الحلقة التاسعة
قراءة في الفصل التاسع: الزراعة: التخلف عن إشباع حاجة السكان
يقدم لنا الدكتور علي مرزا مساهمة مهمة عبر تسجيله وتحليله للوحة مكثفة جداً عن الواقع الزراعي وحجم الإنتاج في فترة كان القطاع الزراعي يشكل القطاع الأول في تحقيق الناتج المحلي الإجمالي، فترة الريع الزراعي، وفي الفترة التي أصبح القطاع النفطي يشكل القطاع الأول في توفير النسبة العظمى من الناتج المحلي الإجمالي وتراجع القطاع الزراعي إلى الموقع الثاني فالثالث أو متقلب بينهما. وإذ أشار إلى دور الإجراءات التي اتخذتها الدولة العثمانية لتوطين البدو من خلال توزيع الأراضي الأميرية على شيوخ العشائر والعائلات الميسورة في الولايات الثلاث، انتقل إلى الفترة التي أعقبت تخلص العراق من الهيمنة العثمانية وسقوطه تحت الهيمنة البريطانية حتى سقوط الملكية عام 1958. وقسم الفترة الواقعة بين 1864-2018 بالسبة للقطاع الزراعي إلى فترتين: الأولى قبل العهد النفطي، والثانية بعد سيادة الدولة الريعية النفطية، وقارن بين أربع مسائل مهمة للفترتين المذكورتين، وهي:
إجمالي مساحات الأراضي المستخدمة في الزراعة أولاً، وإنتاجية الفرد الواحد أو الدونم الواحد ثانياً، وإجمالي الإنتاج الزراعي، ومقارنة بين نمو السكان ونمو الإنتاج الزراعي ثالثاً، وعلاقة ذلك بإشباع حاجات المجتمع والقدرة التصديرية للمحاصيل الزراعية رابعاً. كما ركز في دراسته على المحاصيل الزراعية الثلاثة: الحنطة والشعير والرز. ثم عمد إلى إبراز دور النفط وتنامي إيراداته السنوية على دور القطاع الزراعي ومستوى الاهتمام بهذا القطاع الأكثر أهمية لإشباع حاجات السكان من السلع الزراعية والمواد الأولية الصناعية، من خلال استخدامه خطوتين، أولى إجراء مقارنة بين الإنتاج الزراعي في الفترتين، والثانية إجراء قياس الارتباط بين معدل حصة الشخص من العوائد النفطية ومعدل حصته من الإنتاج الزراعي،وتوصل إلى استنتاج بهذا الصدد صاغة على النحو التالي: “نخلص من الاختبار باستخدام الخطوتين إلى: 1) أن حصة الشخص من الإنتاج الزراعي كانت في تصاعد قبل العهد النفطي وفي تدهور خلال العهد النفطي. وب) يبين معامل الارتباط عموماً، ارتباطاً عكسياً بين تغير حصة الشخص من العوائد النفطية وحصته من كمية الإنتاج خلال العهد النفطي. ج) وبذلك نميل للاعتقاد إلى أن كلا الاختبارين يرجحان باحتمال معقول صحة الفرضية الريعية، عموماً”. (أنظر، مرزا، الكتاب، ص229/230).
على أهمية هذه الدراسة وضرورة إبراز دور الدولة الريعية النفطية السلبي على القطاع الزراعي وعلى مجمل الاقتصاد الوطني والحياة الاجتماعية والسياسية، وأهمية تغيير هذه العلاقة لصالح تنويع الاقتصاد الوطني والاهتمام بالقطاع الزراعي، فأن أي دراسة اقتصادية ليست مهمتها الجانب التقني والحسابي فحسب، بل وبالأساس دور الاقتصاد في التأثير المباشر وغير المباشر على الإنسان في معيشته وحياته سلباً أو إيجاباً، أي ضرورة الغوص في أعماق المشكلة الزراعية في العراق لا البقاء على سطح الأرقام على أهميتها، رغم إن الأرقام تمنحنا صورة مفيدة ولكن المعدل لا يعبر عن واقع الحال للفئات الاجتماعية المختلفة. غالباً ما يشير علماء الاقتصاد إلى إن الأرقام الإحصائية التي تنشرها الدول، ولاسيما النامية، تشبه مايوه السباحة النسائي إذ يكشف عن الكثير من جسم المرأة، ولكنه يخفي أهم ما فيه.
