“إن حس النقد يتبلد كلما اشتد إيمان صاحبه”
عباس عبد النور
بين فترة وأخرى أخلو إلى نفسي، كما يفعل الكثير من البشر، واعود بذاكرتي إلى عقود وسنوات خلت، عقود من حياتي السياسية التي بلغت حتى الآن سبعة عقود بالتمام والكمال، أي منذ أن بلغت الرابعة عشر من عمري حيث بدأ وعيي السياسي الأول يتفتح على الحركة الطلابية والحركة السياسية العراقية، وقد اقترن ذلك بوثبة كانون الثاني 1948. لقد كانت الحياة مليئة بالحركة والعنفوان وروح التمرد الشبابية على العادات والتقاليد والأعراف البالية تموج في نفوسنا الشبابية وتتطلع إلى حياة جديدة فيها الجديد من معاني الحرية والديمقراطية والعمل وضد البطالة والفقر والحرمان والاستفادة من ثروات البلاد لصالح المجتمع. والخلوة مع النفس لا تخلو من نقد أو حتى جلد الذات لأخطاء ارتكبها أو ارتكبت بحقه أو بحق الآخرين أو فشل مرَّ به الإنسان أو المجتمع وكذلك عن نجاح تحقق له أو للمجتمع. إنه حساب مع النفس ومع الآخر.
تشير معطيات وتجارب الشعوب دون استثناء بأن غياب الحياة الديمقراطية كلية، أي سيادة الاستبداد بمختلف صوره وأشكال ظهوره، أو جزئياً وشكلياً، أو وجود الحياة الديمقراطية ومستوى وجودها في الدول، يلعبان دوراً أساسياً في ثلاث مسائل جوهرية:
1. دور وجود أو غياب الحياة الديمقراطية في تكوين الفرد ديمقراطياً أو بالضد منها.
2. واقع وجود أو غياب الحياة الديمقراطية في المجتمع وما ينعكس في دور الشعب وتأثيره في الحياة السياسية.
3. واقع الحياة الديمقراطية الداخلية في الأحزاب السياسية القائمة ودورها وعلاقتها بالدولة والمجتمع. وأحياناً تغيب الحياة الحزبية كلية في الكثير من الدول النامية، بسبب غياب الديمقراطية كلية، أي سيادة الاستبداد تماماً. والدول العربية والأفريقية وكذلك في آسيا وأمريكا اللاتينية تقدم نماذج فجائعية بهذا الصدد.
والعراق عموماً يعيش على امتداد عقود القرن العشرين والعقدين الأول والثاني من القرن الحادي والعشرين غياباً جزئياً أو كلياً للحياة الديمقراطية. وقد انعكس ذلك جزئياً أو كلياً على الأحزاب السياسية القائمة، على وجودها أو غيابها أو على مستوى الحياة الديمقراطية الداخلية فيها وفي علاقاتها مع الدولة والمجتمع.
وفي فترات مختلفة عرف العراق أحزاباً سياسية اندثر أغلبها وبعضها القليل قائم حتى الآن. بعض تلك الأحزاب حصل على إجازة عمل رسمية، وهي أحزاب النخب الحاكمة بشكل خاص، وأخرى معارضة كانت تغلق بين فترة وأخرى ويحرم عليها العمل السياسي رسمياً. وكانت هناك أحزب سياسية حرمت من العمل السياسي الرسمي وأجبرت على العمل السري، وبالتالي فكانت مطاردة من قبل الأجهزة الأمنية وغالباً ما وجد قادتها وكوادها وأعضاؤها أنفسهم في السجون وتحت التعذيب وبعضهم استشهد في المظاهرات أو على أعواد المشانق. وفي تاريخ العراق الحديث صدرت في فترات مختلفة قوانين جائرة تتعارض مع مواد الدستور العراقي لعام 1925 أو حتى فيما بعد، رغم تضمينه الحق في تشكيل الأحزاب والمنظمات والتجمع والتظاهر والإضراب وإبداء الرأي دون الخشية من عقوبات.
