من ملاحم الجياع 1
(تنعى شركة الفردوس لتقطيع الحجر فقيدها المنتسب فلان الفلاني اثر حادث عمل).
لا اعرف ما علاقة الفردوس بمعمل لتقطيع الحجر؟! سوى انه يرسل العاملين فيه الى الفردوس بوقت اسرع من المعتاد لكثر الحوادث فيه، لكن اسم ” الجاف” _وهو لقب مدير الشركة_ له علاقة بالعمل والحجر والمتانة والتعامل!
هذا ما كان يقوله (كمال) الشخص المرح والسائق لأليات الشركة المذكورة و التي لم تدم عملها بعد حرب الخليج الثانية، وكحال معظم المعامل والشركات المفلسة بعد نكبة الحرب سرح معمل تقطيع الحجر معظم موظفيها ومن ضمنهم كمال ليلتحق بجيش العاطلين عن العمل ويصبح كمعظم السنجاريين رقماً مضافاً لعمال البساتين في ربيعة.
“مشروع ري الجزيرة ” او مايسميه الاهالي بساتين ربيعة فيها الاف القصص التي لا تشبه احدها الاخرى وفيها مئات الملاحم العظيمة ضد الجوع والطغيان والعبودية بشكلها الجديد. في ربيعة حكاية مجتمعٍ جائع يموت ناسه في الخريف مع اعشاب الطماطة والرقي ويزرع ذاته مع بداية كل موسم ليطعم صغاره الذين سيموتون نهاية الموسم الجديد كدورة حياة تلك الاعشاب الموسمية التي تزرع بالدين الآجل وتحصد بعد جهدٍ مذل بالقهر والعذاب والدموع .
اتذكر في منتصف التسعينات من القرن الماضي حينما جاءنا كمال الى شارع الصناعة على ظهر شوفرليت متعبة كصاحبها في ظهيرة صيف حزين بشروالٍ رهل وذقنٍ ملتحي، صرخ دون مقدمات وهو الذي لم يبحث يوماً عن مجدٍ او بطولة ولا يعرف من كلامه ان كان مزحٍ او جد : ايُ غشيمٍ يصلح سيارتي بالمجان، انا لا املك فلساً…هناك في ربيعة اصبح “المعلان” شيخاً لهُ قانونه ولهُ احكامه…وهنا لا سلطة فوق سلطة “الرفيق”، والفقراء مثلي بالالاف يزرعون بالدين، فالكيمياوي جلبناه للمحصول من صاحب الارض بالدين، والبذور كذلك بالدين، ووصول الماء للزرع بالدين ،ومزروعاتنا تصلُ للعلوة بالدين، لا شي مجاني لنا سوى حبة بغداد والملاريا والتيفوئيد!
يعلم كمال جيداً مقامه عند معظم الاهالي من ضمنهم شارع الصناعة، ويعلم بأنه لن يـُرفض له طلب في تصليح سيارته من قبل الجميع ،لكن الجوع والذل وصل لمراحل لم يعد يستطيع المدرك تحمله وهو القائل بعد ساعات من الحادثة مع شرب الشاي والسكارة في فمه بأن المشكلة ليست معه بل مع المئات من شاكلته الذين لا يملكون ثمن ادوية الطبيب او ثمن بعض قطع ملابس ” البالة” ليكسي اطفاله العراة في بساتين ربيعة.
اترك هموم ربيعة التي سنعود لها لاحقاً لأستذكر اخر لقاء لي مع “ابو لالو” كما كنا نسميه في صيف 2006، اذ راني في الشارع الرئيس للمدينة ونادى علي بنفس الجملة التي كان يبدء معي الحوار من وانا مراهق صغير :” ايها الحقير” ماذا تفعل في هذه البلاد المريضة؟!…ارحل فالجميع قد سبقك…لا امل يرجى…الجلبي اتضح انه مختلس…علاوي لصٌ كبير…من تراهم من حولنا ويحكمون هذه المدينة الكئيبة مجموعة مخضرمة من “المهربجية” ، لكن الناس تخاف منهم ومن اسيادهم…ارحل ولا تتأسف لحال احد.
عندما احتلت داعش المناطق والحدود المجاورة لسنجار كان كمال مع المئات من جنود المنطقة متواجدين في منطقة حصيبة كحُراس حدود، مخيرين في القدوم من على الشريط الحدودي مع سوريا الى سنجار او الرجوع الى كربلاء، وكان الاختيار الاول والخاطى سيد الموقف، في رحلة العودة وعلى لسان من فروا ونجوا من تلك المجزرة قالوا بأن ” ابو لالو” رفض الهروب او الاستسلام و لم يترك سلاح الدوشكا الى ان افرغه على العشرات من اجساد الدواعش لحين طوقوه وقتلوه.
في صبيحة 11.6.2014جلب الايزيديون جثة ابنهم الممزقة بالرصاص مع رفاقٍ اخرين من احد جوامع “البعاج”، ذلك القضاء المجاور حيث مركز العمليات لتنظيم داعش والذي شـنَ بعدها بقترة وجيزة هجوم اكبر واوسع كانت نتيجتها نسف وهدم ذلك المجتمع السنجاري الجميل .
صلاح حسن رفو