إذا كانت الرهانات متوقفة الآن حول أي بادرةٍ للتغيير في العراق، فإنها ليست مستحيلة أبداً، في ظلّ حكومةٍ وعدت بالإصلاحات، ولكنها لم تستطع تنفيذ وعدها، والتقدّم بعدم وجود أيّة استراتيجية وطنيّة قوّية باستطاعتها تحقيق ما تعجز عنه، بسبب وجود عوامل قاهرة، وبسبب الانشغال بالأزمة الإيرانية – الأميركية، وتيه السياسة العراقية إزاء سطوة كلّ من الإرادتين، الأميركية من طرف والايرانية من طرفٍ آخر.
لم تزل البلاد مجروحة وغير متعافيةٍ بعد من أخطبوط تنظيم (داعش)، وما خلّفه من الاضطرابات الداخلية، وهي تلوح في الأفق من عدم الاستقرار وعدم اليقين للحكومة التي تخنقها المشكلات المزمنة والمستجدة، بانتقال العراقيين من الجفاف وندرة المياه إلى الفيضانات القاتلة لمصادر العيش، ناهيكم بالفساد المستشري في المركز وكلّ المحافظات، وخصوصاً الموصل والبصرة. إذا نظرنا إلى مستقبل العراق المنظور لما سيأتي به النصف الثاني من العام 2019، فإنني أتمثّله جريحا تبرز أشلاؤه، وهو يمرّ زاحفاً بدمائه عبر قاعة المرايا، ذلك أن الواقع مشوّه غاية التشويه، والرؤية باتت غير واضحة، أو حتى غير مرئية. ولكن من المؤسف حقاً أن 16 عاما مضت على احتلاله، ويبدو العراق وقد رجعَ القهقرى نحو الوراء، وأنّ كلّ من راح بعيداً في مخيالاته بات يعيد حساباته، ليس في صعوبة المتغيرات، بل في استحالة تحقيقها، وأن من خرج وتظاهر وعارض وبحّ صوته، ورسم نفسه كبيرا، بات صامتاً اليوم، مع سكوت عدة جهات فاعلة، خصوصاً بعد أن تحوّل اهتمام الأميركيين من العراق وأفغانستان نحو إيران. وعلى الرغم من إجادة الولايات المتحدة لعبة القط والفأر مع إيران في الشرق الأوسط. ولكن لا يمكن التنبّؤ، ولا حتى التخمين ما الذي تريده أميركا من المنطقة، وما خططها إن كانت قد رسمت لها أيّة خطط في ظلّ شراء هذا وبيع ذاك في السوق التي تتحكّم به. أتعس من يسمّم الرأي العام العراقي إعلامياً هو القنوات الفضائية العراقية قاطبة مع وسائل التواصل، فهي تعكس حالة الهشاشة والتخبّط السياسيين عند العراقيين الذين لم يتبلور بعد ما يوحّدهم في وطنهم إزاء مستقبلهم.
مع هدوء أمني نسبي، لم يزل العراق عرضة للنار، يتفجّر بشكل متقطع، وخصوصاً في الموصل والبصرة، ناهيكم بمشكلات العراقيين اليومية المستمرة التي تقود إلى غضب الناس الذين ليس في استطاعتهم فعل أيّ شيء، نظراً إلى سطوة القوى المخيفة وبطشها بالقتل والتغييب أو الترغيب والترهيب، مع عبث بعض العشائر بمصائر الناس. وقد يسألني سائل: أليس في الواقع، وبعد 16 سنة من سقوط النظام السابق، قد تحقق قدر من الديمقراطية في العراق؟ وأنّ هناك من يتمتّع بذلك، ويشيد بالتجربة، على الرغم من أخطائها وخطاياها؟ ولكن لم يزل أغلب العراقيين يعانون من نقص الخدمات الأساسية، مثل مياه الشرب والكهرباء والرعاية الصحية الملائمة وفرص العمل والسكن وفساد الإدارة وغلاء الأسعار والتعليم. وكما يؤكد أغلب الصحافيين، ومنهم البريطاني باتريك كوكبورن، أن العراقيين باتوا في حالة استياء دائم من “حالة بلدهم المتداعية، وخصوصاً الافتقار إلى الطرق والجسور والمستشفيات والمدارس، فضلاً عن نقص الكهرباء والماء”. ويبقى التساؤل مشروعاً بشأن ضرورة إعادة بناء البنية التحتية، وقدرة النازحين وضحايا الأزمة، للعودة إلى منازلهم، وهي لم تزل حطاماً، والأكثر مأساوية أنّ الإنسان بات مدمراً محطماً يائساً بائساً تائهاً، وهو في خضمّ معاناته التي لا يمكن احتمالها.
