الثلاثاء, نوفمبر 26, 2024
Homeاخبار عامةسَفَراتُ الموتِ واللقاءِ تَقُصُّها ابنةُ ناجٍ من الإبادة الأرمنية

سَفَراتُ الموتِ واللقاءِ تَقُصُّها ابنةُ ناجٍ من الإبادة الأرمنية

فتحتْ باب خزانتها القديمة وتناولت ألبوم الصور بغلافه الجميل المرسوم بالورود الزاهية. كانت تختبئُ وراء ألوانه البهيجة عشرات الصور القديمة التي اعتادت بهيجة الموسى ابنةُ أحد النّاجين من ضحايا الإبادة الأرمنية أن تَمسحَ ماضياً يتيماً بأحداثٍ أليمةٍ تَدُقُّ في ذاكرتها قصصاً مروعة عمّن سكنتْ خيالاتهم ألبومها الثمين.
تتأمّل بهيجة صورة والدها نظريان شوربجيان، الذي سخَى القدر بكراماته عليه ليكون ممّن نجا بفعل معجزة من هَولِ تلك المجازر البشعة التي ارتُكبتْ على يد الدولة العثمانية بحق الأرمن قبل أكثر من مئة عامٍ.
بكلماتٍ مُغلّفةٍ بِغبارِ تاريخٍ دامٍ، قلّبت بهيجة الموسى صفحات حِقبةٍ سوداء ألقتْ بظلالها القاسية على حياة والدها، الطفل المدلل لأحد عوائل الأمراء الأرمن، وقالت: “كان والدي من ضحايا الوجبة الثانية للإبادة التي ارتُكبتْ سنة ١٩١٥م، ولم يتجاوز حينها حسب روايته لنا الثامنة من عمره، كان كالآلاف من الأبرياء حطبَ حربٍ لا ناقة لهم فيها ولا جمل”.
وتنقلُ بهيجة عن والدها: “في ذلك اليوم المشؤوم، حلّقت حمامات والدي في سماء مدينة قيصرة في تركيا بعيداً، وأخذ يُراقبها مع أخوته الثلاثة من فوق سطح منزلهم الكبير، حين نادتهم جدّتي أنْ يُسرعوا في النزول، والهرب بعيداً عن آلة الموت التركية، وركوب العربة التي جهزتها الجدة بالطعام والماء، وانطلقت مُسرعةً تعبر طرقات المدينة تجرُّها  ثلاثة أحصنةٍ للّحاق بفُلولِ العوائل الأرمنية الفارَّة والموُجهة جنوباً إلى سوريا، في رحلة استغرقت أياماً طويلةً حصد الموت روح أم والدي في منطقة رأس العين/سري كانيه من جهة تركيا، وبعدها بدأتْ قوافل الفّارّينَ تفترق في مجموعات عديدة توجّهت كلٌّ منها في جهة أملاً في نجاة أكبر عددٍ من الهاربين، حينها أضاع والدي جَدّي وأعمامي وعمّاتي وبقيّة أقاربه، ووصل هو مع المجموعة الصغيرة إلى  حدود منطقة عين ديوار في سوريا”.
النَّجاةُ مِنَ الذَّبح
بعيونٍ اغْرورقتْ بالدّموع أضافتْ بهيجة بالقول: “الخوفُ قادَ والدي نظريان إلى الاختباء تحت جُثثِ الضّحايا الأرمن بعد أنْ تمكن الجنود الأتراك من اللّحاق بمجموعتهم وحَزّهِم لِرؤوسِ ضحاياهم دونَ رحمةٍ. صرخاتُهم كانت تقطع أنفاس أبي من الخوف لكنّ الحظَّ لم يَسْخ هذه المرة بكراماته على أبي، فقد تمكّن أحد الجنود الأتراك مِنْ سحبه من تحت الجُثث وطعنهِ بخنجرٍ في ظهره أسفل كتفه الأيسر، وأخذ يتمتم بالتركية التي كان يُتقنُها أبي بعد أنْ خلع حذائهُ الأسود من قدميه الصغيرتين والمُجهدتين قائلاً لصديقه وهم يبحثون في جيوب وأغراض قتلاهم: “سآخذ هذا الحذاءَ لابني فهو يناسبهُ تماماً”، وألقى بوالدي على الأرض جريحاً ينزفُ. وهربوا بعد أنْ رأوا أهالي عين ديوار قد هبوا لنجدة الضحايا بعد أن أخبرهم رُعاةُ القرية عمّا فعلوهُ الجنود الأتراك، لكنهم لم يصلوا في الوقت المناسب لإنقاذهم”.
وكانَ مِنْ بين الواصلين الأكراد موسى إسماعيل مُختار عين ديوار الذي تولّى مُداواة والدي النّاجي الوحيد من وجبة الإبادة تلكَ وتَبنّاه كأحدِ أبنائه وانتقل للعيش في كَنَفِ أسرة جديدةٍ مَنحتهُ نَسبها، وأصبح يعرف بمصطفى موسى إسماعيل.
بعد مرور خمسة عشر عاماً على الإبادة شَبَّ  نظريان وتزوج من شريفة بيرمام ابنة عائلة كردية من قرية ملا مرزيه القريبة من عين ديوار، وأنجبَ منها أربعة أولاد وثلاث فتيات، وترك العائلة التي عاش في كنفها ابناً مُحبّـاً ومُخلصاً، وانتقل للعيش والاستقرار في مدينة قامشلو شمال وشرق سوريا.
