عانى العراقيون كثيراً من هول الإنتظار للتخلص من الإحتلالين العثماني والإنكليزي والحكم الملكي والسلطات العميلة التابعة للخارج، حتى ظهر من بينهم الزعيم عبد الكريم قاسم، وفجر ثورته المباركة، فتنفسوا الصعداء وإعتبروا أنفسهم أحراراً، ولكن فرحتهم لم تدم طويلاً. إنحرفت الثورة عن أهدافها، وإحتلهم البعث شر إحتلال، وأصبحوا يتحسرون، وظلوا ينتظرون الفرج. فجائهم الأمريكان ليحررونهم ويحرروا بلادهم، أو لنقل (كما يحلو للبعض) ليحتلوهم ويحتلوا بلادهم، وبعدها سلموا الحكم لنخبة سياسية عراقية. وإستبشر العراقيون خيراً، وإنتظروا.
قبل أيام مرت ستة عشر سنة، على التحرير وتقويض نظام البعث، وعلى بداية عهد كان من المفروض أن يكون وطنياً وديمقراطياً وفدرالياً، عهد تحول فيه الإنسجام بين أصدقاء الأمس الى خصام، والتفاهم الى تنافر وإختلاف. وطغى عليه الصراع على السلطة. أما عدم احترام الحقائق فقد أربك حياة العراقيين وجعل خياراتهم محدودة وصعبة ومشحونة بالمتاعب والمصائب والأزمات, ومزق نسيج وعيهم الوطني وأرادتهم الوطنية, وجعل معظم مشاكلهم البسيطة معقدة وعسيرة الحل، وبالذات عندما إشتد ساعد بعضهم على حساب الهدف الأساسي المتمثل بإقامة كيان سياسي قادرعلى توحيد العراقيين وصياغة إجماع وطني، واستعادة مكانة المواطن وحقوقه وحريته ومساواته بطريقة موضوعية تتناسب مع معاناته وتضحياته.
الضعفاء، الذين تحولوا بين ليلة وضحاها الى أقوياء، دمروا العقل العراقي وأوقعوه في دوامة الأوهام والخرافات المفضلة عندهم، عن طريق نشر ثقافة الكراهية والعنف، والتخطيط في العمق لتسيير الأمور بإتجاه الإطاحة بالآمال عموماً عبر تضييق الخناق عليهم وتركيعهم للإملاءات المزاجية والإنسياق مع مشاريعهم، وتجاهل كل طلباتهم وحقوقهم الدستورية والقانونية. وبسببهم، إختلطت تجربة العمل السياسي بالفساد والفشل، وتم إفتقاد الرؤية لتجاوز التحديات والتركة الثقلية وإنطباعات المرحلة الدكتاتورية البعثية، وفي تحديد المسارات والمنطلقات والأولويات والمسؤوليات الوطنية والأخلاقية، وساهمت حكومتي نوري المالكي بإجراءاتها التصعيدية في تفاقم الخلافات بين العراقيين، ووصلت الى مرحلة التشنج والإصرار على الأخطاء الفضيعة، وتناسلت الأزمات وكانت لكل أزمة إرتباط بسابقتها وأسوأ منها، وظهر على الساحة أناس يتلاعبون على حبل المزايدات الرخيصة فأثاروا ألفتن وإختلقوا المعضلات.
وتصاعد أعمال العنف والإرهاب والحرب الأهلية الطائفية والتطهير العرقي والمجازر والإغتيالات والتفجيرات وإنتشار فرق الموت، والتعذيب والبطالة والتهجير وتدمير البنى التحتية وتهريب السجناء المجرمين وتبديد الثروات وتوقيع العقود الفاسدة والصفقات الوهمية، ووضعوه في عزلة غير مسبوقة.
وسيطر شبح الخوف والحيرة على الجميع، وتجرع العراقيون كأس المرارة وتلقوا كيل من الضربات المؤلمة التي لايمكن نسيانها.
بعد ذلك الخراب والتمزيق، وتلك الظروف الصعبة المؤلمة. أزاحوا المالكي من الحكم رغم فوزه في الإنتخابات. فجاؤا بحيدر العبادي الذي بشر بمكافحة الفساد، ولكنه إكتفي بالكلام وببعض الإجراءات الشكلية وتشكيل لجان رئيسية تتبعها لجان أخرى فرعية وتتبع تلك اللجان لجان هامشية، وتبين لاحقاً إنه لم يكن مختلفاً عن الذين سبقوه، ولم يحترم تعهداته، بل نشر التردد والإرتباك وخيبة الآمال المرتبطة بالغدر والخديعة، وفقد المصداقية التي تؤهله لقيادة البلد. وحاول إشعال نار الحرب الأهلية بين الكورد والعرب . وثبت لدى الجميع بأنه المتخبط الذي يستجيب لأفكاره المتناثرة والمتضاربة، وأسوأ من المالكي بألف مرة، فعاقبوه في الإنتخابات التي جرت في مايس من العام الماضي.
العراقيون اليوم، وهم يستذكرون سقوط صدام، يسألون عن سبب المآسٍ الفظيعة والكوارث المدمرة، ولايجدون لها أجوبة نابعة من الجرأة السياسية والأخلاقية، حتى من الذين يتغطون بالإسلام، أو الذين يدعون البطولة ومناصرة الحق والوقوف ضد الباطل.
بعضهم مازال يقارن بين منافع التحرير ومساوىء الإحتلال، وبين معاناته وإضطهاده في عهد البعث وتحطيمه وتكسيره فيما بعد البعث. ويقيم التكاليف الباهظة الثمن التي دفعت خلال السنوات السابقة نتيجة للتدخلات الخارجية المضرة والمكلفة.
وغيرهم يتحسر ويتألم ويواسي نفسه، ويحاول أن يرضي ذاته بأمنيات وأهداف ربما لاتتحقق في القريب العاجل أو حتى الآجل.
وبعضهم يتمنى الوصول الى محطة تاريخية جديدة تأخذ مساراً مختلفاً، يتكسر فيها حاجز الخوف والريبة والشك.
أما الأمر الذي يجمعهم فهو: إنهم يعيشون قيد الإنتظار، ويلعنون الذين انقضوا على أحلامهم كأنقضاض الذئاب على الفريسة خلال السنوات العجاف الطويلة والصعبة والمعقّدة.