كان المعتقد بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وهزيمة هتلر وحزبه النازي، بأن أوروبا ستواصل السير باتجاه مغاير، خصوصا مع النجاحات التي صارت تحصدها أحزاب اليسار، والتي نجحت في شمال أوروبا ببناء نموذج “دولة الرفاه“، الذي يعتبر نموذجا متقدما قياسا ببقية الدول الرأسمالية في الغرب حيث الدولة هي المسؤولة عن القيام بالدور الأساسي في حماية وتوفير الرفاه الاقتصادي.
وساعد انهيار الاتحاد السوفياتي، الحليف القوي لليسار العالمي، وظهور نظريات مثل “نهاية التأريخ” التي تروج لكون الرأسمالية هي الحل، ساعد كثيرا في اشتداد تأثير ونمو قوى الاحزاب اليمينية التي تدعو “لإصلاحات” اقتصادية، تقف في مقدمتها الدعوة لخصخصة قطاع الدولة في ظل العولمة الرأسمالية، وان تحقيق نجاحات ميدانية جزئية في حل معضلات اقتصادية تتعلق بالتضخم والبطالة، ساعد قوى اليمين للنمو والصعود لتكون طرفا مشاركا ومهما في العديد من الحكومات الاوروبية. هذا الدور الذي سرعان ما تطور بحيث حققت الاحزاب اليمينية، صعودا أهلّها لتقود الحكومات في العديد من البلدان الاوروبية.
وساهم انهيار الاتحاد السوفياتي، في كشف ان احزاب اليسار تملك مشاكلها وأزماتها الذاتية، فيما يتعلق ببناها الداخلية والفكرية، وواقعية برامجها وشيخوخة آليات عمل يتطلب منها استيعاب المتغيرات السريعة في العالم مع تزايد تأثير ثورة الاتصالات. هذا الانهيار أيضا، جعل خارطة الأعداء والأصدقاء، تتغير، فنهاية الحرب الباردة، كانت الايذان لبدء حرب جديدة. فبروز الاتحاد الأوروبي كقوة اقتصادية وسياسية، ونموذج دولة الرفاه أصبحا مما يقض مضاجع الشركات الاحتكارية والبنوك الكبرى ومنظري “الليبرالية الجديدة” الذين تشير اصابع الاتهام لهم في اغتيال “اولف بالمه“، الاشتراكي الديمقراطي السويدي، الذي اغتيل بشكل غامض عام 1986 وكان من اشد المعارضين والمكافحين ضدها ومدافع بقوة عن نموذج” دولة الرفاه“.
نجحت أحزاب اليمين المتطرف في اللعب على المشاعر القومية للمواطن الأوروبي، وتقديم برامج انتخابية محملة بالوعود، مستثمرة أخطاء حكومات أحزاب اليسار، ونتائج الازمات الاقتصادية العالمية والمحلية، خصوصا الأزمة المالية العالمية عام 2008 وعام 2011، وارتفاع عدد العاطلين عن العمل، والاسعار في المواد الغذائية ووسائل النقل والسكن والخ.
تحركت قوى اليمين بطرق مبتكرة وحيوية، تعتمد التواصل المباشر والاثارة، بين صفوف الشباب خصوصا، وطرح شعارات صارخة حول معالجة التفاوت في الدخل ورفع الضرائب على ذوي الدخول العالية، وتحسين المعاشات التقاعدية وتحديد سن التقاعد ومعالجة سياسة الهجرة وضرورة خفض معدلاتها مزايدا حتى على برامج القوى اليسارية. فنجحوا في الوصول الى برلمانات العديد من دول الاتحاد الأوروبي، ونجحوا في اخراج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، مدعومين بشكل مباشر وعلني من الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” ممثلا للتيار الشعبوي اليميني.
