الثلاثاء, نوفمبر 26, 2024
Homeمقالاتاحداث تافهة عاصرتها 6 : صلاح حسن رفو

احداث تافهة عاصرتها 6 : صلاح حسن رفو

احداث تافهة عاصرتها 6
اللقاء الصعب

رايته كم تركتهُ ذاكرتي اخر مرة…انيقاً…وسيماً…حليق اللحية، ويلبس كالعادة قميصاً اصفراً داكناً_وهو لونه المفضل_ نهضت لأصرخ دون مقدمات وانا الجالس في نهاية الحافلة على كراسيها العتيقة :
_آهذا انت يا عامر؟!…دعني المسك…دعني احضنك…نعم انه انت…بلحمك وشحمك…قل لي :هل راتك امك؟! اخبرني لأبشرها قبل الجميع. رد بهدوء يلازمه دوماً: متأخرٌ كالعادة ياصديقي…نعم جئتُ قبل يومين ومازالت لا تصدق بأنني ابنها لكوني تعلمت الصراحة والصرامة في الزنازين والسجون السرية…فتقول لي بين الحين والاخر : ابكي ياولدي كي اصدقك…اغضب كي اعرفك…وتتمتم بعدها وتقول :رغم معرفتي بأنك لم تغضب من احد يوماً ياصغيري، ما ان اكمل عامر كلامه حتى توقفت السيارة ورايتُ من الشباك ام عامر بأنتظاره مع ابتسامة خفيفة حينما رآتني وقالت وانا مقبل على النزول: هل تصدق ان هذا هو صديقك ياصلاح؟ّ!
لم استطع الاجابة على السؤال لكوني كنت لحظتها قد نهضت من ذلك الحلم الجميل!
قصة (عامر اسماعيل) هي اغرب القصص التي مرت على ذاكرتي_على الاقل في الدائرة الصغيرة لمعارفي واقاربي ومنطقتي_.عامر هو اكبر اخوته والمدلل الذي لا يُرفض له طلب ،لكونه الابن البكر لأحد شهداء الحرب العراقية الايرانية.
كان بيته في “سوق الفوك” كما يسميه السنجاريين وهو اقدم احياء المدينة واكثرهم شعبية، كان البيت مرتعاً لنا نحن اصدقائه ،فحال خروجنا من العمل في شارع الصناعة نأخذ بعضنا لـلقاء على التلة العالية التي تتوسطها مقام (السيدة زينب)التي كانت قريبة منا جميعاً قبل ان تُسيج وتُرمم وتزخرف جدرانها الخارجية…كانت اللقاءات هناك قريبة جداً من بيت عامر فيحضر معه كل ما نشتهيه او ما موجود في المنزل، بل نتجاوز في اغلب الاحيان ونذهب لأكل “العصرية ” في حوش المنزل دون خجل، فـبـيته مفتوح وقلبه مفتوح لنا ولأغلب اصدقائه_وما اكثرهم_.
للسائلِ عن صديقي هو لا يعمل، فوالدته ترفض ان يتعب ابنها الكبير، لذا كان انيقاً وجميلاً ويشرب السكائر بالعلن.اشترت امه ذات مرة سيارة من ما تبقى من مذخوراتها ،وتعلمَ عامر السياقة،وفي احدى الليالي وفي صحبة بعض اصدقاء المصلحة_كما اسميتهم_ وكان قد شربوا الكحول قليلاً_ او هكذا قيل في تحقيقات الشرطة_ اصطدمت سيارة عامر مع خلفية سيارة “ابو حمدي الصيدلي” ومن معه ،و لمن لا يعرف ابو حمدي ،هو فلسطيني الجنسية جاء الى سنجار بعد غزو العراق للكويت قادماً من هناك ليستقر في المدينة.آُلفَ عنه مئات القصص والروايات لكن اقربها الى الصدق انه عميل للمخابرات كما يزعم الاهالي. كان يرافق ابو حمدي في تلك الليلة الاستاذ ابو نوار مدير احد المدارس والمعروف عنه بـبحثه عن الاثارة وخلق بطولات وقصص ٍوهمية، وكانت الحادثة فرصة ذهبية لشخص مثله لأستغلالها، وبالفعل قال في محضر التحقيق: أن السبب الاساسي للأستهداف المتعمد لسيارتنا هو تمزيقي وحرقي لعلمي امريكا واسرائيل في المناسبة الاخيرة لأستذكار يوم القدس ! ،ولولا ان من كانوا مع عامر ليلتها من عوائل ميسورة ومعروفة وتدخل بعض الخيرين من رجال الشرطة لكان الموقف معقداً للغاية، وقد اكد هذا الكلام حسين” خال عامر” عندما رافقتهُ لمواجهة عامر من اجل الخروج من السجن، وادخل حسين بعض المصطلحات في كلامه رددتها كثيراً فيما بعد الحادثة، اذ قال لضابط الشرطة بعد الشكر: العبرةُ ياسيدي بأن يتعض عامر من هذا الدرس. “كلمات كالعبرة والاتعاض كانت جديدة في قاموسنا نحن الشباب اليافعين”!.
