برع الكاتب ( شوقي كريم حسن ) في توظيف التقنيات السردية المتطورة في اساليبها وادواتها , بصياغة ضمن تشكيلات تعبيرية متنوعة , في اسلوبية التداعي الحر في البنية السردية , في طرح افرازات الهموم الداخلية في الكشف الواسع , وتحويلها الى العام الخارجي . في استنطاق المشاعر المكتومة وكشف خزينها المتراكم , المتأثرة من اعماق الواقع والحياة , في تداعيات تسير بخطى متسارعة , نحو الجحيم والمعاناة والعسف الظالم , في القهر الاجتماعي والسياسي , بسوط الارهاب والاضطهاد والبطش الطاغي المتسلط , في نيرانه المشتعلة بالسقم على شريحة الفقراء, والمعدومين والمحرومين من ابسط كفاف العيش , في واقع وقع في براثين الجحيم والموت المجاني , فصارت الحياة عبارة عن توابيت تسير بجحافلها الكثيرة في الظاهر المكشوف نحو المقابر , الصيغة التعبيرية في المتن الروائي , يلعب بدور بارز ومحوري , الضمير المتكلم ( أنا ) بصيغته المركبة , في تداعيات الكاشف المكنون , بين الراوي والمروي والمروي اليه , او بين السارد والمسرود . في اسلوب لغوي متين ورشيق حتى اقترب من لغة النثر الشعري , ووظف اللغة العامية ومفرداتها الحية والنابضة في الحياة ووجدان الناس , لكي تعطي قوة في التعبير والدلالة . هذه التشكيلات الاسلوبية المبتكرة في المتن الروائي الحديث , بتقنياتها الحديثة المتنوعة , تختلف عن اساليب النص الروائي التقليدي والمألوف الكلاسيكي . وانما الروائي اراد ان يبرز قدراته السردية والاحترافية في فن الرواية , لذلك اختيار اسلوب متجدد من الابتكار في الطرح النص الروائي , في التلاعب بالاساليب التعبيرية , بذائقة التجديد والابتكار , لذلك اشار اليها بأنها ( ليست رواية ) وانما اسلوب متطور في التقنيات السردية في الابداع في الرواية المتجددة والحديثة , لذلك اختار اسلوب تناول مجموعة من النصوص من الرؤى والرؤيا , من خزين المعاناة والقهرالاجتماعي والسياسي لشرائح الفقراء , عبر الازمنة السوداء المتعاقبة القديمة والحديثة . في هذا المخزون من المعايشة الحياتية الفعلية بالصميم , والتي اكتوى بحمم نيرانها المتفجرة والمتشظية , لذلك جاءت بهذا التوسع من التناول والطرح , وسلط الضوء على الازمات التي تأخذ بخناق الفقراء في حياتهم اليومية . في محركات الظلم والمعاناة والعسف , كأن ماكنة الحياة ماهي إلا لزهق الارواح البريئة , سواء في آلية الخراب أوالموت أوالحروب , او بالاحرى هي محنة , للناس المحرومين والمعدومين والمسحوقين , ان يختاروا بحرية الاختيار , بين موت وموت , أو بين جحيم وجحيم , او بين حرب وحرب . وفي كل الاحول هي عبارة عن نزف دماء جارية , هذه الحالات الجافة بخشونتها الوحشية التي يعاني منها الفقراء والطبقات المسحوقة , وهم يصارعون بأسنانهم من اجل البقاء على كفاف العيش باحلامهم الفقيرة ( الفقراء احلامهم فقيرة مثلهم …. وحدائق الفقراء لا تثمر غير الفقر نفسه )ص152 . هذا الجحيم الحياتي , الذي تحمل ثقله الثقيل والمرهق , الطبقة الفقيرة والكادحة بعرق جبينها وكدحها الشاق . لكن حياتها اصبحت رخيصة , بنزيف دمائها تجري بشكل لا يتوقف . نتيجة عنجهية وغطرسة القوى المتسلطة والغاشمة