تملكني الفزع وأنا أشاهد ألسنة لهيب النار والدخان يتصاعد بشكل مرعب ومخيف في الكاتدرائية وسط عدسات المصورين والجمهور ، وقد زرتها لمرتين لمشاركتي مهرجان اللومونتيه الذي يقيمه سنويا الحزب الشيوعي الفرنسي في خريف كل عام ، وأقف بخشوع وتأمل حسب طقوس اليوكا أمام الكاتدرائية وأشعربوجل وقدسية أجهلها مع لهب كهربي في ذاتي ربما هو الشوق والولع الطفولي أن تقتحم أسوار البناء المعماري المذهل وأنت داخل لقبو الكاتدرائية ترى عبارة منقوشة على جدار الكنيسة لفيكتور هوجو { الزمن أعمى والأنسان أحمق } 1802 -1885 وتتزاحم في مخيلتي وقرارة ذاتي أرهاصات مضطربة ربما هي أطياف من ركام الرماد من تلك ليلة الحريق المشؤومة ،في واحدة من أسوأ الحرائق التي تطال معالم تأريخية فرنسية ، وعلى عجل أستحضرتُ بطلي الرواية عبرهواجسٍ مشبوبة بالخيال مرت بعجالة على مخيلتي المتعبة الأحدب ( كوازيمودو )الموكل بتحريك أجراس الكنيسة الثقيلة لقوته العضلية والذكورية المرعبة وهو يلاحق جسد (أزميرالدا )الفاتنة الغجرية بعينٍ واحدةٍ وهي ترقص على أنغام أغنية شعبية فرنسية بتغريدة أنثوية ملائكية مخملية مثيرة من باحة الكنيسة وكأنها مستوحاة من وترية موزارت 40 وتلك حكايتي المنحوسة مع فكتور هيغو .
أن الحريق الذي نشب في الكاتدرائية يوم الأثنين 15 نيسان الجاري وهي الكنيسة الرئيسة في فرنسا وأقدم الكنائس الأوربية عموما وقد بدأ بناؤها عام 1160 وأنتهى عام 1345 ، يمثل المبنى تحفة الفن والعمارة القوطية ، ويعد من المعالم التأريخية في فرنسا ، ويعود تأريخ أنشاء المبنى إلى العصور الوسطى ، تقع في قلب مدينة باريس الحلم الغافية على ضفاف نهر السين الخالد شاهد تأريخ فرنسا مما أثار موجة من الأستياء مع شيءٍ من الولع والتعاطف الوطني لأقتناء الكتاب ، بحيث نفذت موجوداته في المكتبات وطُبعت لمرتين وأحتلت المركز الأعلى في أرقام بيع الكتب في فرنسا ، حيث أعاد الحريق الذي نشب في الكاتدرائية الوهج للرواية فتصدرت المبيعات ، ولشدة أشتهار الرواية تسابق تجار صناعة السينما أخراج أفلام للرواية أتذكر منها في زمننا الجميل 1956 عرض فيلم بعنوان ” أحدب نوتردام ” يلعب فيه الممثل الأمريكي واليوناني الأصل ” أنتوني كوين ” دور الأحدب والممثلة الحسناء الأيطالية ” جينا لولو بريجيدا دور ( أزميرالدا ) .
