* البدايات السليمة تبني وطنا سلي
* كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته .
* القصيدة صراع حقيقي بين الأخلاق والماديات .
بقلم الأديب المغربي .. الصديق الايسري
ماذا تبيع يا ولدي ..؟ يستهل الشاعر بعنوان القصيدة وهو جملة استفهامية عميقة الأثر ولها أبعاد إنسانية ، هنا طرح الشاعر سؤالا وجيها يبحث له عن جواب و تفسير لسر أربك مخيلته ووضعه في حيرة ، تائها ضائعا بين ألف جواب وحل، سؤال وجه بالخصوص للولد وهنا بالضبط بيت القصيد فاختياره كان مقصودا لا عشوائيا أو فوضويا ، مما لا يخفى علينا أن الشاعر ابن بيئته مكسو بغطاء الإنسانية فقد تم تعيين الولد لسببين الأول هو من جنس الذكر و ليس الأنثى لأن المجتمع الذي تقع فيه الأحداث هو مجتمع محافظ فالذكر هو المسؤول عن معظم الوقائع فربما الشاعر يذكرنا بالمساواة بين الجنسين حيث أن المقابل الذي يجمع الجنسين هو الطفل وهو لم يستعمله الشاعر رغم أنه يملك درجة علمية و لغوية كبيرة و يتقن جيدا مفاهيم حقوق الإنسان ، والسبب الثاني هو المرحلة العمرية فكما يعرف في المواثيق الدولية فالطفل هو كل شخص لم يتجاوز سنه الثامنة عشرة فلهذا اختاره الشاعر لكي يذكرنا بحقوق الطفل التي ضاعت ونسيت وأهملت وأصبحت الحقوق مجرد حبر على الورق خاصة في زمن الحروب والكوارث والأزمات حيث يتاجر بالأطفال ويباعون في أسواق العالم ،وهنا المهمة التي يقوم بها هي البيع التي تدخل في نطاق اقتصادي بالعمل والشغل ويظهر سؤال عن السن القانونية للشغل فكيف يعقل لولد لم يتجاوز سن العمل أن يعرض بضاعته في الشارع العام وهو سيكون عرضة لعدة مشاكل تربوية و خلقية وهو الذي لم يفقه بعد أي شيء عن القوانين و المعاملات التجارية والشاعر يلمس جوهر المشكلة حينما يصور الطفل في مكان غير مكانه الحقيقي .
يعد الأديب والشاعر عصمت شاهين دوسكي من الأدباء المرموقين الذي تحمل قصائده أسئلة وتفسيرات ذات حمولة إنسانية فهو يملك الحدس وقوة البديهة في جعل المتلقي يستسيغ بوادر الشاعر من أجل الرقي بالإنسانية وتقدم المجتمع على أسس متينة يسودها المساواة والعدالة الاجتماعية فربما هذه القصيدة ستكون جرس رنان مؤثر في عالم النسيان الذي سيوقظ الضمائر الحية والعقول النيرة لبناء مجتمع تقدمي بعيدا عن الظلم والظلام .
استهل الشاعر قصيدته بماذا يبيع الولد ..؟ وكل شيء قد تم بيعه في سوق الظلم والاستبداد باعوا الجبابرة معظم الأشياء باعوا الأخلاق باعوا ضمائرهم باعوا الإنسانية ، وحده هذا الولد وجه البراءة الذي يحمل في كيانه قلبا طاهراخلوقا ، نقيا ، نبيلا لا يعرف للخداع والغش والنفاق طريقا لنفسه فهو مازال صفحة بيضاء لم تدنس بعد بالشر والبهتان والكذب والفساد والأنانية والطمع والجشع ، هؤلاء الحثالة من الناس التهموا الأخضر واليابس فلا يملكون لا أخلاق ولا قيم يعيشون بدون مبادئ وقد أعماهم الطمع والجشع حتى العشق باعوه بلا ماعون فالكراهية هي عملتهم والاحتقار هي تجارتهم والظلم هي أحكامهم.
(( ماذا تبيع يا ولدي …؟
الجبابرة باعوا كل شيء
حتى العشق باعوه بلا ماعون)) .
في زاوية الدار جلس الولد يبيع سلعته فهو لا يملك القدرة على البيع بعيدا عن أحضان والديه فالمجتمع و الشارع بالنسبة لعمره هو غابة مفترسة فما زال قلب الولد يحمل بين جدرانه جينات الفطرة من الحنان والمحبة وكل غريبيدنو اليه تزداد نبضات القلب وسرعة دقاته خوفا من المجهول فهو يسوده دوما الحيطة والحذر لشدة الخوف والهلع من أي شخص يكون بعيدا عن محيط الدار، ترك الولد والديه في المنزل يتخبطون في الفقر المدقع والحاجة الكبيرة لشخص ” الولد ” يسد رمق جوعهم فلذا ضحى الولد بطفولته وسعادته ليحمل الابتسامة للأهل والأحباب فامتهن البيع ربما يسترد دراهم معدودة ليشتري كل ما تشتهيه نفسه لإطعام أهل الدار ويزيل عنهم آفة و جنون الفقروالحاجة التي يجب أن يوفرها المعنيون بالعدالة الاجتماعية ” فكلكم راعي وكلكم مسؤول عن رعيته ” .