التي فرضت نفسها بالقوة على الواقع , مما اصبح الرهان على استنزاف حياة الفقراء , عملية رخيصة , بهدف تحقيق احلام مريضة , من المجانين ألذين من اعتلوا حصان السلطة , من السابقين والحاليين , كأنهم يتعاملون مع مع الفقراء والكادحين . كأنهم نفايات تستحق الطمر والحرق , او هم بضاعة رخيصة صالحة فقط , للموت والحرب . لاشك أن الروائي وظف سيرته الحياتية وتجربة معيشته ببراعة متناهية , ليتسلق على البنية السردية . وخاصة أنه ابن الفقر والفقراء , في مدينة الفقراء الكادحة ( مدينة الثورة ) التي عانت شظف العيش والحرمان والاهمال عبر مراحل الظالمة , عانت العسف والظلم والارهاب والبطش والتنكيل والاستلاب , في العهود الجائرة والطاغية قديماً وحديثاً . سواء في زمن الامبراطور الطاغية . او في زمن كهنة المعابد الحاليين , ويبقى ولم يتغير مراحل البؤس الحياتي الجاف بالقحط الصحراوي . لذلك جاءت اساليب المتن السردي , بحالات انفجارية من الداخل الذات , الى الخارج العام , في تنوع اساليب التفجير التعبيري البليغ والعميق في دلالته . من الحوارات الداخلية ( منولوج ) الى الحوار الخارجي . الى توظيف الاسترجاع الزمني ( فلاش باك ) . الى الارهاصات السايكولوجية النفسية المتشظية في انفجارات تداعياتها , في القهر الضاغط والمضغوط بالاحباط . الى رصد حالات القهر بأشكاله المتنوعة من العذاب . اي ان النتاج الابداعي , هو حصيلة هذا الرصد والتشخيص بجوانب متعددة , وأخذ شكل ملحمة , معاناة الفقر والفقراء . واقع ليس هو إلا ماكنة طحن للفقراء سحقاً . واذا كان الروائي ( محمد شكري ) ابدع في تقديم رواية ملحمة الفقر والفقراء , في رواية ( الخبز الحافي ) من خلال معايشته ومحنته الذاتية وهو يحتضن فقر العيش والمعايشة , في اشد حالات القهر والحرمان والجوع , من المهانة والاستلاب والانسلاخ , ان يتحول الفقر الى جحيم حياتي للناس البسطاء , فأن الروائي ( شوقي كريم حسن ) يقدم في ابداع روائي , ملحمة الحزن العراقي , ملحمة جحيم الحياة للفقر والفقراء , الذين يجدون كل ابواب الحياة مقفلة بالاقفال الفولاذية , سوى باب مفتوح الى الحرب والموت والخراب , سوى باب يفضي الى المقابر . يقدم ازمة العذاب العراقي . ابطالها المسعورين بالوحشية والتوحش , هم ( الهتلية ) وهم موجودون في كل زمان ومكان , لا ينتمون الى طبقة وشريحة معينة ومحددة , فأنهم موجودين في كل الطبقات والشرائح الاجتماعية . وفي كل ميادين الحياة من الاعلى الى الاسفل . فمفردة ( الهتلية ) يقابلها مفردة ( السرسرية / فئة سافلة ومنحطة بكل شيء ) . يعني نجد ( سرسرية ) في الاخلاق والضمير . ( سرسرية ) في السلوك والتصرف . . ( سرسرية ) في امتهان الارهاب والبطش والتعذيب . ( سرسرية ) في القمع في الارهاب الاجتماعي والسياسي . ( سرسرية ) في الدين . ( سرسرية ) في التمسك بصولجان السلطة والنفوذ , حتى على الخراب وجريان انهار من الدماء . ( سرسرية ) في اشعال الحروب المجنونة والعبثية . ( سرسرية ) في المتاجرة بعهر النفاق والكذب والخديعة . ( سرسرية ) في استخدام كواتم الصوت والقتل والاغتيال والاختطاف . ( سرسرية ) في السحت الحرام واللصوصية ….. الخ . يعني هذه الذئاب الادمية , تجعل الحياة بين موت محقق ومؤجل , بين جحيم وجحيم . بين دم ودم , وتكون اعمار البشر عبارة عن ضياع ( حاصرت وجودنا وتحولت الى رقيب يحدق بخطواتنا ويعد انفاسنا , ادمنت الدم حتى باتت لا تعرف الوانها . . الجدران مصائب اعمارنا الضائعة بين موت مؤجل وانتظار محسوب الانفاس / تبتهج حين تلامس خشونتها يافطات النعي ) ص22 . من اجل ترويض الناس بالخنوع والمذلة المهانة . ان يكون الانسان مسلوب الارادة والفعل , مشلول وكسيح , في حزمة من المحرمات والمحظورات بالجنون العبثي . محروم من السؤال والتساؤل حتى لو همساً , او يبدي شبهة بسيطة من الامتعاض والتذمر والاسى , من جحافل التوابيت . عن جحافل الموت الذي يغزو الحياة بكثافة . ان يتجرع خبز الاحباط والانكسار والانهزام . وهو قانع بالقدر الوحشي المسلط عليه , وليس له اختيار اخر . وما عليه سوى تلبية طلباتهم ورغباتهم , وغير مسموح له بالكلام , سوى ان يردد كالببغاء , نعم ونعم ونعم . هذه اختياراته المفروضة علية , وعليه ان يقبلها برضى وتقديس وقبول خاشع ( تصور انك تعيش بين خيارات لا دخل لك فيها ….. خيارات غريبة عنك وعن أرادتك …… هم من اختار كل شيء … وعليك ان تقبل وترضى وتقدس … أن تعتبر اختياراتهم قانونا لا يحق لك الاعتراض عليه , أو حتى محاولة تصحيح بعض من الاخطاء .. لا أحتمال للخطأ … القبول هو الحل الوحيد لنجاح مسعاك في استمرار الحياة واستمرارك معاً … !! ) ص134 . هذا الرصد والكشف بالحبكة السردية التي ترجمت حقيقة الواقع الفعلي ومجرياته , في الحياة ادمنت على الدم والموت والجنون . في واحلام القوى الطاغية المتسلطة على رقاب الناس . قوى غاشمة ثنائية تتبادل الادوار والتداول على السلطة والنفوذ . واحد يحل مكان الاخر , او احدهم يكمل مسيرة الاخر , لا فرق بين الماضي واليوم , طالما هم نفس العقلية ونفس الاحلام المريضة , ونفس عبادة الصولجان والنفوذ والمال , وحالة القمع والارهاب والبطش يعمل اعلى قوته ضد الناس الابرياء , لم تتغير الحال اطلاقاً , سواء في عهد الامبراطور السابق , أو كهنة المعابد الجدد , سوى الاول بالزي الزيتوني , وثاني في جبة ابليس واللحى الشيطان . والحياة مستمرة بالحداد والسواد , والموت والتوابيت . نفس شريعة وطقوسها في التطبيق , في الطاعة والتقديس والتمجيد , لذا فليس غريباً في سريالية الواقع المجنون , ان يكون الكلب ألهاً يرسم الحياة للاخرين , يمنح الحياة والموت . وليس غريباً حثالات ومجرمي وهتلية ( السرسرية ) الامس , ان يصبحوا اليوم , كهنة المعابد , فهم رب الارباب , والرب الاعلى . نفس الكوابيس تزكم الواقع في رعبها . واذا كان الامبراطور المقبور , يتعكز على امجاد التاريخ زيفاً وخداعاً , في انهاض الامة لتكون وقوداً لحروبه المجنونة , بحجة الدفاع عن امجاد تراث التاريخ العظيم , والارث التاريخي العظيم الذي نحمله من الاجداد بحاجة الى سفك انهار من الدماء , للحفاظ على هذه البدعة المزيفة , التي صار يعلكها ويعزفها ليل نهار , واصبحت سوطاً مخيفاً ومرعباً , يتلاعب على نفاق التاريخ ( – دعنا نتبول على فساد هذا التاريخ ؟
– امجنون انت …. اصمت !!