أحدب نوتردام رواية رومانسية حقاً تحبس الأنفاس لكونها مثيرة للحزن والخيانة والحب بأشكاله القاتلة حب صوفي تعبدي حب رومانسي حب خيانة حب عبثي ويجمعها هوغو ببراعة مثيرة في بودقة واحدة مؤطرة بالأمل والتأمل والفداء والخيانة,الذي أثبت أن لهُ القدرة على التصوير في أظهار الأحدب بصورة وهو يسمو بشعوره الأنساني حين أوقعهُ بتلمس مسحة جمالية ربانية كامنة في قرارته وأعماق ذاتهِ ، ويرمز الروائي العملاق بأن هذا الجمال هو جمال الدفيء الأنساني المحروم منهُ لبشاعته وعاهته البدنية المستديمة وأن هذا الجمال الخيالي يتقمصهُ الأحدب بصورة ملاك رحمة رباني بهيئة تلك المرأة الغجرية ، لقد تحول الأحدب إلى كيان منعدم بسبب عاهته لكونهِ عاجز عن الفعل حتى تأتي شرارة هوغو البارعة لتنير ذاتهُ المتمثلة بأنوثة الغجرية الفائقة الجمال ، والرواية تدخر أشارات إلى تلك اللعبة الغيبية القدرية في المعايير الأجتماعية والأخلاقية للقبح والجمال بمزاج (ميلودرامي ) مبني على غرائب المصادفات في زمكنة ذلك العصر في عالم باريس القرن الخامس عشر والتي ميّزتْ كتابات هوغو ، وهنا يدين الكاتب هوغو المجتمع بعزل العاهة وبأحتقار الضعيف ونهش المحرومين لذا صب فيها هوجو فلسفتهُ في الأنسنة وموقفه من الظلم وغياب العدل والأنصات لصوت المظلومين والضعفاء والمحرومين ، متوغلا في أعماق عالم المتشردين والمهمشين وحتى الأسياد المنكسرين خلال متاهات الظلم والعبودية والسحر والتدين المصطنع في نفاق مؤلم في توظيف الدين والكنيسة في تغييب الأنسان وأستلابه ، ويعلن هوغوأنتصاراتهُ للبشرية في تمحور الرواية على ( العاطفة الأنسانية ) التي هي الأداة الديناميكية في حركة التغيير الأجتماعي وبأعتقادي يريد أن يقول لنا : أن الحراك الشعبي في الرواية دلالات بواكير للثورة الفرنسية في أواخر القرن 18 ، وتدور أحداث الرواية لأواخر العصور الوسطى في عهد الملك لويس الحادي عشر عام 1482، نشرها فيكتور هوجو عام 1931 ، أنها دراسة تأريخية مؤطرة ببعدٍ أجتماعي وفلسفي وسياسي لأجماع النقاد (أن هوجو يمتلك قلب شاعر ورؤية سياسي) ، وبالحقيقة يجب أن أعترف بأن الروايتين : البؤساء وأحدب نوتردام من أوائل الأعمال السردية لهوغوالتي تفاعلت مع مخيلتنا الطفولية ومشاعرنا البكر في سني قراءة الشباب كونتُ فكرة عن هوغو:أنه صحيح يمتلك قلب شاعر ورؤية سياسي .
أن الرواية التي كتبها هيغو تؤرخ أحداث جرتْ في القرن الخامس عشر وكُتبت في القرن التاسع عشر وتُرجمت إلى العربية خلال القرنين العشرين والواحد والعشرين ، والتي وصف فيها الكاتدرائية بأنّها متهالكة وتعاني من تشوهات لا تقدر ولا تحصى وتزامناً مع كارثة الحريق ساهم في تنبيه الثقافة الوطنية عند الجمهور الفرنسي صاحب السترات الصفر إلى هذه التحفة القومية الأثرية ، وأحداث الرواية تدور حول ( كوسيمودو ) الأحدب المشوّه قارع جرس الكنيسة في القرن التاسع عشر الذي يقع في حب الغجرية الحسناء فائقة الجمال (أزميرالدا ) التي تحترف الرقص وتصاحب الغجر المتجولين في عروضهم ، نجح هوغو من خلال هذه الرواية ذات الأحداث الآسرة في صناعة قصة حب ( متشظية ) بين شخصيات ضائعة تخوض متاهات صعبة وملتبسة المفاهيم مثل القس ( فرولو ) والفارس ( فيبس ) وحب كواسيمودو الأحدب الأكثر أشكالية على أعتبار روحه الشفافة تسكن جسداًمعطوباً تطابق حكمة أحد فلاسفة القرون الوسطى { أن النفس تتشوّه حين تكون في جسد ناقص } .
وهكذا جرب هوغو الغوص في أعماق التأريخ الفرنسي وسايكولوجية القساوسة والرهبان وحتى الشماسين بالأضافة لملوك الرومان والعديد من الشخصيات الفاعلة في التأريخ ، ويسمو بنجومية متألقة بل ربما أصبحت الرواية أشهر من الكاتدرائية نفسها