البطالة والجريمة المنظمة متلازمتان خطيرتان، ما إن تفشت أولاهما في مجتمع حتى ارتفعت نسبة الثانية إلى معدلات قياسية، فالعراق الذي يعاني من ارتفاع معدلات البطالة بين سكانه إلى مستويات غير مسبوقة، يلازمها ارتفاع معدلات الجريمة المنظمة في مختلف المحافظات.
تحقيق لوكالة “يقين” يكشف عن الترابط الكبير بين البطالة والجريمة المنظمة في العراق، وتأثير هاتين الظاهرتين على مجمل الأوضاع الأمنية والاقتصادية والاجتماعية في العراق.
معدلات قياسية للبطالة
في آخر تقرير عن معدلات البطالة في العراق، كشف صندوق النقد الدولي في تقريره الخاص بالعراق إلى أن معدلات البطالة وصلت إلى حدود قياسية بتسجيلها 40% بين السكان في البلاد.
وبين التقرير أن البطالة مستشرية بين الشباب العراقي في مختلف المحافظات، وأن الحرب الأخيرة التي شنتها القوات الأمنية ضد مقاتلي تنظيم الدولة (داعش) أدت إلى زيادة معدلات البطالة بصورة كبيرة، بحسب التقرير.
من جهته، كشف المتحدث باسم وزارة العمل والشؤون الاجتماعية “عمار منعم” في حديثه لوكالة “يقين” عن أن معدلات البطالة التي وردت في تقرير صندوق النقد الدولي منافية للحقيقة، إذ لم يوضح صندوق النقد الدولي كيفية احتسابه لهذه النسبة الكبيرة.
وكشف منعم عن أن معدلات البطالة الحقيقية في العراق أقل من ذلك بكثير، وأن الرقم الحقيقي يقترب من 23% لا أكثر، لافتًا إلى أن هناك نوعين من البطالة في العراق، إذ إن هناك البطالة الكاملة وهي النسبة الحقيقية للبطالة، وتشمل الذين لا يعملون بالمطلق ولم يحصلوا على أي فرصة عمل منذ أشهر، وهناك بطالة ثانية جزئية وتشمل الذين يعملون بشكل جزئي كالعمّال وسائقي سيارات الأجرة وغيرها.
وفي ختام حديثه لوكالتنا، أكد على أن الوزارة تعمل حاليًا على تقرير إحصائي شامل لمعدلات البطالة في البلاد، كاشفًا عن أن التقرير سيتضمن أرقامًا تفصيلية تدحض ما صدر عن صندوق النقد الدولي، بحسب منعم.
التخطيط: البطالة في ازدياد مستمر
“وزارة الداخلية ألقت القبض على ما يقرب من 3400 شخص صدرت بحقهم أوامر قضائية في مختلف الجنايات والجنح عام 2018”
من جهته يوضح المستشار في وزارة التخطيط “محمد عبد الله” في حديثه لوكالة “يقين” عن أن نسبة البطالة في العراق مرتفعة جدًا، وأن أعداد العاطلين عن العمل في ازدياد مستمر، تزامنًا مع الحد من التعيينات الحكومية وسياسة إيقاف التوظيف الحكومي الذي باتت تعتمده الحكومة في ظل التخمة الوظيفية الكبيرة في البلاد والعجز الاقتصادي.
وكشف عن أعداد الموظفين الحكوميين في العراق يقترب من 4.6 مليون موظف، وهو رقم كبير جدًا نسبة إلى عدد سكان العراق، يضاف إليه ملايين المتقاعدين الذين يتقاضون رواتب شهرية.
وعن النسب المتوقعة للبطالة خلال العشر سنوات المقبلة، يرى عبد الله عن أنه ما لم تتخذ الحكومات الحالية والمستقبلية خطوات جادة وحقيقية في تعزيز القطاع الخاص، فإن نسب البطالة في العراق ستصل حتى 55% خلال سنوات قليلة، وهي نسبة تعزى إلى زيادة أعداد الخريجين وأعداد السكان.
علاقة البطالة بالجريمة
“علاقة وثيقة ومتشابكة” بهذه العبارة، يصف الضابط في شعبة تحليل الجرائم في وزارة الداخلية “زيد حسن” العلاقة بين البطالة في أي بلد والجريمة المنظمة، إذ يقول حسن في حديثه لوكالة “يقين” إنه نظرًا لأن العراق بلد إسلامي يخلو من الجرائم المعروفة بـ”الجرائم المتسلسلة”، فإن العراق يخلو من السافحين القتلة المتعارف عليهم في الدول الغربية، إلا أن البلاد في ذات الوقت تعاني من ارتفاع نسبة الجريمة المنظمة بسبب تفشي البطالة وقلة الوعي والإرشاد السري والتربوي.
