ربما يبدو في أختيار الروائي شوقي للعنوان الصادم والذي يعتبر من جملة ( المسكوتات ) التي أختارها بشجاعته المعهودة في أسقاط ورقة التوت عنها وأظهارها للمتلقي للمشاركة في أيجاد الحلول لها .
ثمّ أن مفردات الهتلية والسرسرية تعني باللغة التركية العصملية القديمة (جامعي الضرائب ) وتقول الحكاية التركية عندما عيّن الوالي العثماني نخبة الهتلية لجمع الضريبة وصلت أخبارهم بأنهم لصوص وفساد أداريين وماليين ، فأستبدلهم بالسرسرية فكانوا أسوء منهم في اللصوصية والحرام ، وبما أن العراق كان من الولايات المهمة للأمبراطورية العثمانية فأصبحت تستعمل كلمة ” الهتلية ” كمفردة تعني الأنحطاط الخلقي وكنوع من الأساءة والذم لأنها تحمل مضامين اللاأخلاق ، وأن الروائي أستعمل هذه المفردة كرمزية يرمي بها السلطات الحاكمة والجائرة التي تعاقبت على حكم العراق ، وتتضمن الرواية أشارات للزمكنة الجغرافية والتأريخية في العراق ، وببراعة المؤلف تمكن أن يغور في أعماق المجتمع العراقي حيث زواياه السوسيولوجية لسنوات المحنة حيث أختار الفترة الحرجة في حياة الأمة في ثمانينيات القرن الماضي والفترة العصيبة بين 2006- 2008 سنوات الأحتراب التي أرتقت لحرب اأهلية حيث نقطة اللاعودة .
الهتلية بناء روائي ممتع مستعرضاً الشخصية العراقية المعاصرة بكامل صورتها الواقعية الملموسة على الأرض العراقية تشق طريقها للوصول إلى التسلط على رقاب العباد بشتى وسائل اللاأخلاق لسد النقص الذي يعانيه من الأستلاب المادي والروحي محاولة للأستئثار بالمال العام وهو الباب الذي فتحهُ شوقي للرواية للبحث عن الحل للخروج من المحنة لذلك أعتمد الروائي شوقي على أستعراض الأحداث الشاخصة وحوّلها ببراعته المعهودة في الجزئين االشروكية والخوشية إلى رموز ودلالات وصور أستعارية دقيقة الأختيارومتقنة ، وأعطى لبطل الرواية الأولوية في الظهور كي يترجم واقع حال البلد المأزوم منذ سقوط العراق جغرافية وتأريخاً في 2003 ، أما رجال الدين يرمز لهة بالكهنة فهم أصحاب القرار في القيادات الحاكمة الذين وحدهم يمتلكوناللعب في مقدرات العباد والبلاد ، وأعتمد الواقعية التعبيرية كنمط للمسار السردي في جعل المتلقي يقوم بنفسه في تركيب الرؤى والأحداث المعروضة في النص ليرجعها إلى أصولها الواقعية المشهودة فعلا على أرض الواقع ، فكانت أدواتهُ أرضية الزمكنة والأحداث المتسارعة والمستلبة من قبل أنقلابات العساكر وحكومات توفيقية متلاحقة على السلطة ، نجد أن البطل ينفث آهات الندم والأحباط بشهيق وزفير بحشرجاتٍ مسموعة تترجم وخزات الجلد الذاتي في الصفحة 110-113 أنهُ لم يكن أهلاً في تقديم القربان من دمه وروحه لأيقونة الوطن المصلوب على جدار الخوف حيث يقول :
صمتي يعني فشل آمالي وأمانيي في الأنتصار ، تعرض الروائي شوقي وبشجاعة بارعة في التصدي( للمسكوتات) التي تعايش المجتمع والتي تعتبر فوبيا للكتاب والروائيين في تهيّب الأشارة أليها أرضاءاً لجهات وعدم أغضاب جهات أخرى كالمحرمات الثلاثة ( الدين والجنس والعنف السياسي ) ومسائل الحلال والحرام ، والخروج عن طاعة ولي الأمر والأعراف القبلية العشائرية ، فالكاتب بجرأته وشجاعته البحثية تمكن الغوص في ثنايا الأعماق والكشف عن زواياها المظلمة لينتشل تلك الموروثات العقائدية والقيمية الدينية والوضعية ويعيد صياغتها جمالياً وسردياً ويقدم مثل هذا النص الأدبي الرائع .