كتب ابن خلدون (عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرمي 1332-1406م) في مقدمته ما يلي: “إنه لا يكفي أن تصف موج البحر، وظهور السفن، حين تريد أن تتكلم عن حياة البحر… لا بد لك أن تفهم ما في القاع… قاع البحر المليء بالغرائب والتيارات والوحوش… وقاع السفينة حيث يجلس عبيد وملاحون إلى المجاديف أياماً كاملةً، يدفعون بسواعدهم بضائع تحملها السفن، وثروات وركاباً.. وينزفون عرقاً، وتتمزق أجسامهم تحت السياط.. أجل، ينبغي أن تعطيني صورة كاملة، عندما تريد أن تقنعني بأمر من الأمور”.
إن البحث في الاقتصاد الزراعي يفترض أن يمتد ليشمل، على وفق قناعتي الشخصية، عدة مسائل جوهرية، إذ كان بودي لو كان قد تطرق إليها الزميل مرزا ولو بكثافة، لأني مقتنع بأن لديه الكثير من المعلومات حولها، أشير إلى أهمها فيما يلي:
أولاً: أهمية الإنتاج الزراعي في ضمان الأمن الغذائي والاقتصادي للعراق، ولاسيما وأن المنطقة مليئة بالمفاجئات غير السارة والتي تستوجب تأمين احتياطي منه. ومرّ العراق بتجارب مريرة في هذا الصدد ومنها فترة الحصار الدولي بين 1992-2003.
ثانياً: الأهمية القصوى لتنويع الإنتاج الزراعي وأهمية ذلك لمسالتين مهمتين هما: الدورة الزراعية وتأثيرها الإيجابي على خصوبة التربة ونوعية الإنتاج من جهة، وتحسين معدلات الغلة وزيادة الإنتاج وتأمين المنتجات الزراعية للاستهلاك الغذائي، والخامات الزراعية للقطاع الصناعي.
ثالثاً: القطاع الزراعي لا يشمل المحاصيل الزراعية فحسب، بل هو قطاع يشمل المحاصيل ومنتجات البستنة والغابات والثروة الحيوانية والثروة السمكية، وبالتالي، فالاقتصار على المحاصيل الزراعية لا يقدم لوحة كافية عن القطاع الزراعي ضمن صورة الاقتصاد الوطني.
رابعاً: واقع الاستغلال الذي يتعرض له الفلاح غير المالك للأرض الزراعية وفئات المزارعين الآخرين، وسبل استخدام الريع الزراعي في الاقتصاد العراقي في الفترة التي سبقت الريع النفطي وبعده. وهناك معلومات كثيرة في هذا الصدد ابتداءً من رسالة الدكتوراه للدكتور صالح حيدر وانتهاء بكتاب الدكتور طلعت الشيباني، وزكي خيري وعزيز سباهي وكاظم حبيب وعشرات كتب أخرى حول القطاع الزراعي، إضافة إلى كتاب الدكتور كامل عباس مهدي الصادر باللغة الإنكليزية في لندن عام 2000 وتحت عنوان “الدولة والزراعة في العراق، التطور الحديث، الركود وتأثير النفط” State and Agriculture in Iraq- Modern Development, Stagnation and the Impact of Oil إضافة إلى الكثير من الأبحاث والدراسات والمقالات المهمة الصادرة بهذا الشأن والمنشورة على العديد من المواقع الإلكترونية.
خامساً: مستوى الخدمات التي تقدم للفلاحين والريف العراقي خلال الفترات المنصرمة، ومدى تأثير ذلك على هجرة الشباب بشكل خاص، وبقاء الفلاحين كبار السن في الريف والزراعة، على ما يلاحظ في العراق خلال فترات طويلة.
سادساً: مدى تأثير الحروب العراقية، الداخلية منها والخارجية، فعلياً على الريف والزراعة العراقية وحياة العائلات بالارتباط مع التجنيد الإجباري للقوى العاملة التي تتراوح أعمارهم بين 18-60 سنة وأحياناً أقل وأكثر من هذين الحدين، إضافة إلى نشر الألغام في الكثير من الأراضي الزراعية الحدودية ولاسيما في إقليم كردستان العراق.
