“في كل عام، نسمع عبارات أن هذا العام هو الأسوأ على الإطلاق بالنسبة للعلاقات الأمريكية التركية.. ولكن يبدو أنهم قد يكونون على حق في هذا العام”.. كانت تلك هي العبارات التي أدلى بها أكاديمي تركي بارز للتعبير عن قلقه الشديد تجاه تدهور العلاقات الأمريكية التركية في الفترة الأخيرة.
قد تكون لدى هذا الأكاديمي وجهة نظر، فالعلاقة بين الولايات المتحدة وتركيا، التي تدهورت بشكل كبير في السنوات الأخيرة بسبب مجموعة من الخلافات الاستراتيجية والسياسية، في طريقها لتصبح أسوأ بكثير في الأيام المقبلة.
إذا أخذنا الأمور بعين الاعتبار من منظور تركيا، فقد دفع عاملان رئيسيان إلى توتر علاقاتها القوية مع الولايات المتحدة. الأول هو “المسألة الكردية”.. لقد عارضت تركيا منذ فترة طويلة أي تحرك من جانب أكراد المنطقة نحو الحكم الذاتي، قلقا من العواقب العملية والسياسية التي يمكن أن تترتب على دولة كردية مستقلة على البلاد، وعلى المنطقة ككل. وقد ازدادت هذه المخاوف حدة في السنوات الأخيرة بسبب الدور الرائد الذي لعبته الجماعات الكردية المسلحة في الحرب ضد تنظيم “داعش” الإرهابي، والاعتراف الدولي الذي اكتسبه الأكراد في سوريا نتيجة ذلك الدور.
كانت تركيا معارضة شديدة للسياسة الأمريكية -التي بدأت في عهد إدارة “أوباما”. وعلى وجه الخصوص، عارضت بشدة تقديم الأسلحة لوحدات حماية الشعب في سوريا، انطلاقا من مزاعم بشأن صلاتها الوثيقة بحزب العمال الكردستاني، الذي كان منذ فترة طويلة يعد التهديد الرئيسي للدولة التركية.
في محاولة لإرضاء “أنقرة”، تعهدت إدارة “ترامب” العام الماضي بوقف تقديم الأسلحة إلى وحدات حماية الشعب، وقد وعدت أيضًا باستعادة تلك الأسلحة بمجرد انتهاء الحرب الأهلية السورية، ولكن لم تقدم بعد خطة واضحة للقيام بذلك. وفي الوقت نفسه، قوبلت الوعود الأمريكية بشكوك واسعة النطاق بين الأتراك العاديين، الذين أصبحوا ينظرون إلى سياسات مكافحة الإرهاب الأمريكية على أنها معادية جزئيًا لمصالحهم الوطنية.
تدور المسألة الجدلية الثانية في تركيا حول المواقف الأمريكية تجاه حركة فتح الله غولن، التي يلقي الأتراك اللوم عليها على نطاق واسع بسبب الانقلاب الفاشل في صيف 2016 ضد حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان. في أعقاب محاولة الانقلاب، شن “أردوغان” حملة واسعة على جميع أنحاء البلاد ضد المتعاونين والمتعاطفين مع “غولن”، ونتيجة لذلك تمت إزالة الآلاف من موظفي الدولة من وظائفهم وفصل أكثر من 20 ألف مدرس وأكاديمي.
مع ذلك، لم يكن “أردوغان” راضياً عن تطهير نفوذ أتباع “غولن” من السياسة التركية. منذ ما يقرب من ثلاث سنوات، ضغطت حكومته بنشاط على الولايات المتحدة لتسليم زعيم الحركة المنعزل فتح الله غولن، من إقامته في المنفى في جبال “بوكونوس” بولاية “بنسلفانيا”. حتى الآن، قاومت الحكومة الأمريكية هذا الضغط، وهو الأمر الذي أثار استياءًا كبيرًا ليس فقط بين الموالين للنظام، ولكن الأتراك القوميين أيضًا.
في الوقت نفسه، لدى “واشنطن” الآن شكوك عميقة حول نوايا تركيا الإقليمية. يمكن رؤية ذلك بأوضح صورة في سياق الحرب الأهلية السورية؛ حيث أظهر الانقلاب الجزئي لإدارة “ترامب” في وقت سابق من هذا العام بقرار الرئيس في ديسمبر/كانون الأول 2018 بسحب القوات الأمريكية من سوريا جزئياً، المخاوف من أن الحكومة التركية سوف تستخدم غياب أمريكا لشن حملة واسعة من القمع ضد الأكراد.
وما يثير الانقسام كذلك، قرار تركيا بالحصول على دفاعات جوية روسية متقدمة. لقد تحركت عملية الشراء تلك قُدما في الأشهر الأخيرة على الرغم من احتجاجات “بروكسل” حول عدم توافق نظام S-400 الروسي مع أنظمة الناتو والأجهزة. في “أنقرة”، ينظر الكثيرون إلى الصفقة على أنها تجارية بطبيعتها، وأنها معاملة يحق لتركيا إبرامها. لكن في “واشنطن”، على النقيض من ذلك، يُنظر إلى قرار “أنقرة” على أنه اختبار جوهري لنوع التزامها الأكبر تجاه الغرب. ولتحقيق هذه الغاية، طرح المشرعون في “الكونغرس” تشريعات تحرم تركيا من القدرة على شراء طائرة مقاتلة من طراز F-35 المتقدمة، وهي منصة تطمع إليها، إذا حصلت بالفعل على صواريخ إس400.
ومع ذلك، فبالرغم من أهميتها، فإن كل هذه المشكلات هي ببساطة أعراض انحراف استراتيجي أكثر جوهرية. في خلال العقود الأربعة التي استغرقتها الحرب الباردة، كانت الولايات المتحدة وتركيا مرتبطتان ببعضهما البعض برؤية مشتركة تدعم تحالف الناتو: مواجهة واحتواء وردع الاتحاد السوفيتي وأقماره الصناعية المتنوعة. ومع ذلك، في حقبة ما بعد الحرب الباردة، اختفى هذا المبدأ الموحد، وبدون وجود بديل مناسب، أصبحت العلاقات التركية الأمريكية محددة من خلال وجهات نظر عالمية متباينة وانعدام ثقة واسع النطاق. ومن غير المرجح أن تتغير هذه الحالة في أي وقت قريب.
لا يبدو أن المسؤولين الأمريكيين أو الأتراك لديهم أي فكرة عن كيفية إعادة العلاقات الثنائية إلى مسارها في غياب تغيير أساسي في الاتجاه السياسي في أحد البلدين أو كلاهما. نتيجة لذلك، يبدو أن “واشنطن” و”أنقرة”، رغم أنهما لا تزالان ملتزمتين رسميًا كشريكين في المعاهدة، مصممتان على مواصلة الانجراف أكثر فأكثر.
—-
*إيلان بيرمان: نائب رئيس مجلس السياسة الخارجية الأمريكية في “واشنطن”. خبير في الأمن الإقليمي في الشرق الأوسط، وقد قدم استشاراته لوكالة الاستخبارات المركزية ووزارة الدفاع، وقدم المساعدة في قضايا السياسة الخارجية والأمن القومي لمجموعة من الوكالات الحكومية ومكاتب الكونغرس
العلاقات التركية الأمريكية مستقرّة وأكثر ثُباتاً من أي وقت ولن يأتي الزمن الذي تتخلى أمريكا عنها والخلافات بين الأشخاص لا تعني شيئاً