|
توقفنا عند الحلقات التي تحدثت عن البدايات.. سنتوقف كذلك عند الحلقة 61 الجزء الرابع الذي حمل عنوان العوائل والعفو المفخخ المخصص للأنفال .. وما له علاقة بكارثة مراني وخسارة 200 ضحية من الانصار والاطفال والعوائل في محنة الحصار .. بسبب القرار الخاطئ الذي اتخذ من قبل المسؤول الأول في بهدينان..
وهو امر ليس من السهل تجنبه لكونه يشكل.. اكبر كارثة في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي والانصار.. بعد مجاز شباط 1963 .. يفوق عدد ضحاياها خسائر بشتاشان.. لم يجري التوقف عندها بجدية لليوم بالرغم من وضوح خيوطها الأولية ..
وما عرض في الجزء الخاص لهذا الحدث الكبير.. لا يرتقي الى مستوى المسؤولية.. ويجعلنا ان نثبت الحقائق التي غفلها.. او تهرب منها التوثيق والمتحدثون في الفيلم المعد من قبل علي رفيق .. بغض النظر عن موقفنا من الحدث.. علينا ان لا نجزئ الحقيقة الدامية عند التفكير بالتوثيق .. خاصة وإن الحدث ما زال ينز دماء وآلاما موجعة ..
إذ يلاحظ من مجرى التوثيق .. التناقض في الرواية.. والخوف والتردد من الاقتراب من قول الحقيقة في الفيلم .. بين امكانية اخراج العوائل وسحبهم من معبر محطة سنجار.. التي كانت صلة الوصل بين الخارج و الداخل.. ومنها يجري التواصل بين المكتب السياسي للحزب ومقرات القيادة في الانصار.. حينما طرحت فكرة امكانية عبور العوائل منها.. فأخفى المسؤول الأول ابو سالار ـ لبيد عباوي.. هذه الامكانية مدعياً وفقا لحديث النصير ابو سربست في الفيلم.. انه استفسر من ابو سالار عن هذه الامكانية ونقل عنه.. انه اي ابو سالار.. قال: ان النصير خليل السنجاري قد قال له.. لا يوجد هكذا امكانية ..
بينما يمضي الشريط ليكشف عن نقل العشرات من الانصار والكوادر من هذا المعبر.. دون ان يسأل او يكلف نفسه المخرج بالسؤال المهم والمباشر ممن له علاقة بما حل بالضحايا .. والاستفسار لماذا لم يجري اخراج العوائل والاطفال من هذا المعبر؟.. وهل استفسر ابو سالار من خليل بالفعل؟ ..
ام انه قد خدع رفاقه بالحديث نيابة عن خليل صاحب القرار الفصل في هذا الموضوع !!..
أجل هل سأل ابو سالار.. او استفسر منه.. عن امكانية عبور الاطفال والنساء.. من معبر سنجار الى سوريا كبلد ومحطة آمنة؟..
أم ان ما قاله وفقا لحديث ابو سربست ليس الا كذبة قبيحة.. أدت لكل هذه الخسائر البشرية في ذلك الوقت العصيب!! ..
هل كان بالإمكان استقبالهم ونقلهم؟.. علما اننا كنا قد اخرجنا مجموعة الاطفال والكوادر من ذلك الطريق بالذات من عام 1980 الى سوريا .. كما حصل مع ابو ايفان من القوش ومام سعيد سواري ومجموعة الاطفال عام 1983 من الذين ارسلوا للدراسة الى الاتحاد السوفيتي ليواصلوا تعليمهم في ايفانونا ..
لو كان المخرج قد توجه بالسؤال لخليل للاستفسار عن الحقيقة.. لاكتشف انه امام حالة كذب مريعة تجسدت بادعاء غير صحيح من الرجل الاول الذي كلف بمهام القيادة بالخطأ .. ولم يكن جديرا بالتصدي للمهام والمعضلة التي واجهت المحاصرين في الانفال.. واعتبرهم عبئا يجب التخلص منهم بأية وسيلة ممكنة.. ومارس ضغوطه من خلال هذا الموقع على الآخرين.. وبالذات على الكوادر والانصار الذين لهم عوائل معهم في تلك المحنة.. و أصدر قراره البائس بتسليم العوائل للسلطة .. وهو يتحمل مسؤولية غيابهم بهذا القدر او ذاك شئنا أم ابينا ..
ولأننا نبتغي الوصول للحقائق.. ينبغي ان لا نكون بلا موقف .. فالمسؤول الأول حينما ينطق باسم رفيق له دون علمه في هكذا امر خطير وفي مثل هذه المحنة.. يتحول من شاهد الى مدان .. ذلك ما تجنبه علي رفيق في سياق توثيقه للحدث في حلقته عن الانفال ..
