لقد استنتجت البحوث والدراسات التي أجريت في محافظات العراق وسوريا التي احتلها تنظيم “داعش” بين عامي 2014 و2019، أن طبيعة ظاهرة السلوك الداعشي وأهميتها، تختلفان من مجتمع إلى آخر، ومن بيئة اجتماعية إلى أخرى، تبعاً لاختلاف الخصائص الاجتماعية والقومية الخاصة بكل مدينة، وتبعاً لتباعد درجات الوعي الثقافي بين هذه المجتمعات. أثبتت الدراسات أن حجم هذه الظاهرة في ارتفاع شديد في القرى البعيدة من أرياف المدن، وبدأت تبرز في الآونة الأخيرة بشكل مقلق في الكثير من أحياء المدن الحضرية المحررة أيضاً. وهو واقع تسبب بمشكلات متنوعة، منها تطرف الأطفال دون الـ14 سنة، ودفع بعض الشباب إلى تمني عودة تنظيم “داعش” لأسباب اقتصادية وطائفية.
ظاهرة داعشية الأطفال التي تعيشها القرى وأطراف المدن اليوم ينبغي أن نبحث عن أسبابها في السنوات الثلاث الماضية، إذ إن معظم العوامل التي ساهمت في تفاقمها، إنما كانت انعكاساً للمشكلات التي خلفها الاحتلال الأميركي بعد عام 2003، وسوء فهم الديموقراطية وسوء توظيفها، والتسرع بكتابة الدستور وحل الجيش العراقي، وما صاحب ذلك من مشكـلات وسلبيات، إضافة إلى الأزمة الاقتصادية التي عرفها العراق بين عامي 2014 و2017، والتي كانت آثارها واضحة على الأفراد والمدن والقرى.
لقد شهدت هذه المدن نزوحاً ريفياً مكثفاً بين 2014 و2016، ارتبط خلال هذه الفترة بعوامل ثقافية وقومية واقتصادية، ناتجة عن الوضع الاقتصادي العام في أرياف شمال غربي العراق وشمال شرقه، والمتمثل في الدرجة الأساس برفض الوجود الداعشي وأيضاً عدم التوازن بين الموارد والسكان، وعوامل إدارية تتمثل في سوء التنظيم الذي شهده الريف العراقي نتيجة لجذب المدن للطاقات الحيوية الريفية، وعدم تكافؤ الفرص في الميدان الاجتماعي والثقافي أمام أبناء الريف في مقابل أبناء المدن. دفع ذلك بأعداد من الريفيين خصوصاً الشباب منهم، إلى الخروج عن المجتمع التقليدي، لكون العراق كبلد نام تتابعت عليه صدمات الجماعات المسلحة الراديكالية الآتية في الغالب من أطراف المدن، لم يكن باستطاعته أن يوفر الخدمات اللازمة لجميع المواطنين، بخاصة على مستوى المراكز الحضرية الكبرى، والمتوسطة التي تضخم عدد سكانها بمعدل مفرط. وكانت النتيجة الفورية نشوء الكثير من المشكلات الاجتماعية ذات البعد الطائفي الديني والقومي، منها ارتفاع معدل الانخراط في اقتصاد الحرب الذي توفره الجماعات المسلحة. وانحراف الطفولة كان آخر مسارات الجذب والتجنيد، التي ما لبثت تستمر في الارتفاع بعد عام 2014.
حرب التحرير القاسية التي خاضتها مدن سنجار وجرف الصخر وبيجي والرمادي والموصل، أضافت سبباً جديداً في عدم الاستقرار، وتالياً عدم الاهتمام بداعشية الطفولة، نذكر منها قلة الطرائق التربوية والنفسية التي تستهدف تطهير لوثات الداعشية وندرة الأطر المدرسية الخاصة بالمعالجات النفسية، وانخفاض مستوى تدخل منظمات المجتمع المدني الفاعل لإحداث المعالجة، وتدهور التعايش داخل الأسر واهمال رصد السلوك الخاطئ، وتخلف نسبة كبيرة من أطفال القرى عن التعليم المدرسي لمدة 4 سنوات، وقلة المدارس والمعلمين، وسوء حالة مخيمات النزوح.
