كلّ حياته مشاكل. وكلٌ يحوطه غصص وأوجاع. وكلٌ أمانيه بعيدة. وإن كان يعتقد اَنَ اَهمَ مشاكله واحدة. ومذ تمكن من حلها ذهب عنه نصف ما يعانيه، من السأم والجزع. وأنفسح أمامه مجال التأمل بعقد حياته الأخرى. لكنه مع ذلك إذا تكتلت عليه أوجاع حياته، وتراكمت عليه المشاكل أصبح لا تستهويه المناظر الجميلة، ولا تبهجه المسليات.
وفي ساعة متأخرة من أحد الأيام –نهاراً- ضاق صدره، وعاودته وساوسه. فثار ثائره، ونهض إلى مكتبه، وجلس هناك مفكراً، محاولاً أن يتغلب على الهياج النفسي، بتحليل البواعث. ونظر وتأمل بجميع ما حوله. وعرض أمام نفسه جميع ماجريات يومه، وأسبوعه. فلم يُجدِه كل ذلك نفعاً. فخلق موضوع شغب بينه وبين نفسه. علّه يجد متنفساً من غيظه، واحتج عليها بحجة واهية، وتقصير طفيف، ومع أنها سايرته حدتهُ، وتلطفت وترجت أن تهدأ ثورته، التي تجهل بالطبع هي أسبابها فلم تفلح. وظل مستمراً يكيل لها اللعنات، وينثر عليها الشتائم. ثم عمد إلى جرّة الماء فحطمها، وأتبعها ثانيةً وثالثةً.
كان كل هذا كيلا تمتد يده إلى زوجه بضربة. فهو يدرك أن لا ذنب لها ولا دخل فيما أثاره، وحبس طبعه.
أسرع إلى ملابسه فارتداها، ووجّه وجهه شطر النادي، حيث يجتمع الموظفون. وحيث أعتاد هو أن يقضي أمسياته حتى الساعة العاشرة. هناك أنقطع وحده في زاوية من إحدى ساحتي الحديقة. وعلى الرغم من أنه كان يرغب أن لا يجالس أحداً، فإن هذا ليس بمقدوره. وحالاً تجمع حوله أصدقاؤه الذين أعتاد الجلوس معهم كل يوم. إنهم من الذين يحسنون المجاملات، وهي البلسم الوحيد لديهم في مداواة السأم. واستسلم للسكوت والإصغاء لما يتحدث به الجلاس. وقد تجمعوا حلقات، مثنى وثلاث ورباع، وأكثر من ذلك، على القاع الخضراء، حيث يرسل القمر أشعته من بين أغصان شجر الكالبتوس. ولا يخرج لهو الجميع، عن أحد نوعين النرد والحديث! أما اللاهون بالنرد، فلا تحسبهم إلا خالين من المشاكل، سالمين من كل ما يحتاج إلى تفكير، فتراهم عكوفاً على طاولة اللعب، كما يعكف مخترع كيمياوي على اكتشاف ما يظهر من مستحضراته! ترتفع بين آونة وأخرى لهم أصوات متضاربة ونزاع حول نتيجة اللعبة، ولا يذكرون شيئاً سواها إلا عندما يمر بائع أبيض وبيض[1]!
أما الذين يتلذذون بالحديث، ويقضون ساعاتهم فيه، فهم لو رجعوا يحاسبون أنفسهم، لوجدوا أنهم أضاعوا الوقت وبَذّروا فيه. وان تكن أحاديثهم –في الغالب- لا تنطوي على مغزى ولا تنتج فائدة. هناك ذوو الأحاديث الهزلية، والمعروفة عندهم بـ -القايش[2]– أما إذا وجدوا بينهم ضعيفاً، أو سخيفاً، أجلبوا[3] عليه من كل ناحية.