ومن هذه الزاوية ساهم للمرة الثانية في تدوين حقائق بديلة عن النهايات.. كما دون حقائق مزيفة عن البدايات.. من خلال شهادات للأدعياء.. سعوا ليقولوا انهم كانوا في الملعب التاريخي للأنصار.. منذ اللحظات الاولى.. ويبدو لي انها لحظات مزيفة .. لا تاريخية.. استوجبت هذا النقد وهذه الصراحة ..
سنعود الى ما قاله النصير توفيق فيما وثقناه من حديث مطول له عن الانفال..
( كنا نقتربُ من مراني ثانية مساء السادس من أيلول وهو اليوم الذي صدر فيه ما يسمى بالعفو. في حينها كنا مقطوعي الصلة بالعالم. لا تربطنا الاّ أجهزة الراديو التي نتسقط منها الأخبار .. عند سماع نبأ العفو فرح الكثير من المواطنين واعتبروه فرصة للخلاص من طوق الموت ..
هكذا نظرنا نحن أيضا للقرار واعتبرناه فرصة للتنفس و التفكير .. كان عدد المحاصرين في شعاب كاره وحدها أكثر من 15 ألف مواطن.. وبالرغم من عدم ثقة الناس والسياسيين بالسلطة و وعودها إلا أن البعض من المواطنين بدأ بالنزول من عدة محاور في نهلة و كاني ماسي و آفوكي و كاره من جهة العمادية و سرسنك.. وكانت السيارات العسكرية تنقلهم فوراً إلى مواقع خلفية لتجمعهم في مراكز تابعة لمعسكرات الجيش في أتروش و باكرمان و عقره و سرسنك ومن هناك ينقلون إلى قلعة نزاركي في دهوك ومجمع بحركي في أطراف أربيل .
في الأيام اللاحقة أزداد عدد الذين سلموا أنفسهم .. كانت الذروة في السابع والثامن من أيلول حيث شاهدنا سلسلة طويلة من البشر تتوجه إلى آفوكي ومدخل كاني ماسي.. الطائرات العمودية تحلق فوق رؤوسهم على ارتفاع منخفض.. وتوجه الجموع للسير نحو مراكز الانتظار.. حيث تنقلهم فوراً الآليات العسكرية إلى أماكن مجهولة.
أما نحن فكنا نتابع تطورات الحدث الجديد .. ومقتنعين بعدم إمكانية شمول العفو لأي پيشمركة أو نصير .. العوائل تنتظر ما سيحل بها .. وكيف يجري التعامل مع إعلان العفو من قبل الشيوعيين.. كنا نعيش محنتين..
ـ هل نسحب عوائلنا ونختفي معها؟..
ـ أم نبقى مع الأنصار ونقودهم للخلاص منْ طوق الموت؟ ..
اخذ الصراع يحتدم في نفوسنا .. توقعنا بعد نزول الفلاحين أن يجري تطويقنا واحتمال استخدام السلاح الكيماوي ضدنا .. كنا محصورين في نطاق منطقة جبل كاره ومقر مراني .. كان من المستحيل سحب ونقل العوائل إلى أية منطقة أخرى بعيدة في ظل الحصار التام المحكم حولنا.. حيث كان الوصول إلى الدشت مع هذا العدد من الأطفال والنساء والشيوخ مستحيلا ويتطلب معجزة، والبقاء في كاره يجعلنا هدفاً سهلا لقوات النظام وسلاحه الكيماوي، أما العبور إلى الحدود التركية أو الإيرانية فقد فات أوان التفكير به واستبعدناه نهائياً، بعد أن وصل الجيش العراقي إلى ابعد نقطة.. وأخذ يلاحق المتوجهين للحدود حتى داخل الأراضي التركية أحياناً كما نقلت الأخبار حينها.
في اليوم الثاني من العفو.. عقدنا اجتماعاً خاصاً لتدارس وضع العوائل والأنصار.. حضره عدد كبير من أصحاب العوائل.. ونوقش الموضوع بشكل مطول لساعات.. لم نتوصل إلى حل ولا إلى قرار .. كل ما فكرنا به كان يؤدي إلى فكرة واحدة هي الاستفادة من الوقت بتسليم العوائل .. بادر لطرح الموضوع أبو سالار استند في رأيه على ما كان يجري حوله حيث قال :
ـ أولا .. إن جميع الناس من الأهالي سلموا ولم يبقى سوى الأنصار و العوائل، في هذه الحالة سيكون بمقدور السلطة معرفة مناطق تواجدنا واحتمال حصرنا وإبادتنا.. سيكون هذا كارثة في حالة استخدام الكيماوي و الطيران ..