انطلاقاً من العمليات الأساسية لتمكين الاستقرار من خلال ما نعبر عنه بالثلاثية العلاجية، الإعمار وفرض القانون وعودة النازحين، ونظراً لإمكانيات العراق الاقتصادية المحدودة لم يستطع مواجهة كل الاحتياجات الاجتماعية والثقافية المرتبطة بنمو داعشية الطفولة الهائل والسريع، ما ترتب عنه ظواهر سلبية، مست بصورة واضحة فئـة الأطفال والشباب المبكر، التي أصبحت تواجه مشكلات عدة في كثير من الميادين، بخاصة ميدان التعليم والثقافة والاقتصاد، ووسائل التلقي الديني التي كانت لها علاقة وطيدة بسلوكهم الانحرافي. يمكن الانطلاق في تشخيص الأزمة الحادة التي يعاني منها المجتمع الذي تعايش مع تعاليم “داعش” وأحكامه، والتي كانت انعكاساتها واضحة على استمرار ظاهرة داعشية الطفولة بعد عام ونصف العام على التحرير، بتسليط الضوء على البعد التعليمي والإعلامي لمعالجة هذا المرض، من خلال تحليل سريع لأسباب فشل برامج تمكين الاستقرار الذي اعتمدها العراق بعـد التحرير، حيث استند إلى مجموعة من الدراسات الغربية في بناء السلام والتعايش والسلم المجتمعي والحوار والتعددية الثقافية، هذه البرامج منها التشجيع على عودة النازحين وبناء السلام في المدن المتنازع عليها بشكل شمولي وواسع، واعتماد الفواعل المجتمعية المسيطرة. وتجسدت بوادر هذا الفشل في ضعف إعادة الاعمار وتحسين البنية الخدمية وخاصة الصحية والتعليمية وانتشار البطالة الاقتصادية وخروج الكثير من المنشآت والمؤسسات التي تتبع القطاع الخاص. فمثلاً خسرت الموصل القديمة وحدها ثروات ضخمة قدرها المختصون بقرابة 4.5 مليار دولار من بضائع ومبان ورأسمال ثابت. وكانت إحدى نتائج ذلك الفشل، الفساد المالي المستمر الذي تعانيه الوحدات الإدارية في الحكومات المحلية، إضافة إلى تعميق الخلافات السياسية بين المدينة والقرية التي تعرضت لها البنية الاجتماعية.
هذه العوامل كلها، تستدعي وجوب إدخال إصلاحات مهمة من أجل تحقيق معالجات سريعة لهذه الظاهرة داعشية الطفولة، فهم خزين استراتيجي كموارد بشرية لأي تطرف ديني عنيف مقبل، وبحسب مدركنا البحثي إن عدد اشبال الخلافة قرابة 3500 طفل في غرب العراق فقط، بعضهم نفذ عمليات عسكرية، وهناك قرابة 58 ألف طفل، هم أسر مبايعة لـ”داعش”، أغلبهم في مخيمات النزوح والقرى المهجورة، بعيداً من برامج التأهيل والمراجعات والاندماج المجتمعي، كثر من هؤلاء الأطفال لا يزال يحمل في ذاكرته الناشطة، الكثير من الأناشيد والاشعار والنصوص والحركات والسكنات والشوق لأيام التعايش في أكناف حكم تنظيم “داعش”.
فلا بد من تطبيق برنامج التعديل التعليمي على مناهج خاصة بتلك المناطق، سواء كانت مدارس عامة أو دينية خاصة، لرفع تلك العوائق قبل أن تصبح عقائد مولدة لسلوك عنيف.
التعديل في ملف التربية والتعليم يتميز في الميدان الاجتماعي بإجراءات جادة لها تأثير مباشر على الظروف الاجتماعية للمتعايشين من حيث تأثير الآباء والأصدقاء والمدرسة والمسجد والإعلام الاجتماعي والأماكن العامة.