وهناك الذين يكدسون وقتهم لتحليل الشخصيات التي تخطر على أذهانهم أثناء الحديث، فقد يجمعون على نقدها بكل سوء ونقص. أو ذمها بكل شين ومين. وقد ينقسمون إلى مدافعين ومهاجمين وإلى وسط بين بين. وقد يرون تقديسها وإجلالها، فيَسِمونها[4]بكل حسن ليس فيها، وسموّ هو غريب عنها.
في هذا الوسط وجد صاحبنا السكون مرضياً، والإصغاء لذةً وجمالا. ورأى أنه قد يعثر على الدر في بطون الأسماك. إذن ليصغي لأحاديث الجالسين لعل فيها ما يروق، ولعله يستطيع أن يصرف نفسه إلى الانشغال بكتابة موضوع، يوحيه له منظر الجالسين، وأساليب نزهتهم وتسليتهم. ولفت نظره شاب يشتغل في دائرة (……) يتأثر وينفعل من صاحب مقهى بجانب النادي. وبكل حرقة وغيظ يلعنه، لأنه حسب معتقده عديم الذوق باستعمال بعض الأسطوانات للأغاني الريفية العراقية. فساء هذا الرأي جماعة آخرين يميلون إلى هذا النوع من الغناء. فهو في نظرهم أقرب إلى تصوير العواطف المتألمة الشاكية. وأبعد عن الغلو والخيال. وهو إلى ذلك نزيه غير مشوب بغايات سافلة. انه عبارة عن نفثان أولئك البائسين من الريف، تنفس عنهم ما يحوطهم من البؤس والشقاء في حبهم وفي عيشهم، وفي أتعابهم، في عملهم ونوع حريتهم.
وقال آخرون: الفن يعوزهم. وأنكر بعض هذا الإدعاء، قائلاً: الفن مصطلح. يجب أن يلمس جراح السامع، وأن يمثل عواطفه، باللحن والمعاني، ويجب أن نقتصر في قيمة الغناء على ذوق السامع. والأذواق محترمة لا يحكم عليها في مثل هذا الغناء. وطال الجدل. حتى ملّ صاحبنا، وتحول يصغي إلى حديث آخرين. أخذوا يتداولون بين الجد والهزل -نظام الفتوة[5]– فمن محبذ له مرتاح، ومن ناقم يرى ذلك ضغطاً وقيداً.
قال أحدهم، وقد سند رأسه إلى يديه المتشابكتين خلف كرسي الاستراحة، نظام الفتوة يبعث في النفس القوة على العمل ويشعر الإنسان تماماً بمركزه ولياقته.
وأنا اعرف في أمثال هذا القائل من لا يحترم لأحد كرامته، ليستغل السلطة التي بيده لتحقير غيره، والضغط عليه مع انه لا يتهاون بواجبه فهل سيقوّم نظام –الفتوة- عِوَجه؟ ويخلص في نفسه الشرف والالتزام، ونزعة الخير. ويعلمه الواجب تجاه الإنسانية. أم ان سيمنحه سلطة أوسع لسلب حرية الآخرين؟
وقال آخر: حسن ذلك لو ان نظام الفتوة لا يتفق ومهنة التعليم وعلى الأقل، يجب أن لا يكلف –المعلم- ارتداء الملبس الخاص إلا حين التدريب. لأن تشبع نفس المعلم بالنظريات التربوية تجعله بعيداً عل الأساليب في الحياة العسكرية وقيودها…
وقال ثالث -ويبدو انه من المفلسين- الذين قيل فيهم اِن راتب الموظف كحلم الأعزب لا يصبح منه إلا على قذارة الثوب ونجاسة البدن! قال هذا المفلس هل يستطيع راتبه بعد التصفية، او قل، ان يقوم بواجب إعاشة عائلته وتدبير أمور البيت، والقيام بكلفة نوعين من اللباس، مدني وعسكري؟!
وانتفض رابع، فقال: انا لا أهتم إلا بشي واحد، كيف أستطيع القيام بالتدريب العسكري والتدريس مع دوامين –صباحاً وبعد الظهر- مع الاستعداد للامتحان المفروض على مثلي من وكلاء المعلمين.