وإذ أشير إلى هذه المسائل المهمة في القطاع الزراعي فلا بد أن أشير أيضاً إلى الأهمية القصوى لأي باحث اقتصادي يعالج أوضاع القطاع الزراعي إن يبحث في مسألتين مهمتين لا يجوز إغفالهما بأي حال، حتى لو اختلفت وجهات نظر الباحثين، وأعني بهما:
- طبيعة علاقات الإنتاج السائدة في البلاد قبل وبعد الإصلاح الزراعي لا على ما هو مسجل في القوانين فحسب، بل والحالة الفعلية على أرض الواقع، وهي أمور متيسرة.
- مستوى تطور القوى المنتجة البشرية والمادية ومدى تأثيرها على إنتاجية العمل أو غلة الدونم الواحد من الأرض الزراعية في السنة. إذ إن التوسع في الأرض وزيادة الغلة التي برزت بشكل خاص في الفترة التي سبقت الفترة الريعية النفطية قد أدت إلى تسليط استغلال بشع على الفلاحين، إذ كان عليه أن يعمل ساعات أكثر وعلى مساحات أوسع لإنتاج غلة مساوية أو أكثر لصالح مالك الأرض أو المستحوذ عليها. وحين توفرت إمكانية زيادة نصب المضخات المائية على شواطئ الأنهر وزيادة المكائن الزراعية من تراكتورات (حارثات) وحاصدات وأدوات أخرى وأسمدة كيمياوية وحبوب محسنة ومخازن وقضايا النقل الزراعي وسبل التسويق، ازدادت غلة الأرض وارتفعت إنتاجية الفرد الواحد، ولكن لم تلعب باستمرار دوراً تحسينيا في حياة ومعيشة الفلاحين.
ويبدو لي بإن المفروض أن يبحث الكاتب واقع الزراعة العراقية ومشكلاتها الراهنة في أعقبت إسقاط الدكتاتورية الغاشمة حتى سنة صدور الكتاب والدور الكبير والمتنامي لكبار الملاكين الذين عادوا إلى الأراضي التي فقدوها بسبب القانونين الزراعيين وتعديلاتهما، ودور شيوخ العشائر الذين عادوا وبشكل أقوى إلى دورهم السابق في الهيمنة على الفلاحين والريف بل وبروز تأثيرهم المتنامي وتقاليدهم التي تهيمن حالياً على أجواء المدن العراقية، ومنها بغداد.
الحلقة العاشرة
قراءة في الفصل العاشر: التصنيع: نشاط متدهور
الفترة بين 1921-1968
قدم الباحث الدكتور علي مرزا في الفصل العاشر دراسة تحليلية قيمة عن نشوء وتطور القطاع الصناعي في العراق منذ النواتات الأولى في العهد العثماني، ومروراً بالعهد الملكي بين 1921-1958، وانتهاء بالعهود الجمهورية المتلاحقة بين 1958- 2014 تقريباً مع واقع تقلبات هذا القطاع الذي يفترض أن يشكل قاعدة النمو والتطور والتقدم الاقتصادي والاجتماعي في العراق. وفي هذا الفصل أيضاً يفتقد المتتبع والمتتبعة شيئاً مهماً وحيوياًن هو غياب الربط العضوي والجدلي بين الحياة الاقتصادية والحياة الاجتماعية، بين التغيرات الاقتصادية والتغيرات المصاحبة لها أو اللاحقة بها في الجانب الطبقي ومن ثم في وعي البشر، إضافة إلى التغيرات الحاصلة في عدد المشتغلين وعدد المؤسسات والأجر وإنتاجية العمل لفترات كانت متوفرة، وربما فترات أخرى لم تتوفر. إن غياب هذا الجزء المكمل يضعف الاستنتاجات المهمة، رغم الأهمية الواضحة في المادة الاستعراضية والتحليلية التي قدمها لنا الزميل د. علي مرزا في هذا الكتاب وفي فصل التصنيع. لا أنطلق في ملاحظتي هذه من موقف أيديولوجي أو سياسي، بل من واقع علاقة التفاعل بين الاقتصاد والمجتمع والتأثير المتبادل بينهما ومن ثم تجليات ذلك على مستوى حياة ومعيشة الأفراد وعلى وجهة التناقضات المحتملة والصراعات واحتمال تحولها إلى نزاعات سياسية مؤذية.