“تعاني من ارتفاع نسبة الجريمة المنظمة بسبب تفشي البطالة وقلة الوعي والإرشاد السري والتربوسي”
وكشف في حديثه عن أن شعبة تحليل الجرائم –وهي شعبة استحدثت قبل سنوات قليلة– خلصت إلى أن نسب الجريمة المنظمة ارتفعت خلال الأعوام الماضية في البلاد، تزامنًا مع ارتفاع معدلات البطالة بين الشباب العراقي.
وأكد حسن -الحاصل على شهادة البكالوريوس في علم النفس- على أن البطالة المؤدية إلى الفقر، تدفع بالشباب إلى الانخراط في عصابات الجريمة المنظمة التي تؤدي إلى الاخلال بالمنظومة الأمنية للبلاد، مشيرًا إلى أن أكثر الجرائم المنظمة المسجلة في وزارة الداخلية باتت ترتبط ارتباطًا وثيقًا بتجارة المخدرات وتوزيعها.
من جهته، كشف الناطق باسم وزارة الداخلية “سعد معن” عن أن وزارة الداخلية ألقت القبض على ما يقرب من 3400 شخص صدرت بحقهم أوامر قضائية في مختلف الجنايات والجنح عام 2018، وأن جميعهم أدينوا بجرائم اقترفوها ما بين متاجرة بالمخدرات والسطو المسلح والنصب والاحتيال.
ويؤكد معن خلال حديثه لإحدى وسائل الإعلام على أن وزارة الداخلية تعمل جاهدة على تفعيل أجهزتها الاستخباراتية للوصول إلى رؤوس الجريمة المنظمة ومحركيها.
ما رأي خبراء علم النفس والاجتماع؟
الأكاديمي وأستاذ علم النفس “حسين الطائي” كشف في حديثه لوكالة “يقين” عن ارتباط وثيق بين الوضع الاقتصادي عامة والبطالة خاصة وبين الجريمة، إذ يرى الطائي أنه حيث تكون معدلات الجريمة مرتفعة يكون البناء الاقتصادي للدولة ضعيفاً، وأن ذلك الضعف يتمثل في إهمال المشاريع الاقتصادية الحيوية ونمو البطالة وتزايد معدلات الخراب والتدمير الفيزيقي بسبب الافتقار إلى الخدمات العامة واستشراء الفساد.
وبيّن الطائي أن جميع تلك العوامل المؤدية إلى الجريمة موجودة في العراق، إذ إن معدلات الفقر في العراق كبيرة جدًا، يرافقها نسب بطالة وصلت إلى حدود قياسية، إضافة إلى تهالك البنى التحتية والخدمات العامة، ما يؤدي إلى ضياع العدالة الاجتماعية، التي أوصلت العراق إلى حال كارثي لم يشهده في تاريخه الحديث.
من جانبه يؤكد أستاذ علم الاجتماع “مصطفى أحمد” في حديثه لوكالة “يقين” على أن العراق ليس استثناء من قانون البشرية الساري منذ الأزل، إذ إنه وعندما يفتقد أي بلد وشعب للتوجيه ولمصادر الحياة، يتحول قسم كبير من سكانه إلى مجرد مجرمين، لا غاية لهم سوى الانتفاع الشخصي على حساب الآخرين، وهذا ما يحدث بالضبط في العراق منذ الغزو الأمريكي عام 2003.
“إهمال المشاريع الاقتصادية الحيوية ونمو البطالة وتزايد معدلات الخراب والتدمير الفيزيقي بسبب الافتقار إلى الخدمات العامة واستشراء الفساد”
وكشف أحمد عن أن العراق يعد من أكثر شعوب منطقة الشرق الأوسط تعقيدًا من جهة سيكولوجية بناء الشخصية، وهذا ما أكده عالم الاجتماع العراقي “علي الوردي” في كتبه التي شرح فيها الشخصية العراقية.
وعن ارتباط الجريمة المنظمة في العراق بالبطالة والفقر، أوضح أستاذ علم الاجتماع أن علم الاجتماع الإنساني يطلق على هذه الظاهرة بـ “المتلازمة المزدوجة” إذ إن الدراسات العالمية، أكدت على أن البطالة والجريمة حالتان مترابطتان، إذ كلما زادت نسبة إحداهما ازدادت الثانية.
وفي ختام حديثه لوكالتنا، أشار أحمد إلى أنه لولا أن الشعب العراقي ذي جذور إسلامية ومرتبط بالتعاليم الدينية إلى حد كبير، لكانت نسبة المجرمين في العراق تصل إلى 40% وهي نسبة البطالة في العراق وفق تقارير المنظمات الدولية، داعيًا الحكومة العراقية إلى تدارك مشاكل البطالة في العراق التي قد تؤدي –إذا ما استمرت بالارتفاع– إلى نشأة جيل جديد مجرم، يفتقر إلى أبسط معايير الإنسانية.
تداعيات مخيفة!
