بعد توتر شديد واحتقان خانق وصمت لا يطاق، احتضنت جامعة كويه في إقليم كردستان العراق، وعلى مدى يومي 28و29 /2019/04 مجموعة مشرقة من الباحثين الأكاديميين والأساتذة الجامعيين من العراق وبعض الدول العربية في ندوة أكاديمية مشتركة أقيمت بتنسيق مباشر بين جامعتي كويه وبغداد، بهدف تبادل الآراء ووجهات النظر حول أهمية وضرورة البدء بحوار عقلاني جاد ومسؤول عن العلاقات العربية–الكردية وعن أسس هذا الحوار العقلاني المنشود بشأن مسألة أساسية تمس العرب والكرد وباقي القوميات في آن واحد، مسألة “حق تقرير المصير“. وقد وضَعَ المنظمون لهذه الندوة شعاراً مهما يدور حول “المثقف ومسألة التعايش المشترك“، استناداً إلى “حوار عربي–كردي عراقياً“، وفي “ذكرى الراحلين هادي العلوي وفالح عبد الجبار“، وهما الكاتبان الديمقراطيان واليساريان اللذان تبنيا ضرورة الحوار العربي الكردي وأهمية البحث الجاد والمسؤول عن حق الشعوب في تقرير مصيرها، لا في العراق حسب، بل وفي بقية الدول حيث يعيش الكرد في أقاليمهم، كما هو الحال في كل من تركيا وإيران وسوريا، حيث الاضطهاد على أعلى وأقسى مستواه.
لقد قدّم المشرفون على الندوة، وبشكل خاص السادة وزير التعليم العالي في إقليم كردستان العراق ورئيس جامعة كويه ورئيس جامعة بغداد، ممثلاً بنائبه، ومدير الندوة الدكتور سربست نبي، كلمات مهمة استعرضوا فيها أهمية وحيوية مثل هذه الندوات وضروراتها، ولاسيما في القضايا المصيرية للشعوب، وأهمية الاستفادة من تجارب العقود المنصرمة المريرة لوضع الحلول الإنسانية والعلمية والعملية للمشكلات القائمة. ثم قدم المنظمون عرضاً موفقاً وموثقا بالصور أعده الزميل المهندس الاستشاري الأستاذ نهاد القاضي عن بعض جوانب حياة وعمل وأبحاث الراحلين ومواقفهم الفكرية والسياسية، وخاصة في الموقف من القضية الكردية في العراق والمنطقة.
لقد قُدمت في هذه الندوة ما يقرب من 30 مطالعة وتلخيصاً لأبحاث ودراسات أكاديمية وبعضها بخلفية سياسية من باحثين وأساتذة جامعيين وسياسيين. وقد اتفق الجميع على أهمية وضرورة الالتزام بحوارات عقلانية جادة ومسؤولة وعلى أهمية وضع الأسس السليمة لمثل هذه الحوارات التي يفترض فيها أن تقود إلى العيش السلمي المشترك والاحترام والتفاعل المتبادلين واحترام الخصوصيات القومية، مع لزوم الابتعاد عن ممارسة القوة والعنف في فرض الحلول التي لا تعالج المشكلات القائمة بل تزيدها تعقيداً. وكانت تجارب العقود المنصرمة شاخصة في بحوث وأطروحات العديد من الباحثين، إذ شهدت الكثير من الخلافات والصراعات والنزاعات المسلحة والحروب الدموية التي لم تفض إلى نتيجة إيجابية، بل أدت إلى المزيد من الخسائر الفادحة بالأرواح والممتلكات وإلى تعطيل عملية التنمية والتقدم الاجتماعي والازدهار في العراق رغم الثروة النفطية الهائلة التي يمتلكها شعب العراق بكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه. لقد تميزت الفترة الطويلة المنصرمة بغياب الحوار العقلاني الجاد والاعتراف بالحقوق المشروعة والعادلة، مما أدى إلى توقف العقل عن التفكير بالحلول السلمية والعقلانية، فكانت الصراعات والنزاعات السياسية والحروب بديلاً عن الحوار.
