انهار تنظيم “داعش” في العراق وسوريا، بعد نحو خمس سنوات من ظهوره العلني، فخلال اربع سنوات من الحرب التي ساهم فيها تحالف دولي تم تدمير قوة التنظيم البنيوية والعسكرية وقتل واعتقال آلاف من مقاتليه المتشددين المحليين والأجانب القادمين من مختلف دول العالم، ليتم في آذار2019 في منطقة الباغوز بشرقي سوريا اعلان نهاية “دولة خلافته” التي شهدت عمليات ابادة وقتل واسعة بحق كل من خالف قادتها الرأي.
في العام 2018 تم انهاء السيطرة المباشرة لتنظيم “الدولة الاسلامية” على أي من المدن والقرى العراقية، بعد قتل آلاف من امرائه وجنوده في معارك شرسة جرت بشكل خاص في ضواحي مدينة الموصل وفي ساحلها الأيمن. ومع تقدم الجيش السوري المدعوم من روسيا تواصل الفصائل السورية المتطرفة وعلى رأسها جبهة النصرة (هيئة تحرير الشام) وبشكل متسارع، خسارة اراض ظلت تسيطر عليها لسنوات، حتى بات فقدانها لآخر معاقلها في ادلب وشمال حلب مسألة وقت وتتعلق بالتوافقات الروسية التركية، ليتم بذلك طي صفحة حكم تلك التنظيمات لمناطق شاسعة من العراق سوريا واخضاعها لارادتها، لكنّ الآثار الاجتماعيّة التي تركتها تلك الفصائل المتطرفة خلال سنوات حكمها ستمتد لسنوات طويلة وتتطلب معالجات اجتماعية وقانونية معقدة.
لا ينتمون الى هذا العالم
بين الآثار الاجتماعية التي خلفتها تلك التنظيمات وبشكل خاص داعش، ما يتعلق بالاوضاع القانونية والاجتماعية لأطفال المقاتلين الأجانب، الذين لم يتم تسجيلهم في المؤسسات الرسمية العراقية في ظل حكم تنظيم داعش في نينوى والانبار (2014-2017)، وكذلك الحال في العديد من المناطق السورية منذ الحرب الداخلية في 2011 حيث كانت الزيجات تتم بعقود عرفية بعيدا عن المحاكم.
ويواجه اولئك الأطفال، المولودون دون اوراق رسمية تحدد هوياتهم، مشاكل عديدة في ضمان حقوقهم كبشر في التعليم والرعاية الصحية والسفر والجنسية وباقي حقوق المواطنة، وهي مشكلة ستتعقد في السنوات المقبلة مع تقدم الأطفال في العمر دون حقوق في أجواء فكرية ونفسية غير صحية، وبيئة اجتماعية خطرة، سواء كانوا في المخيمات المغلقة او المناطق المحكومة من قبل القوى المتطرفة.
يرصد تحقيق لشبكة “نيريج” للصحافة الاستقصائية، انجزه الصحفي السوري مصطفى ابو شمس، جوانبا من معاناة اطفال المقاتلين الأجانب في سوريا الذين لايجدون طريقا الى السجلات المدنية لأي دولة، خاصة مع عدم معرفة بعض الزوجات بالبلد الاصلي لأزواجهن المقتولين او الهاربين ولا حتى باسمائهم الحقيقية.
يتقصى التحقيق قصص عدد من زوجات مقاتلي تنظيم داعش، ويتابع بحثهم المستمر منذ سنوات عن طريقة لتسجيل ابنائهم المولودين من مقاتلين اجانب، بينهم فتاة قاصر اختفى زوجها الداعشي مجهول الهوية بعد حملها بطفل ولد بلا اوراق رسمية ولا حقوق، لتتكفل بتربيته وهي ماتزال طفلة. ويستهل التحقيق برواية قصة الفتاة.
حكاية هبة الله
تقف «هبة الله» ذات الثلاثة عشر عاماً مع مجموعة من النساء في صف طويل، ينتظرنَ الحصول على أكياس الأرزّ والمعكرونة، التي كانت توزعها جمعية خيرية في حيّ بستان القصر شرقي مدينة حلب. كانت ترتدي ثوباً أسودَ اللّون، رفعته بكلتا يديها كي لا تتعثر في المشي؛ لربّما استعارته من خزانة والدتها أو حصلت عليه من حملة تبرّعٍ بالملابس. كان ذلك في منتصف عام 2016، وكانت حلب الشرقية آنذاك ما تزال تحت سيطرة فصائل المعارضة السوريّة.
