بعد أن نشرت الكراس الموسوم “كوارث ومآسي أتباع الديانات والمذاهب الأخرى في العراق” على عدد من المواقع الإلكترونية الصديقة، ومنها الحوار المتمدن وصوت العراق والناس ومركز النور وعنكاوة…، وإلى عدد كبير من الصديقات والأصدقاء وصلتني رسائل كثيرة مؤيدة ومطالبة بنشر المادة ككراس ورقي. وهو الذي سيحصل قريباً. ولكن وصلتني رسالة مهمة أيضاً من أخ كريم وأكاديمي انشر نصها في الآتي بعد أن رجوت الزميل موافقته على نشرها ونشر إجابتي عنها فوافق. وارتأيت عدم وجود مبرر لذكر اسم صاحب الرسالة لاسيما وأن الموضوع عام ويدور في خلد الكثير من الناس:
“أحسنتم استاذنا بتذكيرنا بكل هذه الماّسي والتي ربما بدأت بسميل ولم تنته حتى هذه الساعة ، لكنني اختلف معكم بتحميل حكامنا على مر العصور المسئولية الاولى ، لأنني ارى ان الشعب هو من يتحمل المسئولية الاولى ، ولو كنا شعبا واعيا وممتلكا لإنسانيته ككل الشعوب المتحضرة لما نجى حكامنا بهذه الجرائم بل ولجابهناهم بالعقاب بدل التهليل والتأييد لهذه المذابح حتى هذه الساعة ، استاذي الكريم عندما كنت في كردستان صدمت بان هناك من هو موجود في شعبنا الكردي من يحن لصدام وايامه ويبرر له حلبجة وغيرها !!!! واذا كان هذا شيئا نزيرا فانظر الى تنامي الصداموية في كل انحاء العراق الان وامنيات الشعب بمجيئ من يذبح حكامنا الحاليين واحلامهم بتعليق هؤلاء في الساحات العامة!!!! …… البداية مع الشعب استاذنا الكبير وليست في اي مكان اخر“.
الأخ الفاضل
تحية طيبة
شكراً جزيلاً على تجشمكم قراءة كراسي الموسوم “كوارث ومآسي أتباع الديانات والمذاهب الأخرى في العراق” وتفضلكم بإبداء ملاحظاتكم ورأيكم حول بعض ما ورد فيه. بودي أن أشير إلى الملاحظات التالية فيما يخص رأيكم الذي أحترمه:
- كما تعرفون بأن الدولة، بسلطاتها الثلاث، وعلى وفق الدستور العراقي، مسؤولة عن القيام بكل الجهود الممكنة والضرورية لرفع وعي الإنسان الفرد ووعي المجتمع أو وعي الشعب، فوعي الفرد والمجتمع لا يتشكلان بشكل عفوي وعشوائي، بل من خلال جملة من السياسات والإجراءات الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والثقافية والإعلامية والبيئية. وهذا الجهد المتشابك والمعقد والطويل الأمد لا يمكن أن يقوم به الأفراد، بل هو بالأساس جزء عضوي ورئيسي من مهمات الدولة بسلطاتها الثلاث ومؤسساتها، ولاسيما التربوية والتعليمية والإعلامية من جهة، وتأمين تطور اقتصادي يساهم في تخليص العراق من علاقات الإنتاج من قبل الرأسمالية ومن بقايا العلاقات العشائرية المتجددة في البلاد ومن تأثير التشوه الديني الذي تمارسه جملة من المؤسسات والمرجعيات الدينية، ويفتح المجال لتغيير في بنية المجتمع الطبقية وفي وعيها الاجتماعي. ومن هنا يمكن أن نؤكد بأن ضعف الوعي لدى الأفراد والمجتمع، وبتعبير أكثر دقة، لدى الغالبية العظمى من المجتمع ناشئ عن تخلي الدولة العراقية عن أكثر مهماتها أساسية وأهمية من جهة، وعن ارتكاب أخطاء فاحشة وسوءات في سياساتها في هذه المجالات من جهة أخرى. فعلى سبيل المثال لا الحصر نشير إلى إن العلاقات شبه الإقطاعية والعشائرية لا يزيلها الأفراد، حتى لو رغبوا في ذلك، وكذلك الموقف من المرأة والأحوال الشخصية، بل هي من أهم واجبات الدولة، إذ يفترض فيها إصدار قانون الإصلاح الزراعي وإلغاء قانون العشائر، وصياغة قانون حديث للأحوال الشخصية، وكذلك التوسع في التصنيع وتحديث الزراعة والتعليم والتثقيف العام ومحاربة التشوه والزيف الديني، واستخدام الفنون الجميلة المتنوعة لزيادة حس الإنسان المرهف بالحب والجمال والذوق الحسن والعلاقات الإنسانية المتبادلة …الخ.