أن نزعة اللصوصية والتخريب تبدو وكأنها ظاهرة مرضية خطيرة ، وأن أعمدة علماء النفس والتأريخ منهم الدكتور ” على الوردي ” والعلامة المؤرخ ” عبدالرزاق الحسني ” والعلامة المغربي أبن خلدون أكدوا على بداوة وذكورية الشعب العراقي والترسبات الأرثية القبلية التي تحملها الشخصية العراقية بالذات من خلال قساوة البيئة الصحراوية المجدبة والمستلبة والحروب والغزوات والمجاعات والفيضانات والطاعون والحكومات المستبدة كل تلك الظواهرتبلورت في أعماق اللاوعي العراقي( نزعات جرمية ولصوصية وتخريبية ) وهنا يؤيّد العلامة المؤرخ عبدالرزاق الحسني تلك النزعات الهابطة والمرفوضة أجتماعياً في كتابه تأريخ الأحزاب السياسية 1908-1958بفصله الخاص بمذكرات الملك فيصل الأول أقتبس النص التالي :
( الشريف حسين يوصي ولده وهو ذاهب إلى العراق : يا ولدي هذا العراق لا يؤتمن فقد غدروا بعمك الحسين بن علي بن أبي طالب حيث دعوه ثم قتلوه فأذهب أليها وحدك ، وكتب فيصل الأول بعد معايشته العراقيين في 1933 في نص مذكراته (— لا يوجد في العراق شعب له فكر بل توجد تكتلات بشرية خالية من أية فكرة وطنية متشبعين بتقاليد وأباطيل دينية لا تجمع بينهم جامعة سماعون للسوء ميالون للفوضى مستعدون دائماً للأنتفاض على أية حكومة كانت ) عبدالرزاق الحسني – تأريخ العراق السياسي ج1ص12 .
أن الهتلية في عنوان الرواية ليس بالضرورة أن تكون من الطبقة الفقيرة المعدمة ، بل ممكن أن تكون من الأثرياء والموسرين أو حتى من رجال الدين ، وفي القاموس السياسي العراقي المعاصر كان اغلب الرموز السياسية وبطانة دكاكين الأحزاب الرثة من طبقة الهتلية أبتداءاً من العهد الملكي الذي أعتمد بعض من قادته على الشقاة في أيام التقاطعات السياسية ، أما العهد الجمهوري حيث ظهر من قادتهم شقاة وبلطجية وقطاع طرق أمثال ( ناظم كزار وجباركردي وعلي رضا باوه وعلي كيمياوي وعلي صالح السعدي ) ، اما العهد الديمقراطي ظهر لنا فيهم بعض من الهتلية واللصوص أبطال روايات هندية وأفلام الأكشن الهوليودية أمثال ( أيهم السامرائي وزير الكهرباء الأسبق وحازم الشعلان وزير الدفاع الأسبق وعبدالفلاح السوداني وزير التجارة السابقوووو) .
وأن الذاكرة العراقية تأبى مسح أهزوجة هتلية الشارع العراقي في 1941 ( حلو الفرهود كون يصير يومية ) هذا الشعار المعيب والمخزي ضد الطائفة اليهودية العراقية في نهب أموالهم وممتلكاتهم وقتل وجرح أكثر من ألفي مواطن يهودي عراقي ( عدنان نور الدين / كتاب هتلر في الأبريق )، وتبعهُ فرهود قصور الملوك في 1958 وثم مسلسل فرهدة الأكراد الفيلية في عام 1980 أموالهم وممتلكاتهم على يد هتلية وغوغاء الشارع ، وثم نفيهم خارج وطنهم العراق ، وجاء دور عرض الفيلم الهندي الديمقراطي بعد 2003 يكفي أن نقول للأختصار أن البعض من هتلية الحكومة نهبوا مبلغ خرافي يقدر ب800 ملياردولار خلال 14 عام وحولوه إلى خارج الوطن المسكين ، علماً أنه أكثر من ميزانية الولايات المتحدة الأمريكية!!
*ملاحظة/ بعد ورود طلبات عديدة من قرائي وأصدقائي في أعادة نشر المقالة المكتوبة في( 24 /أكتوبر/2017 ) لكوننا نعيش ” عهد الحواسم ” منذ الأحتلال الأمريكي لحد اليوم
كاتب وباحث عراقي مقيم في السويد
20/ أبريل /2019