الخميس, نوفمبر 28, 2024
Homeمقالاتكاظم حبيب : نظرات في كتاب "مقالة في السفالة" للدكتور فالح مهدي...

كاظم حبيب : نظرات في كتاب “مقالة في السفالة” للدكتور فالح مهدي : الحلقة الثانية

معنى السفالة ومن هم السفلة  

المقدمة

الرجل الذي يحرم رجلاً آخر من حريته

هو سجين الكراهية والتحيز وضيق الأفق.
نيلسون مانديلا (1918-2013م)

يبدو عنوان كتاب الدكتور فالح مهدي، للوهلة الأولى، غريباً لمن لا يعرف العراق وما جرى ويجري فيه منذ عقود، وخاصة في الفترة التي أعقبت إسقاط الدكتاتورية البعثية الغاشمة والدكتاتور الأهوج صدام حسين ورهطه. ولكن يكفي أن يتصفح الإنسان أخبار العراق خلال السنوات الواقعة بين 2003-2019،دع عنك الفترات السابقة المليئة بالسفالة والسفلة، ليدرك مدى صواب ودقة هذا العنوان لهذا الكتاب الذي يبحث في “السفالة” السائدة في الدولة العراقية، وفي أبشع وأخس وأنذل ممارساتها وصور ظهورها في المجتمع. فالباحث الدكتور فالح مهدي يقدم في كتابه الموسوم “مقالة في السفالة: نقد حاضر العراق” مادة جديدة متنوعة وغنية وعميقة لمفهوم السفالة ومضامين هذا المصطلح وابعاده وما يقترن به وما تنشأ عنه من عواقب، ومنها مظالم مريعة، على الفرد والمجتمع في العراق. وهو في هذا التقصي والبحث ينتهج أسلوباً علميا لا يبتعد عن أسلوبه ونهجه المادي في دراسة الأديان والعقل الدائري، كما يستخدم لهذا الغرض مفردات اللغة العربية الغنية للتعبير عن هذا المصطلح، الذي يرد بلغات كثيرة، ولكنه يعبر عن مضمون واحد عملياً. فالسفالة مصطلح يجسد الانحطاط والخسة والنذالة والظلم في التعامل الفردي أو الجمعي في هذه الدولة أو تلك، وفي هذا المجتمع أو ذاك، وبتعبير أكثر ملموسية، على مستوى الدولة بسلطاتها الثلاث ومؤسساتها وحكامها.

والسفالة تتجلى في الكلمة الخشنة أو الشتيمة الجارحة، وفي الصفعة، أو الابتزاز، أو الاعتقال الكيفي، أو التعذيب بمختلف صوره، إنها العنف في جانب مهم وأساسي منه. والسفالة، كلما يمعن الإنسان في مضامينها، تتجلى له في تجاوزها الفظ على كرامة الإنسان، أو على كرامة جماعة بشرية، أو على كرامة شعب بأكمله، وبمختلف السبل والوسائل والأدوات. والسفالة بكل معانيها تعتبر تجاوزاً مباشراً على حقوق الإنسان المحرمةدولياً والممارسة بأسوأ صورها في العالم النامي، ولاسيما في الشرق الأوسط، ويعتبر العراق نموذجاً صارخاً لها. والسفالة في جانب منها تعبر عن ضعف وهزال ممارسها وعدم ثقته بنفسه، وخشيته، ومعاناته، وربما في جانب آخر منها من عقد نفسية،يجد تنفيساً لها فيما يقوم به ويمارسه من سفالات.