– ما معنى هذه الترهات التي لا تدل على شيء غير الاكاذيب !!
– انت تحطم تاريخ انسانيتنا .. اسكت !!
– لا فائدة ترجى من سكوت واحد لا تهمه هذه النفايات مثلي … ارغب ان ابول على كل عروش الملوك وتواريخهم الزنخة .. فساد ذكوري يعلن استبداده بين فخذي امرأة تخاف الابتسام …. ما الذي اعطانا هذا الذي نجبر على تعلمه غير حكايات جوف … وبكاء مر على اطلال تفاخر عمد بدم الفقراء وآهات المساكين !! ) ص105 . هكذا كان صهيل الامبراطور المجنون , يدق طبول الحرب والموت , بأنه يجد رؤساً جاهزة للحصاد آنَ قطفها , يرى ارواحاً جاهزة للقطاف لكي تزهق . وبهذه الوحشية الدموية , كان الناس يتشبثون برب السماء من خلال كهنة المعابد بالانهزام , لانقاذهم من هذا الجحيم , لان اصبحت الحياة جحيم للحروب ( لكن الحروب جعلتنا ندمن الانهزام نلوذ بأذيال الكهنة الذين يولولون ليل نهار من اجل اكاذيب اغلقت امام حبورنا ابواب استجابات السماء , لا يمكن لواحد مثلي ان يؤمن برب لا يستقم عن اغاثة أمرأة لوعتها عطور الفجيعة , تجلسني / عند عرش قلقها ) ص170 . ويحمل الراية السوداء كهنة المعابد , ناموس الموت نفسه لكن تغير ثوبه الخارجي , في بدعة الكفروالالحاد وعدم الخشية من سلطة رب الارباب , من اولاد الزنى الذين لا يخافون الله , فعاقبتهم نار وبراكين حارقة بأسم الرب الاعلى . لان هؤلاء اولاد الزواني يدنسون الدين بالنجاسة , ويتعاملون بالمنكر ولا يخافون عاقبة الله , ولا يطيعون اولياءه الصالحون على الارض , انها نغمة ارهاب وبطش جديد بأسم الرب وشريعة الدين ( – اولاد الزواني …. لا تعرفون سوى التعامل بالمنكر ….. لا تخافون الله أبداً . . !!
– أبن القحبة … لا تعرف الله!!
– أتدري مالذي يمكن أن نفعله الآن ….. قلت لا تتحرك وألا ارسلك الى جهنم بطرد بريدي عاجل . .
– اتركه لا فائدة منه …. كلب لا يستحق حتى رصاصة رحمه … هؤلاء اكثر نجاسة من كلاب الارض ….. دعوه يفكر بلحظته الآتية … لتعذبه تلك اللحظة قبل ان نوصله الى الخاتمة !! ) ص 189 .
هكذا تساوت الكلاب المسعورة القديمة والجديدة .
( حرام أن اجد نفسي محاطاً بكلاب تنتظر تحولي الى فطيسة نتنة !!
– لا فائدة أينما تولوا فثمة وجه كاهن يطالك بالموت !! ) ص209 .
( لان ثمة كهنة عبروا خطوط مسراتهم باتجاه ما كان حصص الالهة /
( ايها الرب …… هل ابصرت قبراً يمشي …
( ايها الرب هل رأيت جدرانا تنزف صراخاً واحتجاجاً
( أيها الرب نحتاج الى امواج مستحيلة من الاجابات التي يتوجب ان تغسل اعمارنا …. أم تراك اعلنت استسلامك لهبل الكهنة وكراهيتهم ؟ /
( ايها الرب …… كيف يمكن اننسى ما حدث ؟ . ) ص231 .
ولكن يجب ان لا يغيب عن بال كهنة المعابد , بأن حبل المشنقة ألتف حول عنق الامبراطور . والحليم تكفيه الاشارة .
× رواية : هتلية
× الملف : شوقي كريم حسن
× الطبعة الاولى : عام 2018
× عدد الصفحات : 290 صفحة
× التصميم والاخراج الفني : أحمد عبدالحسن