ـ الثانية.. تتعلق بالانتشار الواسع للقوات العسكرية ووضع الكمائن و المرابض في جميع المعابر والطرق .. من المستحيل اختراق الكمائن ونقاط المراقبة مع وجود الاطفال الصغار والعجزة من الشيوخ ناهيك عن المرضى والمعوقين .
ـ ثالثا.. مع احتمال البقاء في شعاب كاره سنواجه شبح الموت من الجوع والعطش مع نفاذ المؤن والأرزاق التي استهلكها المحاصرون من الاهالي .. كانت هذه هي النقاط الرئيسية التي أجمعت المناقشات عليها، والنقطة الرئيسية منها كانت تتعلق بمدى القدرة على سحب العوائل ونقلهم وسط هذه التحشدات العسكرية المنتشرة في كل مكان .
الحل الوحيد الممكن .. كان في حالة واحدة.. هو أن يتخلى الرفاق أبو عمشة وأبو سربست وكفاح وأنا والآخرين عن رفاقهم وبقية الأنصار .. كان هذا التصرف يتطلب أن نتجرد من قيمنا وأخلاقنا، ونفضل أنفسنا على الآخرين وننفصل عنهم .. لهذا بقينا نكبت جراحنا ووافقنا بألم على المقترحات بخصوص تسليم العوائل.
إلا أن الكثير من الأنصار والرفاق اعترضوا واذكر منهم أبو عمشة وعلي حاول و مام عبدال وأبو خدر و النصير أبو ظاهر بالرغم من عدم وجود عائلة له. لذلك ترك الخيار لأصحاب العوائل ليقرروا بأنفسهم إيجاد الحل المناسب بين البقاء أو التسليم، مع تأكيد أبو سالار للجميع بعدم وجود إمكانية لدى الحزب لإنقاذ العوائل في هذه الظروف الصعبة، وبسبب عدم وجود حل ومخرج آخر اضطر المعترضون إلى التسليم بالأمر الواقع ورضخوا لفكرة التسليم.
عند انتشار الخبر بين العوائل مساءً.. حدثت حالة من الهلع والفوضى .. صاحبها بكاء النساء واعتراضهن على فكرة التسليم .. أستطيع أن أتحدث عن زوجتي وموقفها بالتفصيل .. عندما طرحت الفكرة على زوجتي شيرين أخذت تبكي وتتوسل لتبقى وتموت فقط أن لا تسلم .. قالت: نستطيع أن نبقى وحدنا ونأكل الأعشاب .. أذهب وأنقذ نفسك .. اتركنا وحدنا .. كانت تتذكر أيام اعتقالها الأول عام 1983 حينما حجزت مع العوائل وأبعدوها عن أطفالها زكي 3 سنوات ولينا سبع سنوات و تانية 6 سنوات لمدة ثلاثة أشهر .. كان صالح نرمو مترجماً لها في مديرية أمن الموصل .. وكان قرارهم بالإفراج عنها أن تتعاون معهم لاستدراجي واعتقالي، وفي حالة رفضها ستقتل مع أطفالها ..
في حينها سحبتها مع الاطفال إلى المناطق المحررة في كردستان .. سكنا قرية آطوش مع عدد آخر من عوائل الپيشمركة .. كانت خائفة و متوجسة.. رفضت أية فكرة للتسليم .. ذكرتني بما يمكن أن ينفذه الأمن بها و بالأطفال .. قلت لها: هذا قرار يشمل الجميع .. هناك عفو عام .. في الحقيقة كنا نستبعد أية فكرة أو احتمال للقضاء النهائي على الاطفال والنساء .. لا بل كنا لا نتصور أن يجري فصلهم عن بقية العوائل المحاصرة .. أقصى ما فكرنا به بعد العفو أن يجري اعتقالهم لأيام ويجبرون على السكن في مجمعات قسرية .. هذه كانت تصوراتنا عن الموضوع في تلك المحنة .. كذلك علمت برفض أم عمشة للفكرة ومن المحتمل أن زوجات بقية الرفاق كان لهن نفس الموقف.
في الثامن من أيلول صباحاً بعد الفطور مباشرة انطلقت العوائل من مراني باتجاه صوصيا المطلة على مدخل كاني ماسي .. رافق العوائل لتوديعهم عدد من الأنصار بينهم كفاح كنجي وأبو عمشة وجلال وشاكر وأبو سربست وزيا .. شخصياً لم أتحمل الموقف وذهب شقيقي أمين مع المودعين.