في هذه الندوة الأكاديمية، التي تميزت بالحيوية والجدية، برزت وجهات نظر متباينة ليس بشأن أهمية الحوار، بل بصدد فهم وأبعاد وأسس ومستلزمات ممارسة حق تقرير المصير. وهنا تغلبت الإيديولوجية المتشددة لدى بعض المشاركين على الفكر الحر القادر على رؤية الأمور بشفافية ووضوح أكبر وفي ضوء اللوائح الدولية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات، ولاسيما في الورشة الأولى، إذ كانت ورشة سياسية بامتياز وبين سياسيين عراقيين. إذ برز الاختلاف واضحاً في هذه الورشة الحوارية التي شارك فيها سياسيون ينتسبون فعلياً لأربعة أحزاب هي: حزب الدعوة الإسلامية (د. على الأديب)، الحزب الشيوعي العراقي (رائد فهمي)، الحزب الديمقراطي الكردستاني (د. محمد إحسان)، والاتحاد الوطني الكردستاني (عدنان المفتي). وتبلورت في هذه الندوة ثلاثة اتجاهات: الاتجاه الأول يرفض حق الشعوب في تقرير مصيرها، بما في ذلك رفض حق إقامة دولة وطنية مستقلة من منطلق إنهم جميعاً في إمة إسلامية واحدة “أكرمكم عند الله أتقاكم“؛ والاتجاه الثاني يتفق مع مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها بما في ذلك حق الانفصال وإقامة الدولة الوطنية المستقلة، ولكنه يرى بأن المرحلة الراهنة تتناغم مع الفيدرالية القائمة كحد أقصى، والاتجاه الثالث يرى بأن حق تقرير المصير، بما في ذلك الحق في إقامة الدولة الوطنية المستقلة حق مطلق للشعب يمارسه متى رأي ذلك ضرورياً. ولكن الجميع أكدوا على ضرورة الحوار العقلاني والالتزام بمعاييره وأسسه. وقد طرح مدير ورشة العمل د. سربست نبي، الذي أدار الندوة بشفافية وذكاء، أسئلة بدت وكأنها محرجة للبعض منهم، إضافة إلى الأسئلة التي طرحها الحضور. ولم يكن الهدف من ذلك إحراج المحاضرين بل التحري عن إجابات لسبل معالجة المشكلات القائمة بروح ودية ومسؤولة عن مصائر القوميات العديدة في العراق. ورغم ذلك بدا بإن بعض الأسئلة كانت محرجة لممثل حزب الدعوة، إذ تجنب الإجابة عنها، وتحدث بما كان يراه منسجماً مع الإيديولوجية الإسلامية السياسية التي يتبناها في الموقف من حق الشعوب في تقرير مصيرها، في حين أجاب الآخرون دون حرج عن الأسئلة التي بدا موقف رائد فهمي لعددٍ غير قليل من الحاضرين غير مفهومٍ، وكان مفهوماً لآخرين، حين أشار إلى إن الفيدرالية هي الحد الأقصى لهذا الحق في المرحلة الراهنة، لقناعته في عدم توفر مستلزمات إقامة الدولة الوطنية المستقلة، وأكد مجدداً على موقف الحزب الشيوعي المبدئي من حق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها.
تطرح تجربة العراق مع المسألة الكردية دروساً غنية وكثيرة يفترض البحث فيها وإبرازها والتعلم منها، إذ إنها ترسم الطريق المفضي للحلول المنشودة في التعايش السلمي المشترك، كشكل من أشكال حق تقرير المصير من جهة، أو ممارسة حق إقامة الدولة الوطنية المستقلة بصورة سلمية وعبر حوار عقلاني جاد ومسؤول من جهة أخرى. فمنذ أن أُلحقت ولاية الموصل، ومعها إقليم جنوب كردستان، بالعراق، تعرض الشعب الكردي إلى التهميش والإقصاء من جانب الحكومات الملكية، وإلى رفض تنفيذ الالتزامات التي قطعتها على نفسها الحكومة العراقية والملك فيصل الأول أمام مجلس عصبة الأمم، كأحد شروط إلحاق ولاية الموصل بما فيها الإقليم بالعراق، مما استوجب خوض النضال من جانب الشعب الكردي وبصيغ مختلفة للوصول إلى بعض الأهداف، وقد ناضلت معه اقوى الوطنية الديمقراطية، وخاصة السارية منها. واشتد هذا الأمر في العهود الجمهورية رغم الاعتراف بالشراكة العربية الكردية في العراق كوطن للجميع، إلا إن هذه الحقوق لم تنفذ بما يرضي الكرد. وتفاقم رفض الحقوق في العهود الجمهورية اللاحقة في أعقاب انقلاب شباط 1963 المشؤوم، التي تميزت بالصراع والنزاع وسيول من الدماء على أيدي النظم القومية والبعثية الدكتاتورية وقواتها العسكرية. ولم يكن الاعتراف بالحكم الذاتي في عام 1970 سوى ثمرة النضال التحرري الكردي والتضامن بين القوى الديمقراطية والتقدمية