إذا تابعنا الفترة الواقعة بين 1927 و1945، أي بين صدور قانون التعرفة الجمركية رقم 30 لسنة 1927 وقانون تشجيع الصناعة الوطنية لعام 1929 بعد مطالبة جادة من جمعية أصحاب الصنائع العراقية التي أجيزت عام 1928 برئاسة صالح القزاز، ونهاية الحرب العالمية الثانية، حيث كانت الحكومة قد أبدت اهتماماً بالصناعة المحلية، والتي أكدها الدكتور مرزا برسالة الملك فيصل الأول عام 1932 وطالبت بها “جماعة الأهالي”، إضافة إلى “جماعة الإصلاح الشعبي” برئاسة عبد الفتاح إبراهيم في النصف الأول من العقد الرابع من القرن العشرين، و”الحزب الوطني” برئاسة جعفر أبو التمن، أن تدفع قليلاً أصحاب رؤوس الأموال الصغيرة إلى تنشيط دورهم وإنشا بعض المصانع الصغيرة حلال الفترة المذكورة. ,إذ بلغ عدد المشاريع الصناعية في عام 1929 (8) مشاريع صناعية صغيرة، ارتفعت أثناء الحرب العالمية الثانية حتى العام 1945 إلى (96) مشروعاً صناعياً صغيراً، وهي في الغالب مشاريع صناعية استهلاكية خفيفة مثل صناعات الغزل والنسيج وحلج الأقطان والسجاير والتقطير والأحذية والطابوق والشخاط.. إلخ، كما كانت رؤوس أموالها محدودة جداً وقلة عدد العاملين فيها، وضآلة حجم الإنتاج الصناعي لهذه المنشآت. (أنظر: د. كاظم حبيب، دراسة في اتجاهات ومشاكل التطور الصناعي في العراق للفترة 1917-1962، مجلة المستنصرية العدد 2-1971، بغداد). ويشير الزميل مرزا إلى ذلك بقوله: ” إن نشاط القطاع الخاص وإمكانياته لم تكن كافية لحصول نهضة صناعية تنقل البلد إلى طريق التقدم” (أنظر/ مرزا، الكتاب، ص 239. ولكن وخلال الفترة الواقعة بين 1945 و1949 ارتفع عدد المشاريع الصناعية في العراق إلى 145 مشروعاً، أي بزيادة قدرها 49 مشروعاً. وقد ارتفع مقدار رأسمال المشاريع الصناعية المدفوع في عام 1948 3،133،741 د.ع. وقمة الإنتاج 1،403،372 د.ع. وعدد العاملين 1649 شخصاً، وارتفع في عام 1949/1950 إلى 3،914،000 د.ع. و1،555،428 د. ع. وعدد العاملين 2626 على التوالي. (أنظر/ د. صباح الدرة، التطور الصناعي في العراق-القطاع الخاص، بغداد، مطبعة النجوم، 1968، ص 74).
ويبدو لي من المناسب أن أشير إلى حقيقة أن واقع العلاقات الإنتاجية شبه الإقطاعية التي سادت الفترة الواقعة بين 1921-1958 وأسلوب استخدام كبار الملاكين للريع المنتج في الزراعة لم تسمح لجزء مهم من هذا الريع أن يستخدم في تكوين وتراكم راس المال البدائي في البنية التحتية والصناعة العراقية، كما حصل في بلدان أخرى، حيث كانت الزراعة بقرة حلوب للمدن وتكوين وتراكم رأس المال البدائي، إذ كان هؤلاء الملاكون يستخدمون هذا الريع استهلاكاً بذخياً وأوجه صرف غير عقلانية، ولم يكن دخل الفلاح الضئيل يكفي لسد رمق عائلته، وبالتالي لم يكن في مقدوره توفير ما يمكن إعادة توظيفه في الزراعة. وكان كبار الملاكين يقدمون بعضاً من ذلك الريع كقروض للفلاحين ترهق كاهلهم بنسبة الفائدة التي عليهم دفعها.