في فنلندا، كان وجود حزب الاتحاد الوطني الفنلندي (يمين معتدل)، في حكومات مشتركة متعاقبة، فرصة لليمين المتطرف للاستفادة من الحياة الديمقراطية، لإيصال عناصر متطرفة للعمل تحت قبة البرلمان الفنلندي للترويج لأفكارهم ومفاهيمهم، هذا إذا اعتبرنا “الإسلام فوبيا” ومعاداة السامية وخطاب الكراهية برامج أيديولوجية. لهذا لم يكن مفاجئا تأسيس حزب يميني متطرف في فنلندا مثل“الفنلنديين الحقيقيين“، بعد انسلاخ شخصيات متطرفة من حزبي الوسط والاتحاد الوطني الفنلندي والتحقت بهم أسماء نشطة في صفوف منظمات النازية الجديدة، وكان نصرهم الأكبر يوم الفوز في انتخابات 2015، واشتراك ثلاثة أحزاب يمينية في تشكيل الحكومة، التي سماها الشارع الفنلندي “حكومة الأغنياء“.
وساعد وجود احزاب اليمين في الحكومة الفنلندية، ونشاط شخصيات شعبوية متطرفة، في نمو خطاب الكراهية لتتبناه وتعتاش عليه قوى متطرفة، تعتمد اساليب الاثارة السياسية والتصريحات النارية، وترفع شعارات تلائم مزاج الشارع المتذمر، اضافة الى اعتماد برامج تعارض الهجرة ووجود الاجانب عموما، ساعد كل هذا على خلق أجواء مناسبة لنمو الحركات العنصرية وانتشار افكارها بشكل واسع، وثم تأثيرها على مزاج الشارع الفنلندي.
وعضدت ذلك موجة الهجرة في عامي 2016 –2015 التي لم تكن فنلندا مستعدة ومتهيئة لها لوجستيا وفكريا. يمكن القول أيضا انه خلال العقدين الأخيرين تغيرت شخصية وسائل الاعلام الفنلندية، اذ تسلل خطاب الكراهية الى بعض الصحف الفنلندية. ولابد من الإشارة الى أن هناك قطاعاً من المهاجرين للأسف بخرقهم للقوانين وتجاوزاتهم المتكررة وارتكابهم جرائم التحرش والاعتداء الجنسي، ساهموا في إعطاء الفرصة لقوى اليمين والعنصريين والاعلام الموجه، لنشر خطاب الكراهية، الذي خلق الخوف والتوجس عند الكثير من الفنلنديين.
وهناك سؤال يمكن مواجهته كثيرا: ألم يكن المهاجرون القدامى يرتكبون مخالفات وجرائم مختلفة؟ الجواب نعم بالتأكيد، لأنهم بشر وغالبيتهم جاءوا من نفس المجتمعات التي جاء منها المهاجرون الجدد، لكن يجب ان نعرف أن عدد المهاجرين لم يكن كبيرا، وعليه فالمخالفات كانت تبدو نسبيا محدودة العدد، والاهم لم يكن هناك نشاط ملموس للجماعات العنصرية تعتاش على هذه المخالفات، ولم تكن هناك وسائل تواصل اجتماعي تعمل ليل نهار في نقل الاخبار والمبالغة بها لأهداف سياسية.
ان فنلندا، كدولة مدنية دستورية، لا يزال نظامها يحرّم العنصرية ويمنع التفرقة بين المواطنين، وتحكمها المؤسسات والقوانين، وان الاحزاب اليمينية، التي شكلت الحكومات الأخيرة، هي المسؤولة عن التغيرات السلبية في المجتمع الفنلندي. وباعتقادي انه ومع تزايد اعداد حملة الجنسية الفنلندية، من بين صفوف المهاجرين، فأن هذا يجعلهم ورقة انتخابية مهمة، فبإمكانهم ان يكونوا عاملا حاسما في قطع الطريق على قوى اليمين وعدم عودتها للحكم مرة اخرى، وذلك بالتوجه الى صناديق الاقتراع في 14 من نيسان الجاري، واختيار المرشح المناسب من أي قوى يسارية، لأجل الحفاظ على نموذج دولة الرفاه، التي تحاول قوى اليمين، التي تعزز وجودها بتشكيل أحزاب جديدة، تقويضه والقضاء عليه، ولأجل قطع الطريق على استمرار خطاب الكراهية وسياسة معاداة المهاجرين، والاهم لأجل ان يعيش الجميع بوئام وسلام ويساهموا في بناء حياة سعيدة للأجيال القادمة.