وانعكست الحياة غير الديمقراطية في الدولة العراقة على حياة الأحزاب السياسية في نواحي عدة وأبرزها ما يلاحظ في نظمها الداخلية ولاسيما التشدد في قواعد العمل وفي كسب الأعضاء وفي سرية الحياة الحزبية، وفي العلاقة بالأفراد والجماعات وفي الصحافة. ومما يزيد هذه الأمور صعوبة استخدام الدولة سلطاتها الثلاث، ولاسيما التنفيذية في الطلب من شيوخ دين بارزين وبتبعهم الكثير من المؤمنين بتحريم هذا الحزب أو ذاك، كما حصل من شيخ الدين محسن الحكيم حين حرم الحزب الشيوعي والشيوعية عام 1963، بل وحرم التعامل مع الشيوعيين (كما حصل حين حرم شراء بيت وسيلة الشبيبي في النجف، لأن أخيها الشهيد حسين الشبيبي (صارم) كان شيوعيا وأحد قادة الحزب وأعدم عام 1949) واعتبر ذلك من الكفر! وحين انخفض سعر الدار بسبب التحريم، قام السيد محسن الحكيم بشراء تلك الدار بسعر بخس! ومعروف لدى المسلمين حكم الكفر!
وفي ضوء هذا الواقع المضاد للدستور العراقي أجبرت بعض الأحزاب والكتل السياسية على العمل السري بسبب رفض السلطات الحاكمة منحها إجازة عمل رسمية، أن تضع في نظمها الداخلية بنوداً تتعارض مع مواد الدساتير العراقية والقوانين المرعية عموماً، إذ كانت تلك الأحزاب محرمة رسمياً وأعضاؤها ملاحقون من قبل السلطات الأمنية والسياسية. كتب حسين محمد الشبيبي (صارم) في مقدمة كراس يوسف سلمان يوسف(فهد) “حزب شيوعي لا اشتراكية ديمقراطية” بهذا الصدد ما يلي:
” فالحزب يختفي أذن ويصبح حزباً سرياً بقصد نشر مبادئه وآرائه، وتبيان موقفه من الحوادث وللمحافظة على استمرار الحركة وتنظيمها، الى آخر ما هنالك من الواجبات. فالشيوعيون ليسوا من عشاق السراديب والسجون وليسوا ممن يرتاحون الى تعريض بيوتهم الى غارات الشرطة وارهاب من فيها وأحياناً أخذهم رهائن – كما حصل في غارات حزيران المنصرم – وليسوا ممن يحبون رؤية وجه الجاسوس الذي يتبعهم كظلهم، ولكنهم يتحملون كل هذه وأكثر منها برغم أنف العدو الذي يحاول تهزيمهم من الميدان – عن طيب خاطر لسبب يحلّونه فوق ذواتهم وفوق بيوتهم، أنهم يعشقون مثلا أعلى في الحياة لطبقتهم وللبشرية أجمع، أنهم يكرهون عن وعي أعداء طبقتهم الواقفين حجر عثرة في طريق تقدم الإنسانية”. هذا التشخيص دقيق تماماً لغالبية الفترة التي عاش تحت وطأتها الحزب الشيوعي العراقي منذ تأسيسه، ولا يمكن لأحد أن ينكر ذلك، رغم الفترة القصيرة من حكم عبد الكريم قاسم التي لم تستمر سوى سنة واحدة لتنتهي بعدم منح الحزب إجازة رسمية، إذ شَرَعَ بالهجوم والبدء باعتقالهم لمناداتهم بـ “الديمقراطية للعراق والسلم لكردستان العراق”.
