بعد ان عبّر “ريبوار” انه مستعد للإتيان بالادوية سريعا بذهابه و عودته السريعة بذلك الحصان الاسود القوي الجميل . . كتبت ما احتاجه من الادوية و المغذيات التي يمكن ان تكون موجودة في تلك الطبابة المتروكة التي كان فيها مساعد طبي و تركها هارباً كما قيل و نقله “ريبوار” . . . و اتفقنا كمفرزة ان يذهب نصيران الى مقر الفوج في ” دولي سماقولي ” ، لإخبارهم باضطراري للتأخر لمعالجة المصابين و باني ساعود رفقة النصير الثالث الذي للاسف لا اتذكر اسمه، باسرع وقت، بعد ان ابلغنا رسالة التهيؤ للانتفاضة كما مرّ.
و فعلاً عاد “ريبوار” محمّلاً بأغلب الادوية التي طلبتها و بالمغذيات بكميّة مقبولة بعد ساعات، في ظرف كان فيه الهواء طبيعي الرائحة، بلا روائح التفاح و الخل و الثوم و الخردل التي تشيعها الغازات السامة في العادة، الأمر الذي شجّعني على محاولة انقاذ اكبر عدد ممكن و الالتزام بعدم النزول أكثر الى عمق الوادي، و غير عارف بالمدى الزمني لسموم الغازات تلك التي اثبت بعدئذ انها خليط من الغازات السامة كما عرفت لاحقاً.
و بعد التأكّد بواسطة السماعة الطبية و جسّ النبض، من ان عدداً من الضحايا كانوا احياء بالبحث عنهم و اخراجهم من بين الجثث . . استطعنا مرافقي و انا انقاذ اكثر من عشرين مصاباً بحدود ماتوفر من الادوية و المغذيات، اضافة الى انقاذ حياة مصابين بحالات معقدة اخرى، بالكورتيزون والأتروبين والأمينوفللين وشئ من المهدئات، و لمواجهة تقرحات الأغشية وضيق التنفس، والأضطرابات العصبية المتنوعة كالتقيؤ القوي المتواصل بالصراخ و تشنجات العضلات و لمن فقد البصر و لمن عاني من الحساسية المفرطة للعيون بتأثير سموم الغازات، وسط الصراخ الذي بدأ و ملأ المكان . .
كان همّنا انقاذ الضحايا من الموت بأية وسيلة و باسرع وقت، و قد غلب الواجب الانساني كطبيب على الواجبات الاخرى، في وقت لامعرفة لأي طبيب مدني عراقي بالتعامل مع ضحايا السلاح الكيمياوي، الاّ المعارف السرية لأطباء الوحدات الخاصة العسكرية و المخابراتية التابعة لصدام مباشرة، كما تبيّن بعدئذ.
امّا مارواه الأهالي آنذاك و بعد ذاك فقد كان مرعباً رهيباً :
” . . . القت السمتيات قنابل كانت تنفجر باصوات مكتومة لاكاصوات انفجار القنابل التي الف صوتها حتى الأطفال، وانما القت براميل، تكسّرت وفاحت منها روائح كروائح التفاح والثوم، فيما كانت السمتيات الأخرى تمشّط الجبال والمرتفعات المحيطة و مسالك الصعود اليها بقذائفها، مانعة الناس من الألتجاء اليها ولحصرهم في منطقة التأثير الأقوى لتلك الغازات السامة (*). كي يُصاب اكبر عدد منهم بالسلاح الكيمياوي، في مذبحة كيمياوية أُعد لها بوسائل شيطانية متطورة.
في الوقت ذاته تدفّقت اعداد من القوات الحكومية، من شاحنات كبيرة متنوعة، مكشوفة ومغطات، من جهتي الطريق العام وبشكل اخص من جهة رانية، كانت تحمل الآلاف من افراد القوات الخاصة والجاش الذين كانوا يلبسون ملابس وعباءات الوقاية من الغازات الكيمياوية، و نظاراتها المخيفة . . هاجموا تلك القرى الجميلة العزلاء المرتعبة التي قاوم ابناؤها مع من كان موجوداً من البيشمه ركة بما يستطيعون، الاّ انهم كانوا يتساقطون واحداً اثر آخر بتأثير الغازات السامة . .
و فيما هربت اعداد من المصابين الى مستشفى خليفان لعلاج من يمكن علاجه بوجوب قولهم ( انهم ضحايا لقصف طائرات ايرانية) في زمن الحرب، لأن من خالف ذلك القول كان يُعتقل فوراً دون اي علاج . . حمّلوا الشاحنات بالأهالي المصابين احياءً وامواتاً، شيباً وشباناً، رجالاً ونساءاً واطفالاً، ولم يعرف احد الى اين نُقلوا ؟ ! في وقت اختفى عدد في المغاور او في الحقول . .”
كانوا كالمجرم الذي اراد تدمير كلّ مايدل على جريمته، على مجزرته المروّعة بحق البشر . . التي نجى منها القليل حاملاً تأثيراتها المروّعة بجسمه التي تظهر فوراً او لاحقاً، وناقلاً ايّاها الى ابنائه وبناته مذكّراً البشر . . بوجود اعداء للبشر، اعداء ينبغي ان لايمرّوا وان يعاقبوا علناً وان يكونوا عبرة لمن اعتبر !!!
اشّرتْ مجاميع البيشمركة من كلّ القوى من بُعد هناك بالايدي و بالجمدانيات ، لبعضها بضرورة مساعدة من يمكن مساعدته على عجل، وترك المنطقة بسرعة ذلك اليوم، لمخاطر السموم الفاعلة التي نسى الجميع ان تأثيرها كان يتواصل، خاصة وانهم كانوا في حوض الوادي امام تلك المأساة البشرية . . وتفرّقوا بعد ان وضعوا خطة للأنقاذ والأسعاف وفق ما كانوا يستطيعون عليه .
لقد كانت تلك مأساة قصف قرى دولي باليسان بالأسلحة الكيمياوية . . . شيخ وسان، باليسان ،جيوة وجيوة، ده راج، خه تي، آلانه . . التي احتضنت البيشمه ركة والأنصار، كرداً، عرباً، فيليين، كلدوآشوريين، صابئة وتركماناً، وايزيدية وآوتهم واطعمتهم، وساعدت وحمت جرحاهم، كما عشتها و أُصبْتُ بها . . (انتهى)
20 / 4 / 2019 ، د. مهند البراك / طبيب
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) الغازات السامة اثقل من الهواء، لذا فانها تستقر في الوديان .