إن آثار التحولات الاجتماعية والتعليمية على المراهقين والشباب في تطور ظاهرة داعشية الطفولة في المجتمعات المحررة من حكم داعش ناجمة، أيضاً عن مجموعة من العوامل الأخرى نذكر منها ما يلي:
-تخلي الكثير من الآباء عن واجباتهم الإرشادية والرعوية تجاه أبنائها، إذ غالباً ما تلجأ الأسر التي تواجه مشكلات مع الأبناء إلى زجرهم وتهديدهم بالضرب او الكلمات المؤذية، بحجة أنها أصبحت غير قادرة على ضبط سلوكهم الديني. وعند تخلي الآباء عن مسؤوليتهم تجاه أبنائهم، فليس بإمكان للمعلم والخطيب والشرطة المجتمعية والمنظمات الخاصة في مكافحة التطرف، مساعدة الطفل الداعشي أو الطفل الذي لديه شبهات داعشية من دون مساعدة الاباء، بخاصة أن التطرف في سلوك الأطفال بارتفاع مستمر.
الصعوبات والمشكلات التي تعيشها الكثير من الأسر التي انتمى أحد أفرادها إلى “داعش”، جعلت الأطفال يعيشون في محيط أسري واقتصادي وديني غير مناسب، مثل مخيمات العزل والقرى المهجورة، إلى جانب التفكك الأسري بسبب سجن الأب أو قتله أو هروبه أو مجهولية مصيره.
إضافة الى تدني المستوى التعليمي للأم أو الجد، والتوتر الأسري والتربية الخاطئة، كلها عوامل رئيسية لها علاقة كبيرة بداعشية الطفولة، بحسب ما صرح به المختصون بعلم التربية النفسية وعلم الاجتماع التربوي وبعض المسؤولين في جهاز الأمن الوطني والشرطة المجتمعية، الذين تمكننا من الحوار معهم.
-إن طول فترة إهمال الحكومة معالجة هذه الظاهرة وعجز المنظومة التربوية، ومنظمات المجتمع المدني المهنية عن التكفل بظاهرة الطفولة الداعشية، إلى جانب غياب شبه تام للمؤسسات التي ينبغي أن تأخذ على عاتقها مستقبل الطفولة وإدماجهم اجتماعياً ومهنياً، خلق جيلاً بلا تعليم، ضائع متسكع مع أفكار كراهية الآخر وحب الانتقام بمعية هدف عودة الخلافة الداعشية.
– تحيّز خطيب المسجد والمعلم في المدرسة في قرى الأطراف البعيدة من الرقابة الحكومية والمجتمعية، إزاحة القيم ذات الصلة بالتحولات الطائفية الدينية، جعلا الكثير من الأطفال يعيشون ظاهرة الانتقال مع تحولات خطيب المسجد ومعلم المدرسة في تلك القرى المحرومة من الرقابة والرعاية الحكومية والمجتمعية.
-إن عدم السيطرة المسؤولة على منصات الإعلام البديل كان لها تأثير كبير في تطور سلوكيات الطفولة الداعشية وترسيخها، هذا ما يفسر انتشار ظاهرة حسابات الأنصار على “تويتر” وتلغرام و”يوتيوب” و”فيسبوك” في أوساط الكثير من المراهقين، إلى جانب شبكة الانترنت التي تعرض الأفلام والإصدارات الداعشية، ولا تخضع لمراقبة مشددة أو توجيه.
-إن عمليات التحرير جعلت عائلات بأكملها تهجر مناطقها الريفية، وتضطر إلى تغيير محيطها الاجتماعي ونمط معيشتها نحو الأسوأ، الأمر الذي انعكس سلباً على الأطفال الداعشيين الذين أصبحوا يعيشون في الفقر والحرمان، ما أدى بالكثير منهم إلى الشوق والتوق إلى حكم تنظيم “داعش” والى طريق الجنوح نحو الكراهية وترسيخ الانحراف العقائدي.
-لا يمكن أن نغفل عما ألحقه الاب الداعشي في المدن والقرى التي عاشت تحت حكم “داعش” من ضرر على نفسية الأطفال، بخاصة أولئك الذين عايشوا أحداثاً مأساوية، فمنهم من تأثر بها سلباً لدرجة انتهاج السلوك ذاته، بسبب الحماسة أو بدافع الانتقام.
ولم تقتصر ظاهرة الطفولة الداعشية على فئة معينة بذاتها، بل شملت كل الفئات ذكوراً وإناثاً، متعلمين وغير متعلمين، عشائريين ومدنيين، كما دخلت الطفولة الداعشية كل المناطق المتعايشة تحت حكم “داعش”، وتسللت إلى البيوت والمحلات والمدارس والجامعات والأحياء والشوارع… إلخ.
هشام الهاشمي باحث وخبير