العربية والقوميات الأخرى في العراق من جهة، وضعف البعث وخشيته من السقوط من جهة أخرى. ولكن هذا النظام الشوفيني سرعان ما عَمَلَ على تفريغ هذا الحق من مضامينه الأساسية، حين تعززت قدراته العسكرية وموارده المالية وتآمر بخسة ونذالة مع شاه إيران وبدعم من الولايات المتحدة وإسرائيل والجزائر، في اتفاقية الجزائر في أذار/مارس 1975 ضد الشعب الكردي وحركته التحررية المسلحة. ولم تكن جرائم نظام وحزب البعث اللاحقة سوى تأكيد شوفينية ودمويته التي برزت في عمليات الإبادة الجماعية فيما أطلق عليه بعمليات “الأنفال” في العام 1988 والتي راح ضحيتها أكثر من 180 ألف مواطنة ومواطن من إقليم كردستان العراق، إضافة إلى أفدح الخسائر المادية والحضارية حيث استخدم السلاح الكيماوي في حلبچة ومواقع أخرى من كردستان. وفي عام 1991 أُجبر النظام الدكتاتوري على الانسحاب والسكوت على قيام الفيدرالية الكردستانية في الإقليم، ثم تم تكريسها في الدستور العراقي لعام 2005. ولم يكن هذا المنجز منحة من أحد بل نتيجة نضال مرير وطويل للشعب الكردي قدَّم فيها تضحيات جسيمة. من هنا يفترض أن يستخلص الباحثون الأكاديميون والمثقفون كافة والسياسيون الدروس الغنية وأن يسعوا لتعميمها والاستفادة منها في المرحلة الراهنة والقادمة، وخاصة في أعقاب التوتر الذي رافق عملية الاستفتاء في عام 2017، التي هي من حيث المبدأ حق مشروع للشعب الكردي. إن تجنب الحوار العقلاني والبدء بالصراع وإعلان القتال وخوض الحروب لن يحل المشكلات القائمة بل يزيدها تعقيداً ويخلق مشكلات جديدة. أن توقف الحوار العقلاني الجاد هو الذي يقود إلى توقف العقل عن العمل وبدء الأفعال التي تؤجج الصراعات والنزاعات والحروب. والحرب غالباً ما تلد أخرى وهلمجرا. أي إن بدء الحوار يعني التخلي عن القوة وعن استخدام السلاح للوصول إلى حلول معينة ترضي المتحاورين.
والحوار العقلاني الجاد والمسؤول له شروطه ومستلزماته، إذ بدونها يتحول إلى “حوار بين طرشان“. وكان هذا الرأي موضع اتفاق عام من جانب الباحثين الأكاديميين وأساتذة الجامعات التي تكرست هذه الفكرة في مطالعاتهم المكثفة وفي النقاشات التي دارت في 8 ورش عمل وزع عليها المحاضرون والمشاركون في الندوة. فالمساواة والندية والاعتراف والاحترام المتبادلين وتأمين الثقة والنية الصادقة بين المتحاورين تشكل القاعدة الأساسية لأي حوار عقلاني منشود. يضاف إلى ذلك الاستفادة من دروس الماضي ورفض سلوكيات الحكومات العراقية المتعاقبة في تهيش الشعب الكردي وعدم الاعتراف بحقوقه العادلة والمشروعة على مدى نيف وتسعة عقود خلت، وضرورة امتلاك رؤية واضحة وشفافة لما يراد الوصول إليه، وتجنب الاستفزاز والإثارة المتبادلة، وامتلاك روح التسامح والصبر والبحث والاستعداد لاتخاذ القرارات الصعبة للوصول إلى الأهداف المنشودة، كما يمكن الاستعانة بخبرات الشعوب والدول الأخرى لتأمين طرح المعالجات السليمة والعملية أثناء الحوار. إن الحوار سجال فكري وسياسي يراد منه الوصول إلى نتائج إيجابية، وهو ليس بمعركة واحدة وينتهي الأمر بانتصار أحد الطرفين وانكسار الأخر، بل يراد منه النصر للمتحاورين، لأنه يوفر الأرضية السليمة للتعايش السلمي المشترك، أو الانفصال السلمي والاحتفاظ بالصداقة والتعاون والتضامن والعمل المشترك.
لقد نجحت الندوة في تقديم نموذج جيد ومتقدم للحوار العقلاني بين جمهرة من المثقفين الواعين في قضايا ذات أبعاد مصيرية للشعبين العربي والكردي ولبقية القوميات في العراق، ولا بد من عقد ندوات أخرى، سواء إن تم عقدها في العراق أم في دول عربية أخرى بهدف مشاركة أوسع من مثقفين وسياسيين لتوسيع وتعزيز الرؤية الواقعية والعملية والمبدئية في الموقف من حق تقرير المصير للشعوب.
ولا بد هنا من الإشارة والإشادة بما قدمته جامعة كوية برئيسها واساتذتها وطلبتها والعاملين فيها، إذ كانت نموذجاً طيبا في احتضان مثل هذه الندوات والسعي لتوفير المستلزمات وحرصاً على انجاحها، فشكراً جزيلاً لهم ولدورهم في هذا الصدد.