(( ماذا تبيع يا ولدي
في زاوية الدار …؟
فالفقر يجري فينا كمس مجنون
ماذا تبيع يا ولدي
في ( صينية ) الزاد …؟
ألم يبقى طعام في البيت ليأكلون ..؟ )) .
الكل في البلاد قد تم بيعه الأخلاق والقيم و المبادئ اندثرت من المجتمع حتى الضمير الذي يعتبر الملكية الشخصية لكل واحد قد تم التنازل عنه في سوق الجشع و الطمع ، تضمحل الضمائر والطهارة دنست بفعل هذا العالم المادي الذي يعيش في عقول البشر ويلتهم كل ما هو جميل ونبيل في نفوس الناس .
(( ماذا تبيع يا ولدي
لم يبقى شيء في البلاد لم يباع
حتى الضمير المكنون …؟ )) .
الشاعر عصمت شاهين دوسكي لا يترك أي حركة إلا وتطرق إليها فصورة الولد التي تجسدت في مخيلته تركت أثرا عميقا في نفسيته وهو المعروف عنه أنه يملك قلبا مرهفا و نفسية غنية بالإنسانية فملاحظته عن رؤية كيفية نوم الولد جعلت أحاسيسه الجياشة و المنادية أبدا بحقوق الإنسان فكيف يعقل لولد بريء أن ينام على جدران داره كأنما يسترق السمع ويتنصت لمعانات أفراد أسرته من الشقاء والأمراض النفسية و العضوية ،نائما رغم عنه من شدة التعب وعدم التحمل والأجواء الغير الملائمة يحلم بمستقبل زاهر خال من المشاكل والمتاعب ،يحلم بغد أفضل ينسيه جبروت الجبابرة الطواغيت المتربعين على عرش نعيم الوطن ، نائمون على أرائك الجشع غير مبالين بالفقراء والمقهورين والمحرومين ،هنا أبى الشاعر إلى أن يثير انتباه الأغنياء و المسؤولين عن الصورة النموذجية التي تقع وراء الجدران للكادحين و المعوزين بعد أن أدوا رسالتهم العملية بإخلاص فهو في الغالب يسقط تعبانا منهكا غلبه الضجر و النوم من أجل أن ينعم العظماء لوحدهم ناسين أو متجاهلين لحقوق الطبقة الشغيلة التي تخدم الوطن بتفاني و حب ووفاء وإخلاص.
(( ابشر خيرا يا ولدي ..!!
عظماؤنا على العرش ، نائمون
وأنت يا ولدي تضع رأسك على الجدار
تعلم الفقراء من شدة الظلم كيف ينامون )) .
هنا الشاعر أبى إلا أن يستعمل المتناقضات ليعلن لنا أن الولد الذي ينتمي إلى عالم الفقر والعوز لا يهتم بالأوضاع والوقائع فكل الأشياء متشابهة عنده مثل الليل والنهار مثل الكساء والعراء مثل الجوع والأكل مثل العطش والارتواءفما البشارة والفرح بسقوط البيت فكيف يعقل الفرح بقرب سقوط المسكن ربما الشاعر يقول لنا أن العيش في الأكواخ أهون من العيش في القصور ،ولبس بقايا الملابس أرحم من الاكتساء بأخر صيحات الموضة حيث يحتار العقل في الاختيار ، فهنا الشاعر يود أن يضعنا في الأمر الواقع بأن الحياة البدائية العفوية تسودها الطمأنينة والسعادة بفضل ” الأخلاق ” أفضل بكثير من الحياة الحالية حيث يطغى عليها ” الماديات ” من الجشع والطمع وحب الذات الغير طبيعي وهو صراع حقيقي بين الأخلاق والماديات .فكل مسارات الفقراء تتسم بكثرة الحواجز وكثافة الحفر وشدة الأسلاك فحياة الفقراء مليئة بالمشاكل والمعيقات بينما شوارع الأغنياء هي جنان ونعيم ورفاهيةوهذا لا يعني كره وحقد على الغني لا ولكن وجود العدل الاجتماعي يضع كل شيء في مكانه الحقيقي .
(( ابشر خيرا يا ولدي ..!!