اليوم، وفي ظلّ أوضاع مأساويةٍ كهذه لعموم العراقيين، ما خلا فئات من الطفيليين والفاسدين وطغمة المسؤولين والقوى المهيمنة، تحت مسميات شتى، والتي تعيش عيشة فارهة، يبدو الواقع مخيفاً جداً، وهو مبهم، إذ بدا أن المسؤولين العراقيين لا يعرفون ماذا يفعلون، خصوصاً في ظلّ التهديدات الأميركية لإيران التي لها نفوذها القويّ في العراق، وخيبة أمل الشعب العراقي من الحكومة الجديدة على كلّ المستويات. مع خفوت دور مقتدى الصدر الذي كان متمسّكاً بشروطه، وقد جمع كل المعارضة التي نادت لتحويل العراق من نظام برلماني إلى نظام رئاسي. ولم يعد اليوم لأنصار مثل هذا التغيير أنه من الممكن أن تكون هذه القوى أكثر قوةً وأكثر مرونة، وأنها قد تكون أكثر فعالية. ولكن مع أخبار تفيد بانعقاد مؤتمرات عراقية معارضة بإشراف أميركي، ومنها للبعثيين الذين يسعون إلى السلطة بأيّ ثمن، سواء من خلال الأميركيين، أو كما ناشد الأمين العام لحزب البعث، عزت الدوري، في كلمته أخيرا، بتوسلاته حكام الخليج واعترافه بخطأ غزو الكويت في 1990. ولكن الزمن ليس مع هؤلاء البعثيين،، بل لأن العراق سار في اتجاه تاريخي من نوع آخر، وأن “البعث” لم يجدّد نفسه باسم جديد مع رجل قوي غير محسوب على مرحلة مضت ليكون مقبولاً. عراق 2019 ضحيّة قوتين مهيمنتين عليه، على الرغم من إرادة العراقيين المكبوتة، الأميركيين وإيران، وسيطحن بينهما في حال استخدامه رقعة شطرنج بائسة. وسيبقى مشلولاً ما دام الصراع موجوداً، وهماً كان أم حقيقة.
وعليه، المتمنّى من العراقيين أن يوحّدوا أنفسهم، ليكونوا جبهة متراصّة ضدّ كلّ التحديات، وأن لا تشغلهم همومهم مع هذا أو تعاطفهم مع ذاك.. لا بدّ من حل مشكلات الفساد والركود البيروقراطي، وإتاحة الخدمات الأساسية وتوفير الأمن والحد من طغيان الأغلبية. يتحدث كل المسؤولين العراقيين بشكل كبير عن الديمقراطية، والحريات، والصحافة الحرة، وتعزيز العلاقات ( الاخوية ) مع العرب إلخ.. بغض النظر عن توضيح أية محاولات لمعالجة وضع حدٍّ للقوى المهيمنة والعصابات ودعاوى العشائر ومعاقبة الفاسدين والغرباء والاجراء والعملاء المنتشرين في البلاد عقاباً صارماً. إن نجح العراقيون في اغتنام الفرصة التاريخية لتأسيس استراتيجية وطنية، بعيدة عن نفوذ الآخرين وهيمنتهم، فسيكون ذلك السبب وراء إيجاد مجتمع مدني حقيقي متعلّم. هي مناشدة هنا من كل العراقيين بالأخذ بأسباب الأمل خلال هذه المرحلة الحرجة من 2019، خصوصاً بإعطاء الأولوية للتنمية والخدمات الاجتماعية والانتباه إلى جيل جديد سئم أكشاك الاقتراع، جيل لم يشهد في معظمه سوى الحرب وانعدام الأمن والفقر والأمراض والنزوح والتهجير والقتل والعذابات والمشكلات المتنوعة وهيمنة الآخر ، لكنه مرتبط بالعالم عبر وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام غير العراقية التافهة.. صحيح ان الواقع لا يمكن ان يتغيّر بسهولة ، فهو واقع ابتلي بالاشرار والطفيليين الذين لا يمكن للحكومة المركزية السيطرة عليهم أبدا ، ولكن لابد من تعرية الواقع لندرك مدى خطورته ، وما السبيل الى فتح الاذهان لتبديله بالرغم من كل التحديات والصدمات ! وما يفرح حقا بما نسمعه بوجود جيل جديد يدرك حقوقه كمواطنين في البلاد، لا يخضع لوصايا الآخرين، جيل يرى أنّ المرحلة اليوم تتطلب مخاض ولادة مجتمع مدني بعيداً عن الأوصياء.
نشرت في العربي الجديد / لندن 18 نيسان / ابريل 2019 ، ويعاد نشرها على الموقع الرسمي للدكتور سيار الجميل