كما إن رفع وعي الناس هو من مهمات الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني وأجهزة الإعلام الحكومية وغير الحكومية أيضاً، فهي التي تتحمل المسؤولية بالدرجة الثانية. ولكن علينا، ونحن نطرح هذه المسألة، أن نتابع ماذا حصل للأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني خلال العقود المنصرمة التي كانت تحاول القيام بمثل هذه المهمات، لقد كانت تحارب بقسوة لا مثيل لها في غالب الأحيان. ويكفي أن تمر على تاريخ العراق الحديث، أي منذ ولادة الدولة العراقية الملكية في العام 1921 لترى كيف عانت الأحزاب السياسية المعارضة وكم هم أعضاء هذه الأحزاب الذين حملوا راية التنوير الفكري والاجتماعي والسياسي الذين دخلوا السجون والمعتقلات، وكم هم الذين عانوا تحت التعذيب حتى الموت أو استشهدوا على أعواد المشانق أو في ساحات النضال أو في السجون أو عبر الاغتيالات. فحرية الأحزاب وقدرتها على الحركة والتوعية تأتي من طبيعة الدولة بسلطاتها الثلاث، أي بالنظام السياسي القائم. فحين تكون سلطات الدولة الثلاث غير ديمقراطية أو استبدادية، فلا يمكن للأحزاب أن تفعل الكثير في هذا الصدد إلا بحدود ضيقة ومقيدة.
دعني هنا أذكر بواقع أن الدستور العراقي يحمل مع ديباجته ومجموعة من مواده الكثير من المفرقعات التي تتفجر في المجتمع. دعني أشير إلى واحدة منها: ترد في الفقرة أولاً من المادة الثانية من الدستور ما يلي: “اولاً ـ الاسـلام دين الدولــة الرسمي، وهـو مصدر أســاس للتشريع: أ ـ لا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت احكام الاسلام. ب ـ لا يجوز سن قانون يتعارض مع مبادئ الديمقراطية. ج ـ لا يجوز سن قانون يتعارض مع الحقوق والحريات الاساسية الواردة في هذا الدستور.” ولكن العراق عديد الديانات والمذاهب وبالتعالي لا يمكن تمييز دين ع دين آخر من ناحية، كما إن الدولة لا دين لها فهي شخصية اعتبارية، وبالتالي يبدأ التمييز فيها ثم يتواصل ليؤكد لا يجوز سن قوانين تتعارض من ثوابت أحكام الإسلام، فكيف ونحن في عراق فيه أتباع لديانات أرى ولها أحكام غير أحكام الإسلام في دياناتها.
ثم تابع التربية الطائفية الموجهة ضد الآخر في العراق. اليك أبشع نموذج حصل قبل سنوات حين وقف الطائفي حتى النخاع والمستبد بأمره رئيس الوزراء الأسبق في مدينة كربلاء حين صرخ كالبوم: “المعركة اليوم هي بين أنصار الحسين وأنصار يزيد“.، ويقصد بوضح تام بين الشيعة والسنة، علماً بأنه يعرف مدى تقدير السنة للحسين واستشهاده، إنه يغرف من الماضي ليشوه علاقات الناس الراهنة.
وبعد دور الدولة والأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، يأتي دور الأفراد، ولاسيما الفئات المثقفة والواعية من العمال والكسبة والطلبة في عملية التوعية والتنوير، سواء أكان من خلال التعليم والتثقيف الذاتي أو من خلال انخراطهم بالقوى والأحزاب السياسية، فهم في مقدورهم أن يمارسوا وبحدود ضيقة ايضاً عملية التوعية الفردية والجماعية في صفوف المجتمع.
- إذا اتفقنا بشأن النقطة الأولى فيمكن أن نجد في المجتمع الذي لم تساهم الدولة في رفع وعي الفراد او المجتمع بصورة صحيحة وغير مشوهة، اختلالات في تفكير الأفراد، إزاء هذه القضية او تلك أو الكثير من القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها.. ، وسواء أكان هؤلاء الأفراد من الكرد أم من العرب أم من غيرهم من أتباع القوميات الأخرى في العراق، الذين يحنون لحكم صدام حسين، حكم دكتاتوري أهوج وشوفيني مريع. وهناك، أخي الكريم، من يحن للنظام الملكي، لأنه لم يعش تحت وطأته، أو ما جاء بعد العهد الملكي كان مريعاً بحيث جعله ينسى العهد المرير السابق. ولكن هذه المسألة مرتبطة مباشرة بتخلف الوعي أو ضعفه لهذا الشخص أو ذاك أو حتى لدى جماعة، فذاكرتهم قصيرة جداً وينسون تماماً إن الذي وضع أساس الخراب، وأوصل القضية المزرية “من الباب للمحراب” هو النظام الملكي، أو بتعبير أدق، النظام السياسي والحكومات المتعاقبة في العهد الملكي، حيث تم تشويه الدستور ووضعت قوانين مضادة للقانون الأساسي (الدستور)، وزورت الانتخابات وصودرت الكثير من الحقوق وحوربت المعارضة وزج بالكثير منهم في السجون بل وأعدمت مجموعة منهم …الخ.