الوداع والفراق كانا من اقسى و أصعب اللحظات.. الحزن و البكاء رافق كل خطوة للأطفال والنساء والمودعين .. طائرات الهليكوبتر كانت تحوم محلقة حولهم .. اضطر المودعون من الأنصار للتوقف والاختفاء بين الصخور و الأشجار ..
هكذا ودعنا فلذات أكبادنا في ذلك اليوم القاسي .. بقي جلال وشاكر يراقبانهم لحين وصولهم إلى كلي كاني ماسي ونقلهم بالسيارات العسكرية إلى قلعة أتروش، ومنها إلى قلعة نزاركي في دهوك .. كان مجموع النساء والأطفال والشيوخ يقدر بـ 200 فرداً تقريباُ .. مع مجموعة من الأنصار والشباب ونذكر منهم تحسين عيسى، حسين علي لبي، منيف غانم، حسين خلف كانون، منيف غانم ومعهم ثلاثة من أشقاء صباح وكفاح كنجي )..
وهناك قائمة موثقة بأسماء الذين سلموا أنفسهم أو اجبروا على التسليم من عوائل مراني للأنصار الشيوعيين.. الذين غيبوا لاحقاً في المقابر الجماعية في مرحلة الأنفال منشورة في العديد من المواقع الإلكترونية والأدبيات والنشرات التي تتحدث عن الأنفال ..
وان كان هناك شيء نود ان نثبته بعد كل هذا الزمن .. نقول من الصعب قبول واستيعاب هذا القفز غير المبرر عن الحقائق المغيبة في هذا التوثيق غير المتكامل للحدث.. والمطلوب التوقف الجدي امام هذه الكارثة والكشف عن صفحاتها المغيبة والمخفية وتشخيص المسؤولين عنها وادانتهم بغض النظر عن موقعهم سواء اكانوا من رموز السلطة وجيشها وجحوشها الذين يتحملون المسؤولية الأولى عن هذه الجرائم الكبرى.. او الاشخاص والقياديين الذين ساهموا بهذا القدر او ذلك في دفع المزيد من الضحايا لمدافن الانفال..
ويكون من المفيد أن نذكر ان ما يتعلق بمحطة سنجار وامكانية عبور العوائل والاطفال منها كان قد جرى التباحث عنه بشكل مباشر بين خليل وابو عمشة وابو سربست بشكل مباشر .. قبل الانفال واكد لهم خليل وجود هذه الامكانية.. وهنا تسقط اهمية حديث ابو سربست.. وما نقله عن ابو رنا.. الذي فقد مصداقيته في التعامل مع رفاقه.. في هذه المحنة.. وتجرد من الشعور بالمسؤولية وحصر كل اهتمامه في انقاذ نفسه.. وهو ما فعله حال وصوله القامشلي حيث غادرها فوراً الى دمشق لحضور حفلة عيد ميلاد ابنه وترك بقية رفاقه المحاصرين ..
لا بل هناك من غيبهم في لجة الحدث.. بسبب شكوكه النابعة من حالة الانهيار التي لازمته.. وتصور التنكر الذي تم تهيئته لنقل المجموعة المحاصرة مرسل من قبل الأمن.. ومعلوماتنا المؤكدة تشير الى عائدية التنكر لشقيق النصير المغيب.. الذي كان معوقاً يبيع الماء .. و وضع تنكره تحت تصرف الانصار المحاصرين في تلك المحنة..
وللأسف جرى التعامل مع هذا المقترح من خلال استنتاج خاطئ اسفر عن قرار فادح.. يتطلب اعادة الاعتبار للنصير المغيب من قبل الهيئات المخولة في الحزب.. والنظر الى ابعاد تصرفات المسؤول الاول.. التي ساهمت في تغييب هذه المجموعة البشرية الكاملة.. التي اقل ما يمكن ان نطلق عليها بالوصف.. كارثة مراني .. ليس كشاهد يمكن الركون لأقواله و ادعاءاته وتبريراته .. بل كمدان ينبغي محاسبته و محاكمته كمتهم يتحمل جزء من المسؤولية عن غيابهم ..
خاصة وانه طيلة فترة وجوده في السلطة ووزارة الخارجية .. بعد زوال النظام.. لم يحرك ساكناً.. ولم يكلف نفسه بالسؤال عن المقابر الجماعية التي غيب فيها ضحايا مراني لليوم ..
ـــــــــــــ
صباح كنجي
28 نيسان 2019
ـ رابط حلقة ذاكرة الانصار
منطقة المرفقات