فاشترك في الموضوع فضولي اجنبي عن المهنة قائلاً: في الواقع أن وضع المعارف مضحك في تناقضه وتضاربه. وان قضية فرض مثل هذا الامتحان على ناس عُينوا على فرع خاص لمن الظلم الفاحش!
فأثابه -المشمولون- باستحسان كلامه، وإعجابهم برأيه. ومن أحس بهذا منهم، أستعد لإلقاء محاضرة عن وزارة المعارف! فوكزه رفيق له. مشيراً لحضور فتى، يقال أنه يتقرب للشخصيات بما يسمع والله يعلم إن كان ينقل بلطف أو بخبث؟ سكت الحاضرون والمحاضر وحول حديثه إلى هزل، وبحذق وبلباقة –لفّ القايش- على القادم الجديد. وقطع حديثهم قادم آخر. وبعد السلام والترحيب، سألهم: لماذا جلستم اليوم في هذه الساحة مع أن الثانية أطيب وأجمل!
فرد عليه أحدهم متهكماً: لا نحب نشارك الأرستقراطيين مكانهم فنكدر صفوهم وسرورهم!
وقال الثاني: أما أنا فلأني وجدت الآخرين هنا، ولست أشعر بما يريبني من أولئك، أو لا يهمني شأنهم، فالنادي للجميع! وتصادمت الأجوبة والآراء من كل الحاضرين. وهكذا وجدوا ما يقتلون به الوقت.
لقد قارب الوقت العاشرة بعد الغروب، عاد صاحبنا إلى نفسه يسألها عما إذا كانت وحدها ذات مشاكل، إن مشكلته لا شبيه لها؟ وأجاب، أن لكل إنسان مشكلة، قد يراها أعقد من حل الطلسم، فمالي إذن يضيق بي هذا الرحب؟ وهؤلاء اللاهون… أليست لهم مشاكل؟ أفَهُمُ أقدر مني على الجهاد في الحياة؟ كلا …
فلابد أن اكون بعد اليوم مرحاً لا اَهَم ولا أسأم، ولكن سوف لن أضيع الوقت بمثل هذا اللهو العقيم!
المربي الراحل
علي محمد الشبيبي
1913 – 1917
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*- نشرت في جريدة الهاتف العدد 181 صفحة 11 سنة 1939.
1- هي بيض مسلوق مع قطع صغيرة من الطماطة وملح في صمونة أو رغيف خبز.
2- القايش: اصطلاح عامي. أي هزل يدور على واحد منهم للتسلية أو لغرض بينهم.
3- أجلبوا عليه: اجتمعوا وتألبوا عليه. / الناشر محمد علي الشبيبي
4- يسَمونها، من الوسم أي العلامة.
5- نظام الفتوة أبتدعه مدير المعارف العام سامي شوكت في العهد الملكي عام 1940 – 1941 شمل المعلمين والمدرسين بموجبه تدريب عسكري وواجب عليهم ارتداء بزة عسكرية وضع فيها أعلام على أكمام الردن وعلى الكتف وجعل شعاره -اخشنوا فأن الترف يزيل النعم- بينما يذكر عنه آخرون أن سرواله من حرير، كما بادر فوضع –الشبكة ذات العاقول- والتي يقطر عليها الماء، ثم المروحة لتبريد الغرفة أثناء الوظيفة فماذا يفعل في بيته؟ وفي خطبة له أفتتحها بقوله: أخشوشنوا فأن الترف يزيل النعم! وكلمة له خاصة: تعلموا صناعة الموت!؟ فرد عليه الأستاذ عبد الله الحاج –لا يحسن صناعة الموت إلا الطبيب الجاهل- مشيراً بهذه الكلمة إلى كونه طبيباً لكنه ترك مهنة الطب وصار مدير معارف؟!