- علينا أن نقرأ تاريخ العراق المديد بإمعان ودقة، تاريخ العراق منذ العهود القديمة، ولكن وبشكل خاص منذ عهود “الفتح الإسلامي الأول” فالعهد الأموي والعهد العباسي وما بينه وبين العهد العثماني من دويلات، ومن ثم العهد العثماني، فالدولة العراقية الحديثة والمحتل البريطاني. لقد كان تعامل الغالبية العظمى، إن لم نقل كل الحكام، وحشياً، شرسأ وعدائياً على مدى قرون مع السنين العجاف في العراق، فيكفي أن تقرأ كتاب الفقيد والشخصية الديمقراطية المحامي عبود الشالجي الموسوم “موسوعة العذاب” بسبعة أجزاء، أو كتاب المؤرخ والباحث الديمقراطي الفقيد هادي العلوي الموسوم “التعذيب في الإسلام” أو كتابي الموسوم “الاستبداد والقسوة في العراق، الصادر في عام 2006 في السليمانية وكتب كثيرة أخرى، لتتعرف على الأسباب الأساسية التي ساهمت بخلق روح الخشونة والقسوة والتشفي والانتقام والانتهازية والتشوه والتشوش في المعايير والقيم ، لدى الجمهرة الواسعة من الناس في العراق. ولكن علينا الحذر في هذه المسألة، فهذه الظاهرة ليست عراقية بحتة، بل كانت أو/و لا تزال موجودة ليس في صفوف الشعب العراقي بكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه فحسب، بل هي موجودة لدى كل الشعوب التي ماثل وضعها وتطورها وضع العراق وتطوره تقريباً وما مرت به تلك الشعوب أيضاً. إنها ليست جينات يلد معها الفرد، بل هي نتاج الدولة والمجتمع، أي العلاقات الاجتماعية السائدة في بلد ما وتطورها..إلخ.
- لا أطرح جديداً حين أذكر، أخي العزيز، بأن القرآن مليء بصيغ التعذيب السادية المرضية وروح الانتقام والقسوة في التعامل مع الآخر، وهي تربية يومية يعيش الفرد والمجتمع عموماً في البيت والمدرسة والشارع والدولة والمجتمع. ويمكن أن نقرأ ذلك فيما ينشره الزميل الفاضل والصديق الأستاذ ضياء الشكرجي في الفترة الأخيرة من مقالات على صفحات موقع الحوار المتمدن، لهذا علينا ألَّا نستغرب أبداً من حصول ما تشير إليه في رسالتك الكريمة. إنه واقع مرّ ومرير في آن. ومهمتنا كمثقفين ديمقراطيين لا أن نراقب هذه الحالة ونكتب عنها ونحلل أسبابها، بل من واجبنا العمل على تغيير هذا الوضع المزري الذي يسود اليوم في العراق، علينا المشاركة في رفع الوعي الفردي والجمعي ليستطيع العراقي والعراقية إدراك ما يجري له وما يريدون به في دولة ذات نظام سياسي فاسد ومشين وغير عادل، وكيف يفترض أن يواجه هذا الواقع ويتغلب عليه. وأخيراً أقول: نعم، المطلوب هو العمل مع الشعب لتغيير وعيه وتنويره وتطويره، ومعه أيضاً لتغيير الوضع القائم لصالح الشعب وحريته وحياته الديمقراطية وكرامته وعيشه الكريم.
- هل يمكن أخي الفاضل أن تتصور كيف يمكن أن ينشأ الصبايا والصبيان، أولئك الذين ولدوا مع ولادة هذا النظام الطافي البليد والرجعي، وينمون ويتربون يوميا من خطب وكتب صفراء مسمومة، وفي ظل أحزان داكنة يعيش تحت وطأتها هؤلاء الشباب والأطفال بسبب ذكرى وفاة هذا الإمام أو ذكرى مقتل إمام أخر أو ولادة آخر مصحوبة بالبكاء على ولاته لأن ما شهيدا. يبقى الحزن والبكاء واللطم على الصدور وضرب السلاسل (الزناجيل) بسكاكينها المدببة على الظهور والتطبير سيد الموقف. وهل تتصور كيف يمكن أن ينشأ أطفالنا وكيف يتكون وعيهم في ظل المناحات اليومية والكذب والتشويه والتزوير الذي يتلى عليهم من على منابر الجوامع والمساجد وفي المدارس والجامعات وفي كل شارع وزقاق في العراق، للتاريخ والأحداث وليعمقوا الصراع الطائفي في البلاد، كما فعل رئيس الوزراء الأسبق ورهطه وحزبه وتحالفه السياسي الشيعي. لهذا علينا أن ندرك بأن وعي الكثير من العراقيات والعراقيين قد نشأ وتور في ظل هذه الأوضاع، فلا تستغرب مما حصل ويحصل في بلاد الرافدين منذ أن احتلت القوات الأمريكية العراق ونصبت القوى الطائفية المقيتة على رأس السلطة
لك ودي وامتناني على إثارتك الموضوع، وما أتمناه هو ان يكون فاتحة حوار ونقاش علمي رصين بصدد هذا الموضوع الحيوي والمهم.
كاظم حبيب