بيتك آيل للسقوط
والملوك في صروحهم بالجنان ، يتنزهون
ابشر خيرا يا ولدي ..!!
تلبس بقايا الناس
وهم في حيرة مما يلبسون
شوارعك أرصفتك يا ولدي
بالحواجز والأسلاك مزينة
وشوارعهم كالمرمر عليها يمشون )) .
الشاعر يملك فكرا وقلبا وإحساسا مرهفا ، أحس بمعانات الولد فقال له أن يكف عن البكاء والنحيب رغم أنه لم يبع أي شيء فالفقراء سيدخلون الجنة بما عملوا من خير للوطن والإنسانية فهم أناس مكافحين مجاهدين يقتاتون من عرق جبينهم يملكون أخلاقا حميدة بعيدا عن الطمع والجشع حاملين لهموم الإنسانية السمحاء ويعتبرون أول المضحين وأخر المستفيدين إن كانت هناك إفادة ،أما هؤلاء المستبدين والجبابرة فمصيرهم مجهول وكيفية عذابهم من الأشياء الخفية لا يعلم بها سوى رب العالمين.
(( لا تبك يا ولدي إن لم تبع شيئا
الفقراء يدخلون الجنة
وهم …. !! لا ادري أين يدخلون
تحمل هموم الحياة يا ولدي )) .
الولد كالورد اليانع في مقتبل العمر يبيع ما رزق به ليحيى و يرسم الابتسامة في ثغور أناس أحبهم أما هؤلاء الجبابرة يحملون نارا في أيديهم يحرقون الجمال و يكوون الحياة بلهيب الجشع و الطمع فقد باعوا الأخلاق والضمائر والوطن والإنسان ، يتساءل الشاعر هل هناك بقايا للبيع لم يستطع إدراكه بعقله الطاهر، فالحيرة والسؤال أذهب مضجعه فكيف نبني الوطن والكل يقتات من التسول فلا المدارس قامت بمهمتها ولا المثقفين و الكتاب طرحوا وناقشوامعضلة الوطن الذي يموت و يفنى تحت براثين حثالة من الناس من جبابرة ومستبدين و ظلمة و سفلة ، وغياب العدالة التي تترك فوضى في المجتمع، هذا جرح عميق من يداويه ..؟ من ينقذ الإنسانية ..؟ من ينقذ الولد ..؟ من يبني الوطن ..؟ فالألم والوجع انساب للأعماق فهل من منقذ يرجع الابتسامة والإنسانية.
(( وأنت كالورد اليانع
آه وآه مما سيحملون
ماذا تبيع يا ولدي لتحيى
وهم أحياء ماذا يبيعون ..؟
أين مدرستك يا ولدي
أين دفاترك وكتبك وشهادتك
أين أقلامك مما يكتبون ..؟
الوطن ينتظر من يبنيه
كيف نبني الوطن وكلنا متسولون ..؟
الجرح عميق يا ولدي )) .
الشاعر عصمت شاهين دوسكي ختم قصيدته بأية من الذكر الحكيم 《 وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون》فكل مخالفة يقع فيها العبد ،وكل انحراف منه عن منهج الله تعالى فإنما ضرر ذلك عليه هو. وكل إنسان له من الشقاء وضنك العيش والبؤس بقدر انحرافه عن منهج الله، وبقدر مخالفته لأمر الله تعالى.
ثم ذكر الشاعر كلمة ” الماعون ” فسورة الماعون من سور القرآن الكريم تحمل مضامين عديدة وهي رسالة للجاحدين هؤلاء الذين يكذبون باليوم الآخر بأنهم لا يُؤتون اليتامى حقوقهم ولا يفعلون الخير لهم ويزجرونهم، كما يبخلون بإطعام الطعام، كما يمنعون الزكاة.
فلابد للإيمان أن يستقر في القلب، وإذا تحرك الإيمان يدفع الإنسان للقيام بالعمل الصالح وبذلك يمتلئ الماعون من جديد.
((《وما ظلمناهم ولكن
كانوا أنفسهم يظلمون》
ماذا تبيع يا ولدي
إن لم يمتلأ
في النهاية أي ماعون ..؟ )) .
الشاعر عصمت شاهين دوسكي يضعنا جميعا أمام الإنسانية المعذبة التي ربما نكاد ننساها ونحن في ظل مشاغل وتناقضات الحياة وضغوطاتها المستمرة ،وهي رسالة مفتوحة أمام المعنيين أمام العدل والتربية والرعاية الاجتماعية فالبلد لا يبنى إلا بوجود الإنسان ويجب مراعاة حالة الإنسان من بداية طفولته ،وليست حقوق الطفل والإنسان مجرد شعارات نتباهى بها في المحافل والمناسبات ، فالبدايات السليمة للإنسان تبني وطنا سليما .