إلا إن الدفعة الجديدة والنسبية للصناعة العراقية قد بدأت بعد تأسيس مجلس الإعمار ومن ثم وزارة الإعمار، وكذلك المصرف الصناعي العراقي، الذي تأسس عام 1935 كمصرف صناعي وراعي، ثم إلى مصرف تنموي صناعي عام 1946 لتقديم القروض ولم ينشط فعلياً إلا في بداة الخمسينيات، وبعد أن تحقق للعراق المناصفة في الأرباح وزيادة العوائد النفطية ابتداء من عام 1951. وإذا تابعنا الفترة الواقعة بين 1949-1959، على وفق المعلومات المتوفرة، سنجد إن عدد المنشآت الصناعية التي يفوق عدد العاملين فيها 20 عاملاً قد وصل إلى 295 منشأة صناعية وارتفع عد العاملين فيها إلى 42802 شغيلاً، وارتفعت نسبة المشاركة في تكوين الناتج المحلي الإجمالي إلى 7،2%، وهو تقدم ملموس ومهم. وقد حصل ذلك بسبب زيادة مشاركة الدولة في إنشاء المصانع أولاً ومشاركة المصرف الصناعي في تمويل مشاريع مشتركة مع القطاع الخاص. ولا بد من إبراز دور المصرف الصناعي الذي لم يرد بشأنه شيء في كتاب الزميل مرزا، ولأهمية هذا الدور في مستقبل العراق لتأمين تطوير قطاع صناعي مختلط حكومي وخاص، أشير إلى الشركات الصناعية التي ساهم فيها المصرف الصناعي كلياً أو جزئياً بلغت بين عامي 1949-1957 (14) مشروعاً وهي مشاريع خاصة بمواد البناء كالأسمنت والجوت والجلود والمرمر والجص والتمور وغيرها. (أنظر: كاتلين م. لانگلی، تصنيع العراق، مطبعة دار التضامن، بغداد، 1963، مترجم إلى العربية، ص 93). رغم تأسيس مجلس ووزارة الإعمار والمصرف الصناعي، ورغم الضغط السياسي الذي مارسته القوى السياسية بشأن تسريع التصنيع، ورغم قيام خبراء ومؤسسات استشارية بتقديم المقترحات المهمة للحكومة العراقية، فأن أغلبها لم يجد طريقه إلى التنفيذ، كما إن البرامج التي وضعتها الحكومة العراقية خلال هذه الفترة لم يجر تنفيذها بنسبة عالية، فالفرق بين التخصيص والتنفيذ كان واسعاً ويعبر عن ضعف الأجهزة الإدارية العاملة وربما الرغبة في عدم التسريع في عملية التنمية الصناعية. يمكن أن نقرأ النص المهم التالي الوارد في كتاب الدكتور علي مرزا ليوضح الوجهة التي دعت لها تقارير الخبراء الإيجابية منها والسلبية من جهة، وما أسجله من تخلف شديد في تنفيذ مناهج مجلس الإعمار من جهة أخرى.
استنتج الدكتور علي مرزا بصواب ما يلي:
“وبالرغم من إجماع هؤلاء الخبراء (تقرير البنك الدولي في 1952، وكارل أيفرسن 1954، واللورد سولتر 1955، وشركة آرثر دي لتل 1956) على ضرورة تركيز استخدام العوائد في مجال تطوير البنية الأساسية (طرق، مواصلات، محطات كهرباء/ الخ) ورأس المال الاجتماعي (مستشفيات، مدارس، الخ)، إلا أنهم جميعاً دعوا أيضاً إلى إنشاء الصناعات التي يتوفر لها السوق المحلية والمواد الأولية وتقام على أسس تجارية (أي مربحة). أي أن هه التقارير أوصت بإنشاء صناعات تحل محل الاستيراد وليست موجهة للتصدير. وربما كان هذا منبع هذه الاستراتيجية التي استمرت فيما بعد..”. (أنظر، مرزا، الكتاب، ص 240/241). أما الجانب الثاني الذي لم يشر له الدكتور علي فهو الفارق الكبير بين تخصيصات المناهج الاستثمارية لمجلس الإعمار وبين مستوى تنفيذ تلك المناهج في الصناعة العراقية. فتخصيص 70% أو 50% من إيرادات النفط ليس هو العامل الحاسم في المسألة، بل في العلاقة بين توزيع الدخل بين الاستثمار والاستهلاك من الناحية النظرية والعملية أولاً وبين مستو ى تنفيذ تلك الاستثمارات وحصة الاستهلاك الاجتماعي فمن حصة الاستهلاك الإجمالي في الدخل القومي، أي في عملة توزيع وإعادة توزيع واستخدام الدخل القومي خلال الفترة 1951-1957. لد تسنى لي أن أدرس هذه الفترة وأن أكتب عنها، وأن استنتج في ضوء الإحصاء الحكومي إلى ما يلي:
“لقد وضع مجلس الإعمار خلال هذه الفترة ثلاثة مناهج استثمارية خمسية أولها في عام 1951 ليغطي الفترة حتى عام 1955، ثم عدل وأضيفت عليه مبالغ جديدة ومدد حتى عام 1956. وقد جرى تخصيص مبلغ قدره (31) مليون دينار تقريباً لتنمية الصناعة الوطنية. إلا إن ما صرف منه فعلاً بلغ (5،4) مليون د.ع. فقط أو ما عادل 17،4% من المبلغ المخصص للصناعة، أو ما يعادل 3،5% من مجموع تخصيصات البرنامج الخماسي الذي بلغ مجموع تخصيصاته 155,3 مليون د.ع. وفي عام 1955 صدر المنها الاستثماري الثاني ليشمل الفترة حتى عام 1959، وقد كان نصيب الصناعة في التخصيصات 43،6 مليون د.ع. أو ما نسبته 14،3% من المجموع الكلي للمنهاج. وقد وزع هذا المبلغ على سنوات البرنامج الخمسة واستهدف إنشاء جملة من المؤسسات الصناعية الاستهلاكية والإنشائية وإنشاء شبكات لإنتاج وتوزيع الكهرباء في مختلف مناطق العراق الرئيسية. إلا إن التنفيذ الفعلي لمشاريع المنهاج الثاني وتعديلاته التي شملت الفترة 1956-1960 لم تكن بأفضل من مستوى التنفيذ في المنهاج الأول”. (أنظر: د. كاظم حبيب، دراسة في اتجاهات ومشاكل التطوري الصناعي في العراق، مصدر سابق، ص 27). لا بد لي هنا أن أشير إلى أن موقف الحكومات العراقية المتعاقبة غير المتحمس للتصنيع في العراق يعود بالدرجة الأولى على طبيعة هذه الحكومات التي كانت تمثل ف واقع الحال تحالفاً بين كبار ملاك الأراضي الزراعية والكومپرادور التجاري المتعاون مع الشركات التجارية البريطانية، إذ كان هذا التحالف يرى في التصنيع خطراً يهدده مواقعه ومصالحه، في حين كانت قوى المعارضة تضغط باتجاه التصنيع بهدف تفكيك هذا التحالف وتعزيز مواقع البرجوازية الصناعية في الاقتصاد والسياسة العراقية.
خلال الفترة الملكية كانت ظروف العمل للعمال صعبة للغاية، رغم صدور قانون العمل رقم 72 لسنة 1936 فأن ساعات العمل كانت مديدة وأجور العمال واطئة، وغياب الضمانات الاجتماعية والصحية، إضافة إلى ظروف العمل القاسية وغير الأمنة. مما دفع الكثير من العمال إلى الإضراب والمطالبة بزيادة الأجور وتقليص ساعات العمل وتحسين ظروف العمل. ويمكن أن نتابع ذلك في إضرابات عمال السجاير في بغداد أو عمال كاورباغي في كركوك في عام 1946، أو عمال السكك في بغداد وعمال الميناء في البصرة في الخمسينيات من القرن الماضي. وكانت الحكومة تمارس القمع في مواجهة تلك الإضرابات العمالية وسقوط شهداء واعتقال وسجن العمال، كما حصل في كركوك وبغداد والبصرة على نحو خاص. جاء في دراسة عن تاريخ الحركة العمالية في العراق للباحث الدكتور إبراهيم خليل العلاف بصدد ظروف عمل العمال في هذه الفترة ما يلي:
“لقد أدى تطور انتاج النفط وتوفي مجالات جديدة وفرص جديدة للعمل إلى ان عدد العاملين في صناعة النفط سنة 1957 وصل الى 12 ألف شخص. اما في المؤسسات الصناعية الاخرى فقد بلغ العدد 264 ألف شخص. ولاشك في ان هذا التوسع في انتاج النفط (30 مليون طن 1954 ) وفر مجالات عمل لعدد كبير من الناس الذين انضموا الى الطبقة العاملة العراقية وما ان جاءت سنة 1958 الا وقد ازداد عدد العمال العراقيين الى اكثر من مليون عامل .لكن هذا لم يحل دون تفاقم مشكلة البطالة واتساع سياسة القمع وما يلحق ذلك من اذى للعمال والذين غرق بعضهم بالديون واصبح ارباب العمل يسومونهم سوء العذاب وكانت السجون تتلقف الكثيرين منهم واصبحت النقابات والجمعيات العمالية عاجزة عن تقديم اي مساعدة مالية لهم ومما ضاعف الامر سوءا عدم وجود صناديق للضمان الاجتماعي وعدم تأسيس صناديق للتقاعد وبالرغم من تحديد وقت العمل في قانون رقم 72 لسنة 1936 بثمان ساعات إلا أن وقت العمل الفعلي كان بين 12-16 ساعة يوميا وبالأجور اليومية نفسها .هذا فضلا عن تشغيل النساء والأطفال والأحداث دون السن القانونية في أعمال شاقة وبأعداد كبيرة .وقد دفع الوضع المزري هذا العمال الى التظاهر والاضراب الذي قمع بالقوة كما حدث في مذبحة كاورباغي بكركوك سنة 1946 ووثبة كانون الثاني 1948 وانتفاضة تشرين 1952 وكان امتصاص نقمة العمال واحدا من أهداف إنشاء مجلس الاعمار والبدء بمحاولات إصلاحية للوضعين الاقتصادي والاجتماعي. إن نضال الطبقة العاملة العراقية فرض على الحكومات وأصحاب المؤسسات والاحتكارات الرضوخ وإصدار تشريعات عمالية والموافقة على تأسيس نقابات وجمعيات عمالية.” (أنظر: د. إبراهيم خليل العلاف، تاريخ الحركة العمالية في العراق، ذاكرة عراقية، ملاحق المدى، 28/04/2013).
يقسم الدكتور مرزا الفترة الواقعة بين 1958-1968 إلى فترتين هما 1958-1962، أي الفترة الواقعة بين ثورة تموز وإسقاط الحكم الوطني 1963، ثم الفترة بين 1963 حيث استولى البعثيون والقوميون، ثم القوميون على الحكم حتى العام 1968. ويشير بصواب إلى أن الفترة الأولى شهدت توجهاً لدى حكومة الثورة بتصنيع العراق وبدعم القطاعين العام والخاص وبتوجهه صوب مسالتين مهمتين حيث استنتج بصواب:
“ومع توسع القطاع العام خلال الفترة 1958-1962 فأن القطاع الخاص استمر في نشاطه في القطاعات الاقتصادية الصناعية والتجارية. ووجد ذلك إسناداً سياسياً، حيث بالإضافة لتوجه الدولة نحو مجال واسع في الرعاية الاجتماعية وإسناد القطاع العام الإنتاجي، فأن الحكم كان بصورة عامة، متعاطفاً مع البرجوازية الصناعية والتجارية.” (أنظر، مرزا، الكتاب، ص 242). لقد ألغت حكومة الثورة مجلس ووزارة الإعمار وأسست وزارة الصناعة على وفق القانون رقم 74 لسنة 1959. يشير الباحث سلام إبراهيم كبة على العلاقة الجديدة التي نشأت بين الاتحاد السوفييتي والعراق بعد ثورة تموز 1958 والاتفاقية الاقتصادية التي وقعها وزير الاقتصاد حينذاك الأستاذ إبراهيم كبة بقوله:
“ن أهم منجزات ثورة 14 تموز عقد اتفاقية التعاون الفني والاقتصادي مع الاتحاد السوفييتي التي نصت على القيام بالمسح الصناعي والنفطي الجيولوجي والمغناطيسي والسيميكي العام، التركيز على الصناعة في المشاريع بحيث احتلت 80% من مجموع قيمة مشاريع الاتفاقية، التركيز في القطاع الصناعي العام على الصناعات الثقيلة كمعامل الفولاذ والاسمدة الكيمياوية والكبريت وحامض الكبريتيك واللوازم والعدد الكهربائية، وعلى الصناعات الزراعية كمعامل المكائن والمعدات الزراعية والاسمدة النيتروجينية ومحطات الجرارات الزراعية ومعامل النسيج والتعليب، وعلى الصناعات التحويلية كمعامل النسيج القطني والصوفي والتريكو والخياطة والزجاج والمصابيح الكهربائية والتعليب والأدوية.” (أنظر: سلام إبراهيم عطوف كبة، الباردوكسالصناعي في العراق الجديد/ القسم الأول، موقع الحوار المتمدن، العدد 4082، 04/05/2013).
