سينا فرأى أن ماهية الإنسان هي جوهر ذاته التي تكم ن في النفس المجرده التي يمكنن ا تصور وجودها ويمكن ان توجد با لفعل دون الجسد وبالإنفصال عنه.
وذهب سبينوزا بعيدا عبر اطروح ة مفادها أن الرغبه هي ماهية ال إنسان وجوهره، باعتبار الرغبة ش هوة واعية، مما يجعلها خاصية ان سانية. وتنزل الفيزيائي البريطا ني الراحل ستيفن هوكينج بالإنس ان واصفا أياه بالحثالة الكيمي اوية بالرغم من اعترافه بأن الك ون يقف خلفه ذكاء عظيم!
وبعد هذه المقدّمه لست بصدد الخ وض في تحديد أي التعاريف هي الأ صح للأجابة على هذا التساؤل الأ زلي لتحديد ماهية الإنسان, لكن ني أستطيع القول أن الإجابة على هذا السؤال فطرية تتجلى للنفس السليمة التي تقدر إنسانية الإن سان ودون النظر الى خواصه العار ضة, والتي تبحث عن المشترك بين مختلف البشر ألا وهي ماهية الإن سان.
لقد شعرت بذلك لدى إدخالي الى أ حد مستشفيات لندن إثر عارض صحي, حيث ادخلت الى الردهة المخصصة وكانت تضم اربعة اسرة يرقد علي ها أفراد من خلفيات متنوعه , فا لي يساري شاب بريطاني في الثلاث ينات من العمر وأمامي من جهة ال يسار شخص من اصول هندية وبجنبه طبيب استرالي عليل! تلقينا ذات الخدمات والإهتمام وكنت اراقب ب شكل دقيق سلوك الكادر الطبي الذ ي كان يقدم خدماته وهو غير ملتف ت لخلفية هذا المريض هل هو بريط اني ابن البلد ام مجنّس أم من ر عايا دولة اخرى , وهل هو مسيحي أنجليكاني أم كاثوليكي أم مسلم سني او شيعي او هندوسي أو بوذي او ملحد!
لم يلتفت أحد لخلفية المريض وهل هو غني ام فقير , عامل ام عاطل عن العمل, صاحب شهادة دراسية ا م لا ومن أي خلفية قومية, وهل ي بدو أنيقا مرتبا أم رث الثياب, فالجميع يرتدي ملابس موحدة , ف ما يتجلى امام الكادر الطبي هو ماهية الإنسان ألا وهي القاسم ا لمشترك بين جميع هؤلاء الراقدين . والكادر ليس بحاجة لمعرفة كن هها او الخوض في تعاريف الفلاسف ة لها, فكل ما يمكن معرفته ان ه ناك قاسما مشتركا بين هؤلاء الر اقدين وهو اشتراكهم في تلك الما هية المجردهة عن الصفات العارضة .
مستشفى يعالج فيه المرضى خيرة ا لأطباء البريطانيين المختصين بأ مراض القلب وفي مقدمتهم البروفي سور مايت والدكتور فوكس وطاقمهم ا المؤلف من عدد كبير من الأطبا ء والمساعدين ومنهم الدكتور هنر ي والدكتور يوسف. وعندما جاءني الأخيرا للتحدث معي علمت انه من الشرق وأردت سؤاله عن أصله فل ربما يكون عراقيا او سوريا لكنب خجلت وتراجعت فقلت في نفسي لم يسألني أحد من أي بلد أنا فكيف أتجرأ وأسأل هذا السؤال! ثم علم ت فيما بعد بانه واحد من أفضل ا لأطباء الذين نالت أبحاثهم جوائ ز عالمية.
أتقدم بالشكر لجميع هؤلاء اولا لأني حظيت برعاية مثالية تترك ف ي النفس أثرا طيبا لن يمحى, كما وأشكرهم لأنهم تعاملوا مع تلك الماهية بغض النظر عن طبيعتها وكنهها فليس المهم ذلك بقدر اه مية التعامل معها وإنقاذ ذلك ال جسد الذي اتعبته تلك الماهية حت ى اعتلّ. وأرجو أن يأتي يوم يتم فيه التعامل مع تلك الماهية في مختلف أرجاء العالم دون الأخذ بنظر الإعتبار العوارض والصفات الطارئة والزائلة التي تعتريها والتي لا تغير من جوهرها.