وضع الزميل فالح مهدي القراء والقارئات أمام معنى السفالة في لغات أخرى، إلى جانب اللغة العربية، بهدف تحديد مفهومهاومضمونها. فالسفالة في العربية هي النَّذَالَةُ، والخَسَاسَةُ، والحَقَارَة، والسَّفَاهَةُ، على وفق ما جاء في معجم المعاني الجامع. وهي التفاهة أيضاً، كما يشخصها الدكتور فالح مهدي لها بصواب ويعريها دون رحمة. ويجد الباحث إن كلمة Crapule باللغة الفرنسية هي التعبير الأدق عن السفالة والتي تعني: الوغد والسافل والمنحط وعديم الشرف، وكذلك المخادع أو الغشَّاش. ولا تبتعد الكلمة باللغة الإنكليزية Crook عن المضمون ذاته، إذ تعني عديم الشرف أو الرجل غير الشريف والبعيد عن الاستقامة. (فالح مهدي، الكتاب، ص 12). وإذا استعنا باللغة الألمانية فسنجد إن كلمةHalunke أو Gaunerتعنيان النذل والسافل والوغد والمحتال والمخادع، وبالتالي فهو شخص عديم الشرف.

والسُفاَلة اسم، ومصدرها سُفَل، وفعلها سُفِل، وفاعلها سافل، على وفق معجم المعاني والقاموس المحيط. والعراق قد ابتلى، ومازال، بكمٍ هائل من الحكام وحواشيهم وأتباعهم السفلة المنفذين لأوامر أسيادهم وإجراءاتهم السُفلية المنافية لكرامة وحقوق الإنسان. والسُفالة تعبير جامع وشامل لما يمارسه السافل فرداً أو جماعة أو حكومة أو دولة بكاملها، إنه التافه والرث والحقير والمخادع في الفكر والممارسة.

يضع الكاتب القراء والقارئات أمام العنف باعتباره تجسيداً في أبرز جوانبه للسفالة والدونية. والسافل ينطلق من ألـ “أناليدين ألـ “”آخر، إنها الصورة النمطية (Stereotyp) لدى العنصريين والفاشيين والطائفيين وبقية الممارسين لشتى صيغ التمييز وبكل أشكال ظهوره، بما في ذلك وخاصة التمييز ضد المرأة.

والكتاب يطرح في الوقت ذاته صوراً وأحداثاً يعتبرها أعمالاً سافلة أو أشخاصاً سفلة. ولكنه يتحفظ هنا وعن صواب حين يبتعد عن التعميم ليشير بوضوح إلى استدراكه التالي: ” ليس كل من ورد من أسماء في هذا الكتاب، سفلة ومنحطين، ذلك أنهم ساهموا في انحطاط هذا البلد دون ان يكونوا سفلة.” (الكتاب، ص 12). وسأعود إلى مناقشة هذه النقطة الحساسة في إحدى الحلقات القادمة. وفي هذا الكتاب يطرح الكاتب الأسباب التي دعته إلى اختيار العراق، مرتع طفولته ومرابع صباه، وربما مكان حبه الأول، على النحو التالي:

لقد اخترت العراق موضوعاً لهذه الدراسة لأسباب منها، أن فهم المرض العراقي، يمنحني الفرصة أن أفهم جذور ذلك المرض في بلد طفولتي وشبابي. ومن ثم أن فهم العراق سيسمح، إن صحت الافتراضات التي سآتي بها، لفهم أو المساهمة لفهم واقع الإنسان في هذه المنطقة من العالم”. (الكتاب، ص 13). ثم يقول في مكان آخر: في هذا البحث سنركز على العراق كنموذج، مستعيناً في ذلك بمنهج المقارنة والمقاربة، الذي سيسمح لنا لفهم العنف كنشاط حيواني فاعل في السلوك الإنساني، شروط قيامه، التربة التي تحتضنه، الأيديولوجية التي تولع النيران فيه لكي يتقد ويأتي على كل ما في الحياة من قيم ومبادئ.” (الكتاب، ص 14). أي إن الكاتب ينطلق من حالة خاصة، هي العراق، لكي يبدأ بمقارنتها ومقاربتها وتدقيقها مع مناطق أخرى ليصل بها إلى التجريد، أو أطروحة التشخيص النظري للمرض أو العلة الاجتماعية التي تعاني منها شعوب كثيرة في عالمنا المعاصر. ولهذا يقول: إن “السفالة والهوان لا تتعلق بمجتمع دون آخر، فحتى في المجتمعات الديمقراطية نجد من هو صغير ورخيص وإلا كيف يمكننا أن نفهم خضوع الغالبية العظمى من الألمان لذلك المهرج هتلر؟”. (الكتاب، ص 13/14).