أما الفترة الواقعة بين شباط/فبراير 1963 وتشرين الثاني من نفس العام فقد شهد توقفاً لعملية التنمية، إذ كان الاهتمام منصباً على ملاحقة المعارضين للنظام والذين قاوموا الانقلاب البعثي-القومي الفاشي وبدء الصراع مع حركة التحرر الكردية وتراجعاً واضحاً في التوجه صوب التصنيع، وبرزت مصاعب غير قليلة أمام المجتمع مما سهل إسقاط النظام المشترك للبعثيين والقومين بحليفهم القومي الناصري بقيادة عبد السلام عارف. وخلال هذه الفترة لعب القوميون اليمينيون دوراً بارزاً في قيادة الدولة، كما وضع على رأس السياسة الاقتصادية المجموعة التي كونت حزب “الاتحاد الاشتراكي العربي” وخاصة كل من خير الدين حسيب وأديب الجادر، حيث أسسا المؤسسة الاقتصادية، وكجزء منها أقيمت المؤسسة العامة للصناعة في عام 1965، ولكن هذه المجموعة قد أقدمت في تموز/يوليو 1964 على تأميم المصارف وشركات التأمين وشركات تجارية ومنشآت صناعية، بلغ مجموع رأس مال المصارف والشركات والمنشآت المؤممة 28 مليون د.ع. لا غير. أما رؤوس أموال المنشآت الصناعية فلم تزد عن 26 مليون د.ع. لم تكن عملية التأميم ضرورية بأي حال، بل كانت ذات أهداف أوسع من الإسناد الشعبي وتقليد تأميم مصر بين 1961-1964، (أنظر: كاظم حبيب، طبيعة إجراءات التأميم في الجمهورية العربية المصرية، رسالة دكتوراه، جامعة الاقتصاد (برونو اويشنر) برلين، شباط/فبراير 1968)، بل كانت المجموعة الاقتصادية تهدف، إضافة لما أشار إليه الدكتور علي مرزا، إلى ما يلي:
- التماثل، وليس التقليد، مع مصر والسعي فقامة الوحدة العربية معها، بخلاف نهج عبد السلام عارف الذي لم يكن يرغب بأي وحدة فعلية.
- الرغبة في السيطرة على الاقتصاد الوطني من خلال تشديد هيمنة الدولة على الاقتصاد الوطني من خلال قطاع الدولة.
- معاقبة البرجوازية العراقية، وخاصة البرجوازية الصناعية، من قوى يمينية في البرجوازية الصغيرة، بسبب مواقفها المناهضة للانقلابات البعثية والقومية.
- سعيها لكسب القوى الاشتراكية، ومنها الحزب الشيوعي العراقي إلى جانبها، في كونها تسعى إلى تعزيز قطاع الدولة الذي كان يدعو له الحزب الشيوعي العراقي. أي الدعوة إلى حل الحزب الشيوعي وانخراط الشيوعيين العراقيين في الاتحاد الاشتراكي، كما حصل في العام 1964 في مصر حيث حل الحزب الشيوعي المصري نفسه وانخرط في الاتحاد الاشتراكي. وقد ظهرت جماعة صغيرة في قيادة الحزب الشيوعي العراقي التي دعت إلى ذلك، ولكن أغلبية قيادة الحزب وكل القاعدة الحزبية رفضت هذا النهج واتهمت الداعين له بالخط اليميني في الحزب والذي تمثل فيما أطلق عليه بخط آب 1964. (أنظر: عزيز سباهي، عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراق، الجزء الثالث، منشورات الثقافة الجديدة، بغداد، 2005، ص 32-47).