وكانت النظم الداخلية للأحزاب الشيوعية واليسارية عموماً في الدول الأخرى، التي كانت تعيش ذات الأوضاع اللاديمقراطية المماثلة لأوضاع العراق، متشابهة من حيث الجوهر في جميع الدول التي كانت ترفض سلطاتها منح هذه الأحزاب إجازة العمل العلني، والكثير منها لا يزال يمارس ذلك. وبالتالي كان المتابع يقرأ مواداً تنظيمية تفرض قواعد معينة على أعضائها تتعارض من حيث المبدأ مع مبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، والتي يمكن أن نجدها في كراس فهد حزب شيوعي لا اشتراكية ديمقراطية أو في مقدمة حسين محمد الشبيبي للكراس في تبرير تلك القواعد وتتجلى في النظام الداخلي للحزب الشيوعي العراقي. فعلي سبيل المثال لا الحصر تتعارض مع الحق في إبداء الرأي المخالف لرأي الحزب علناً ونشره في الصحافة العلنية، وليس بالضرورة في صحافة الحزب المعني. وكان الأعضاء يقبلون بذلك بسبب غياب الديمقراطية كلية في البلاد، وبسبب الخشية من تفشي اسرار هذا الحزب أو ذاك وما يمكن أن ينشأ عنها من عواقب سلبية. من بين تلك القواعد سبل تطبيق المركزية الديمقراطية، أو الالتزام بعدم إبداء الرأي المخالف لرأي الحزب علناً بل يمكن مناقشته داخل تنظيمات الحزب حصراً أو نشره في إعلام الحزب، أو قاعدة “نفذ ثم ناقش” التي كانت سائدة عملياً! وكان من يخرق هذه القواعد الكثيرة جداً يحاسب ويعاقب على وفق القواعد المنصوص عليها في النظام الداخلي وهي: “التنبيه، الانذار، التنحية من اللجان أو المسؤولية، وفصل العضو من الحزب أو انهاء الترشيح للحزب.” (أنظر: النظام الداخلي للحزب الشيوعي العراقي الذي أقر في مؤتمره العاشر عام 2016).
ولكن وجود مثل هذه القواعد المخالفة من حيث المبدأ للدساتير الديمقراطية ولشرعة حقوق الإنسان بكل مكوناتها في النظم الداخلية لهذه الأحزاب، ومنها الحزب الشيوعي العراقي، لم يعد قابلاً للتطبيق، إذ لم يعد الحزب يعمل في السر بل حصل على إجازته ويعمل علناً وله مقراته ويمارس مع بقية الأحزاب العملية السياسية الجارية في البلاد، رغم المخاطر التي تحيط بعمل الحزب، ناهيك عن القوى المتربصة به، بغض النظر عن طبيعة هذه العملية السياسية، كما أنه أقر الدستور العراقي الذي بنص على حرية الفرد في التعبير عن رأيه دون خشية من عقوبة أيا كان موقعه في الحزب. ماذا يعني ذلك؟ إن هذا يعني بكل بساطة واختصار: لا يجوز لأي حزب سياسي علني في العراق أن يتضمن نظامه الداخلي عقوبات على أعضاء الحزب بسبب اختلافهم في الرأي مع رأي الحزب، وبسبب نشر رأيهم الصريح بصورة علنية في صحافة الحزب أو في صحف علنية أخرى، حين يرفض الحزب نشره في صحافته أو حتى عند نشره. إذ أن مثل هذه العقوبات تتعارض مع مواد الدستور التي تعطي المواطن والمواطنة الحق في إبداء رأيه وإعلانه صراحة وعلناً دون خشية من عقوبة. كما إن من حق العضو أن يرفض تنفيذ أي قرار صادر من قيادة هذا الحزب أو ذاك حين يجد أن ذلك يتعارض مع مبادئ الحزب أو الدستور العراقي أو شرعة حقوق الإنسان أو ضميره. وحين يتعرض للعقوبة من حقه أن يرفع دعوى قضائية ضد الحزب أمام المحاكم المحلية للبت في الموقف على ضوء الدستور وليس النظام الداخلي للحزب. إذ لا يجوز وضع نظم داخلية للأحزاب التي تحمل إجازة رسمية تتعارض مع الدستور العراقي، رغم إن من حقها أن تعمل لتغيير الدستور أو تعديله والتبشير بذلك.
فالفقر 2 من المادة الأولى من النظام الداخلي للحزب الشيوعي العراقي في مؤتمره الثالث عام 1976 تؤكد ما يلي: “وحدة الحزب السياسية والتنظيمية، ووحدة المنطلقات الفكرية المبنية على الأسس الديمقراطية وعلى حرية الآراء وتفاعلها، وهي تجد تعبيرها في وحدة الإرادة والعمل”. ولكن تحقيق وحدة الرأي والعمل تتم على النحو الوارد في الفقرة (3) من المادة الثالثة: حقوق عضو الحزب: “حرية ابداء الرأي والمناقشة، وتعدد الآراء وتباينها وتفاعلها والاتفاق عليها داخل المنظمات والهيئات الحزبية، والاستماع الى الآراء المخالفة واحترامها والاستفادة منها.” وكذلك الفقرة ج من 3. حق الأقلية في مناقشة سياسة الحزب العامة، وسياسته التنظيمية، وفي ابداء الاعتراض عليها أمام الهيئات الحزبية المسؤولة بما فيها المؤتمر، والتعبير عن رأيها في منابر الحزب الاعلامية، على أن لا يعيق ذلك التزامها تنفيذ قرارات الهيئات القيادية.”