اُفرجَ عن عامر وقررت امه بيع السيارة وفتح محل كماليات له قريب من المنزل حتى لا تُشقى معه، ورغم معرفتنا جميعاً بأن عامر الخجول والطيب لن يُخيب اي زبون اراد بنطالاً او قميصاً بالدين، لكنه افضل الحلول الممكنة للاهل انذاك.
لعامر هوايات كدتُ ان انساها، فهو يُزودنا بأشرطة المسجل للاغاني الكوردية الممنوعة كأغاني شفان به رور وكولستان وعشيشان وبواسطته تعرفتُ على اغاني الثنائي مراد بكداش وفاطمة، واخبرني لاحقاً بأن الجنود الترك قطعوا راس بكداش!_رغم عدم تأكدي من المصدر ليومنا هذا_ الا ان ثقافتنا الغنائية كانت منه ومعه ،واظنُ ان الاستماع الى الاغاني الممنوعة في زمن صدام هو النضال السري الوحيد لي ليومنا هذا!.
في ليلة شتائية كان رفيقنا في صحبة بعض الاصدقاء وفي بيت احد الجيران تحديداً وادرك ان سكائره لن تكفيه حتى الصباح، اخبر الحاضرين بضرورة مغادرته والانضمام اليهم حال شراءه لأحتياجاته، لكنه لم يوفي بالوعد.
سؤلَ عنه صباح اليوم التالي في المنزل لتنهار امه لتصورها بأنه في صحبتهم او في بيت جده الذي يزورهم بين الحين والاخر.بُحثَ عنه في مراكز الشرطة دون جدوى،سؤلَ بخوفِ عنه في دوائر الامن والحزب دون فائدة.مرت الاسابيع وتعدَ حدود البحث معسكرات التدريب والسجون و سجلات الوفيات والطب العدلي دون نتيجة او حتى بصيص امل.
زيارة معبد لالش في منتصف الشهر العاشر من كل سنة كانت المتنفس الوحيد الذي يخرجنا من اجواء العبث والحرمان لنرى كيف تعيش كوردستان ايامها دون حكم البعث ،وكُـنا سعداء بهذه السفرة السنوية رغم اننا على الاغلب ننام في العراء او في احدى السيارات المركونة في ساحات لالش ونبدأ صباحاً جديداً مع ” الحرية” المتاحة لأسبوع. سمعنا في احدى الصباحات صوتاَ عرفناه على الفور، انها ام عامر الكريمة وهي تدعونا للفطور وقد اخذت ركنٍ لأحد الخرابات في ازقة المعبد وجعلته كدارٍ موقتة للاستراحة، صبت لنا الشاي واخبرتنا بعد سنوات عدة من انقطاع اخبار فلذة كبدها عن نشاطها الدؤوب في البحث في سجون كوردستان عن شابٍ اسمه (عامر اسماعيل)، اذ اخبروها بعض المصادر من الحكومة العراقية بأنه موجود في سجن (صلاح الدين) في كوردستان، ورغم استغراب مسؤولي السجن هناك من صحة الكلام_ والكلام لأم عامر_ الا انهم تعاونوا وبكوا مع الام المفجوعة وهم يفتحون لها السجلات وابواب الزنازين دون وجود شخصٍ بهذا الاسم.
بعد سنوات من البحث الشاق واللامجدي اخبره بعض وسطاء حزب البعث بأن ابنها مسجونً في اليونان بعد رحلة هرب فاشلة، واستشارت الخيريين كثيراً والذين كذبوا تلك الادعاءات جملاَ وتفصيلا.
بعد سنة 2003 وسقوط نظام البعث وفي البحث عن كافة السجلات السرية لم يتبين اي اثر لعامر او حتى الوصول لجثمانه.
لم يعد لنا عامر الجميل الا في الحلم ليلة امس وقد كان كما تركته ذاكرتي…انيقاً…وسيماً…حليق اللحية.

صلاح حسن رفو
20_11_2018

RELATED ARTICLES

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here

Most Popular