يواجه المجتمع الدولي في عراق اليوم مجموعة هائلة من السياسيين المؤدلجين وكذلك المنظمات السياسية وشبه العسكرية المؤدلجة، الذين نالهم جميعاً مرض السفالة بعمق لا مثيل له، فدفعوا بالعراق إلى مستنقع السُفالة حيث يفعل السفلةوالأنذال افعالهم دون رقيب أو حسيب، وحيث يعاني المجتمع منظلمهم وسفالاتهم بكل خسة ودناءة. لم يكن صدام حسين وحده سافلاً فحسب، بل الكثير والكثير من قادة وكوادر وأعضاء حزبه وحاشيته أيضاً. كما ليس شخصاً واحداً من المجموعة الحاكمة في المرحلة الراهنة يتميز بالسفالة، وما تجسده هذه الكلمة من معانٍ فحسب، بل إن الغالبية العظمى من النخبة الحاكمة حقاًسقطت في مستنقع السفالة والخسة والنذالة، ولن تخرج منه، بل لا بد من ردم هذا المستنقع بمن فيه من السفلة، وإنقاذ العراق منهم لصالح مستقبل أفضل للحاضر وللأجيال القادمة.

في عام 1995 صدر لي كتاب في بيروت تحت عنوان “ساعة الحقيقة: مستقبل العراق بين النظام والمعارضة”، قلت فيه بأن الكثير من شخصيات وقوى المعارضة العراقية لا تختلف من حيث الواقع عن طبيعة ونهج وسلوك الدكتاتور صدام حسين، بل وستمارس سياسة مماثلة أو أسوأ إن وصلت إلى السلطة. ومن المؤسف أن تحققت هذه النبوءة المحزنة”!

يؤكد الباحث أن “كتابه لا ينزع إلى سرد تاريخ العراق المعاصر، فقد كُتب الكثير عن ذلك، ولا تشريح الدمار الذي خلفته الإمبراطورية العثمانية في الجسد العراقي، بل جسد كل من وقع تحت طائلة ذلك الاحتلال اللئيم، بل محاولة تنظيرية لفهم سلوك الدونية والسفالة التي تحكمت في مسيرة هذه الشعوب والجماعات”. ولكي يبعد الباحث التفكير بأن بحثه يشمل البؤساء من الناس، كتب مباشرة ما يلي: “السفالة هنا لا يقصد بها سلوك الإنسان البائس الذي يقوم في لحظة عصبية انتظرها طويلاً بالاستيلاء على أملاك الدولة بغرض نهبها أو تدميرها، ذلك إننا لو ركزنا اهتمامنا على ذلك فسيكون حالنا حال من يُصدم بسارق تفاحة نتيجة جوعه ولا يمارس أضعف الإيمان بإدانة سارق الملايين بينه وبين نفسه.” (راجع: الكتاب، ص13). وهنا أود أن استكمل الفكرة بقولي، إن سراقنا في العراق لم يعودوا يقبلون بنهب الملايين، حيث يعج بهم العراق، بل أنهم أصبحوا من سراق المليارات من الدولارات الأمريكية، إضافة إلى العقارات والآثار العراقية، إنهم جلادو الشعب وخاطفو لقمة عيشه! قال ابن خلدون (1332-1406م) بصواب وحكمة “الظلم مؤذن بخراب العمران.

بعد تقديم معنى كلمة السُفالة والسافل يطرح الزميل في هذا الكتاب الممتع العنف، باعتباره أحد نتاجات السفالة التدميرية،يبحث فيه ويشخص من يمارسه وأشكال ممارسته وعواقب تلك الممارسة. ثم يختار العراق كحقل واسع ومباشر لدراسته، وهو موضوع الحلقة الثالثة.

RELATED ARTICLES

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here

Most Popular