وقد تطور موقف الحزب خلال السنوات الأخيرة فورد في النظام الداخلي الذي أقره المؤتمر العاشر عام 2016 بهذا الصدد ما يلي:
“نشر وجهات نظره في القضايا الفكرية والسياسية في المنابر الاعلامية للحزب، وتقديم المقترحات والاعتراضات الى هيئته او اية هيئة حزبية اعلى، لدراستها والابلاغ عما اتخذته من إجراءات بشأنها.”
ج – حرية ابداء الرأي والمناقشة، وتعدد الآراء وتباينها وتفاعلها والاتفاق عليها داخل المنظمات والهيئات الحزبية، والاستماع الى الآراء المخالفة واحترامها والاستفادة منها.
د- حق المنظمات الحزبية وأعضاء الحزب في الاعتراض على قرارات الهيئات القيادية، والمطالبة بإعادة النظر فيها، مع توضيح الاسباب، على أن لا يعيق ذلك تنفيذهم لها إلى حين البت في الأمر والاتفاق بشأنه. والهيئة القيادية ملزمة بالنظر فيه خلال شهر واحد من تأريخ استلامه من قبل الهيئة التي تصادق على القرار.” (أنظر: النظام الداخلي للحزب الشيوعي العراقي، موقع الحزب الشيوعي العراقي، نشر بتاريخ الأربعاء, 28 كانون1/ديسمبر 2016).
حين تقرأ ما ورد في المؤتمر الثالث والمؤتمر العاشر من حيث الجوهر ستجد إن المحصلة واحدة وهي لا يحق للرفيق الشيوعي أو أقلية حزبية نشرها الرأي المخالف لرأي الحزب خارج الأطر الحزبية الداخلية أو إعلام الحزب. وهذا غير صحيح خاصة، إذا امتنع الحزب عن نشر تلك الآراء في صحافته الحزبية. إنها مخالفة صريحة للدستور العراقي ولمبادئ حقوق الإنسان. لهذا فأي عقوبة تتخذ بحق رفاق شيوعيين اتخذوا موقفاً معارضاً لسياسة الحزب بطريقة تختلف عما نص عليه النظام الداخلي للحزب تعبر غير شرعية ويمكن الاعتراض عليها دستورياً وفي المحاكم العراقية. إن هذا لا يعني إن القضاء العراقي عادل فهو معروف لنا، ولكن الحديث هنا عن المبادئ التي يفترض أن تسود.
إن الأحزاب السياسية العراقية، الإسلامية منها والقومية، القائمة في العراق لا تمتلك المصداقية لا في برامجها ولا في نظمها الداخلية، وبالتالي فالمقارنة مع الحزب الشيوعي غير واردة، ولكن يفترض في الحزب الشيوعي العراقي أن يقدم النموذج الأفضل والأرقى والأحدث في هذا الصدد ويمنح رفاقه الحق في الاختلاف وفي نشر الأفكار المخالفة من أجل تنضيج الآراء مع المثقفين والمتعلمين والجماهير خارج صفوف الحزب، وكم كان من الناحية الفعلية رأي الأقلية في الحزب هو الأصوب من رأي الأكثرية.، ولكنها حرمت من إعلان رأيها، وهو ما يقود إلى عدم التناغم والانشقاقات التي تحرم الحزب قدرته على تعبئة قواه الداخلية. كم أتمنى على الحزب الشيوعي العراقي العريق والأقدم في العراق أن يعيد النظر فيما اتخذ من عقوبات بحق من خالف وجهة نظر الحزب بشأن هذه القضية أو تلك، إن كان قد اتخذ مثل هذه العقوبات، ومنها قضايا التحالفات السياسية، لأنها الضمانة الفعلية في تطور فكر الحزب وفي تأمين أفضل تفاعل بين الآراء وضمان التجديد الفكري والسياسي. وعلى وفق قناعتي الشخصية فأن النقد الجريء يعتبر المشعل الذي ينير درب المناضلين الطويل”، والتذمر منه أو الإساءة للناقد خسارة لا مبرر له