مقهى كربيس بريد النّاجين من الإبادة
لا تَنفكُّ  بهيجة السيدة السبعينية التي تمرُّ بشكلٍ دوري في سوق القامشلي إلا وأنْ تقودها قَدَماها للمرور بجانب مقهى كربيس الذي بُنيَ في الثلاثينيات من القرن الماضي، قبل أن يُهدم ليعود ويُطلَّ من جديدٍ في ذات المكان، لا تُغادره صور من عرفوه وتُضيف قائلةً: “كأنّ الزمن ينثرُني على صفيح الذكريات ويُعيدُني إلى الوراء عشرات السنين كلما مرَرتُ بجانب مقهى كربيس أشعرُ بكثير من الألم وأترحّم على روح صاحبه كربيس ميراييان”.
 أذكُر تماماً ميراييان حين كُنت أُرافق والدي إلى دُكاننا الطيني في سوق عَذْرا في وسط المدينة، وأساعده في بيع الغرابيل والحبال والخيزران والمسامير والتوابل وأدوات الزراعة، زارنا كربيس وسأل والدي بعد سماعه أنّه أرمني نجا من الإبادة عن اسمه الحقيقي الذي يُعتبر مَقهاهُ من أوائل المقاهي بمدينة قامشلو ومن أهم نقاط التواصل الاجتماعي، عاد كربيس بعد فترةٍ بَشَّر والدي بوصول رسائل من أعمامه وخالاته وعمّاته من لبنان وأمريكا وفرنسا الذين فرّوا مع قوافل الأرمن الهاربين يومها إلى تلك البلاد واستقروا فيها، وراسلوا كغيرهم كربيس الذي كان بمثابة حمام زاجل وكساعي بريد إنساني. وتمكنت العديد من العوائل عن طريقه العثور على بعض أحبتها النّاجين كوالدي، وصلتنا رسائل أعمامه وخالاته وعماته الذين كتبوها باللغة الأرمنية وتولّت حينها عائلة أرمنية تُدعى جان دولة في ترجمة الرسائل وكتابتها وحتى إرسالها إلى عناوين مُرسليها. ومنها رسالة خالة والدي أرشلوز التي وصلتنا من بيروت في لبنان ودَعَتْ والدي لزيارته”.
وتابعت بالقول: “نعم أذكر ذلك تماماً كأنه الأمس. كنت في الحادية عشرة من عمري، حينها سافر والدي بالبوستة، كما كانت تُسمى الحافلات في تلك الأيام، ومنها إلى الساحل حيث سافر بالبابور وهي الباخرة التي حملت والدي نظريان وأخي البِكر بحراً إلى لقاء خالته بعد مرور كل تلك السنوات، وبعد مرور أربعين يوماً من عودة أبي تُوفّيَ بعد صراع مع مرض الفشل الكلوي كانت سنة ١٩٥٧م”.
الجريمةُ الكُبرى
الرابع والعشرين نيسان منْ كلّ عام الذكرى السنوية للإبادة الأرمنية التي راح ضحيتها ما يُقارب المليون ونصف المليون أرمني خلال وبعد الحرب العالمية الأولى. وقد أطلق الأرمن على تلك الأحداث بـ “الجريمة الكبرى” والتي ارتكبها الجنود الأتراك من ربيع ١٩١٥م، حتى خريف ١٩١٦م، وبقي صداها المُؤلم يُؤرّق ابنة الناجي نظريان شوربجيان كالآلاف غيرها  ممّن كانوا ضحايا حروب أحرقت الأخضر واليابس وسط تخاذُل المجتمع الدولي في أداء دوره الإنساني بِرَدّ الحقوق إلى أصحابها. وتُضيف بهيجة الموسى: “لطالما ارتبك المجازر في المناطق التي سيطروا عليها ونَكّلوا بالعباد وهدروا كرامة البشر الإنسانية. فلطالما رفضت الحكومة التركية الاعتراف بتلك الٳبادات الشَّنعاء رفضًا تامًّـاً”.
وأردفت: “رُغمَ مرور كل تلك السنوات الطويلة فإنها عجِزتْ عن مسحِ وابلِ الظلم الذي خيّم على حقبة سوداء في تاريخ دولةٍ طاغية أثقلتْ في طُغيانها وحفرتهُ عميقاً في ذاكرة الضحايا الناجين من تلك المجزرة الملعونة وسيبقى صداها مغموساً في ذاكرتي سأورثهُ لأبنائي ولأحفادي، مُحالٌ أنْ تَندملَ جراحاتهُ العميقة، وسَيُلاحق شَبحُ تلك الٳبادات الطُّورانيين الأتراك وسَيخنقُ أعناقهم بِطوقِ لعناته”.
RELATED ARTICLES

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here

Most Popular