لا يكاد يمر يوم في العراق، إلا وتعلن فيه القوات الأمنية عن ضبط واعتقال عديد من المجرمين في مختلف المحافظات العراقية، وهو ما يشير إليه الضابط في وزارة الداخلية “كاظم الموسوي” المعني بشؤون مكافحة الجريمة المنظمة في العراق، إذ كشف في حديثه لوكالة “يقين” عن أن جميع المجرمين الملقى القبض عليهم بتهم جنائية في الأعوام الخمسة الماضية، بينت التحقيقات أن 85% منهم كانوا عاطلين عن العمل ولا موردًا ثابتًا لهم.
وكشف الموسوي عن أن المحافظات الجنوبية تشهد نسبًا مرتفعة في الجريمة المنظمة بسبب تفشي البطالة بين شباب تلك المحافظات وخاصة محافظات المثنى والعمارة والناصرية والبصرة، إذ إن هذه المحافظات تشهد أعلى نسب الجريمة المنظمة والبطالة في آنٍ معًا.
“العراق لم يشهد ارتفاع معدلات الجريمة المنظمة في تاريخه كما هو الحال اليوم، إذ إن المحاكم والسجون باتت تضيق بنزلائها”
من جهته يؤكد أستاذ العلاقات الدولية الاقتصادية في الجامعة العراقية “عبد الرحمن المشهداني” في حديثه لوكالة “يقين” عن أن الوضع الاقتصادي في العراق يتجه نحو الانهيار والإفلاس في ظل حجم الفساد الكبير في البلاد، الذي يتسبب بنهب ثروات العراق وميزانيته التي تصل إلى قرابة 90 مليار دولار.
وعن البطالة المستشرية في العراق وسبل معالجتها حكوميًا، كشف المشهداني عن أن الحل لأزمة البطالة في العراق لا يكمن في فتح باب التعيينات الحكومية على مصراعيه، إذ إن التقديرات تشير إلى أن عدد موظفي العراق على الملاك الحكومي يقدر بنحو 4.6 مليون موظف، لافتًا إلى أن كثيرًا من هؤلاء الموظفين هم في حالة بطالة مقنعة، إذ يتقاضون رواتب دون أي عمل.
ويؤكد أستاذ العلاقات الدولية الاقتصادية على أنه لا سبيل للحد من البطالة في العراق، ما لم تفعل الحكومة القطاع الخاص، إذ إن دولة كالولايات المتحدة التي يقدر عدد سكانها بأكثر من 350 مليون نسمة، لا تضم سوى 2 مليون موظف حكومي، وجميع الوظائف المتبقية فيها تكمن في القطاع الخاص.
“القطاع الخاص في العراق لا يزال يفتقر إلى قانون عمل صارم وحازم ويعطي حقوق العاملين”
ويعتقد المشهداني أن جميع المسؤولين الاقتصاديين في الحكومة، وعلى الرغم من دعواتهم المستمرة لتفعيل القطاع الخاص، إلا أنهم يتهمون هذا القطاع بأنه اتكالي ويعتمد على الحكومة ومواردها، وهو ما يرفضه المشهداني الذي يرى أن تفعيل القطاع الخاص يكمن في نسف وتعديل 90% من القوانين المعمول بها في العراق، إذ إن القطاع الخاص في العراق لا يزال يفتقر إلى قانون عمل صارم وحازم ويعطي حقوق العاملين.
وفي ختام حديثه لوكالتنا يرى الأستاذ المشهداني أن السبيل الوحيد للحد من البطالة في العراق يعتمد على تفعيل قوانين عمل، تعطي العاملين حقوقهم من خلال الضمان الاجتماعي وقوانين التقاعد التي لا بد أن تشملهم، وهو ما معمول به في جميع دول العالم ، ومنها الدول المغاربية كالجزائر وتونس والمغرب.
ارتفاع غير مسبوق للجرائم
ويؤكد الخبير الأمني العراقي “حسن العبيدي” في حديثه لوكالة “يقين” على أن العراق لم يشهد ارتفاع معدلات الجريمة المنظمة في تاريخه كما هو الحال اليوم، إذ إن المحاكم والسجون باتت تضيق بنزلائها.
وكشف العبيدي عن أنه باستثناء المتهمين بقضايا ما يعرف بـ “الإرهاب” فإن السجون العراقية مكتظة بنزلاء ومجرمين في مختلف الجنح الجنائية المتعلقة بالقتل والسطو المسلح وتجارة المخدرات والسرقة والنصب وتبييض الأموال.
تكاليف باهظة سيتحملها العراق، جراء تفشي الجريمة المنظمة في العراق، بحسب العبيدي، إذ إن تداعيات البطالة المؤدية للجريمة المنظمة تكلف العراق جهدًا أمنيًا كبيرًا، فضلًا عن تبعات القبض على هؤلاء والإنفاق عليهم خلال فترات محكوميتهم التي قد تمتد إلى أكثر من عشرين عامًا، وما تتحمله البلاد من تكلفة باهظة في إيوائهم وإطعامهم، فضلًا عن تكاليف تأهيلهم ودمجهم في المجتمع مرة أخرى.