تحت حرارة أربعين درجة مئوية، لم تعثر «هبة الله» على اسم لها أو لوالدتها في قوائم الجمعية. طُلب إليها التنحي عن الدور، فجلست إلى الرصيف وغَرِقت في نوبةِ من البكاء. مشيها وجلوسها أظهرا تكوّر بطنها، وكشفا عن حملها الذي تحاول أن تخفيه عن أعين الناس. أفرجت الطفلة بعدها عن بضع كلمات، روت فيها لكاتب التحقيق الذي جلس إلى جوارها أنّ أخاها الوحيد كان مقاتلاً في صفوف داعش في منبج شمالي سوريا. تابعت وقد تحوّل بكاؤها إلى نحيب، أنّ أخاها كان قد زوّجها من أميره السعودي، وأنّ حملَها جاء ثمرةً لهذا الزواج.
«لا أعرف عن زوجي أي شيء… لا اسمه الحقيقي ولا أسرته ولا أين يتواجد الآن»، قالت «هبة الله» شارحة أن زواجها لم يستمر سوى بضعة أشهر قبل دخول قوات سوريا الديمقراطية إلى منبج، وهروب المقاتل تاركاً إياها ووالدتها يواجهان مصيرهما. عادت بعدها مع أمّها إلى مدينة حلب، طفلة حاملاً بطفلة.
ينسدل الثوب عن رأس «هبة الله» فتعيد لفّه بارتباك، فلا يظهر سوى وجهها المرهق وعيناها الخضراوتان المتعبتان: «أرتدي الثياب الواسعة حتى لا يسألني الناس عن قصّة حملي… لا أريد أن أكون عُرضة للسخريّة».
بتلك الفقرات يسرد التحقيق قصة «هبة الله» التي انتهى بها المطاف نهاية العام 2016 في واحد من مخيمات أطمة على الحدود مع تركيا حيث وضعت مولودتها «فرح»، لتبدأ رحلة بحثها عن طريقة لتضيف اسمها إلى قيود السجل المدني.
يؤكد التحقيق ان ذلك هو حال عشرات الأطفال مجهولي النسب وأمهاتهنّ، اللّواتي تزوجن من مقاتلين أجانب، وسط بيئة تشريعية واجتماعية ترفض الاعتراف بهذا الزواج بل وتعتبر هؤلاء الأطفال «قنابل إرهابية» أو «ثماراً للتطرف».
كنَّ يطرقنَ الأبواب
بحسب التحقيق، سجّل العام 2012 قدوم عشرات المقاتلين الاجانب بشكل فردي وغير منظم. دخلوا الأراضي السورية، وانضموا إلى الفصائل المقاتلة في حينها. مع نهاية العام نفسه بدأت تتشكل ملامح لكتائب إسلامية سلفية أو جهادية، بعضها ارتبط بتنظيم القاعدة كـ «جبهة النصرة» و «تنظيم الدولة» قبل انفصال الأخير عنها، فيما حمل آخرون فكر القاعدة دون مبايعتها كـ «جيش المهاجرين والأنصار» و«جند الأقصى» و«الحزب الإسلامي التركستاني».
مع اتساع رقعة سيطرة هذه الحركات والكتائب، خاصة داعش والنصرة (بمسمياتها المختلفة التي تحولت إليها على مراحل، وآخرها هيئة تحرير الشام)، حتى زادت في منتصف العام 2015 عن ثلثي مساحة الأراضي السورية، ومع نشاط الحركة الدعوية للانضمام إلى هذه الجماعات، تدفقت أعداد أكبر وأكثر تنظيماً من المقاتلين غير السوريين.
«منهم من أتى بصُحبة زوجاته، إلّا أن النسبة العظمى منهم، ومع طول المدة والاستقرار النسبي الذي عاشوه، بحثوا عن زوجات لهم من المناطق التي سيطروا عليها»، يقول الباحث أسعد المحمود المقيم في إدلب، مضيفاً أن «الهالة الجهادية التي ارتبطت بهم، والأموال التي جلبوها معهم أو تحصّلوا عليها من الغنائم، والمناصب التي شغلوها، جذبت عدداً ليس قليلاً من النساء للزواج بهم».
ويكشف التحقيق، دأب تلك التنظيمات المتشددة على إرسال «خطّابات» إلى بيوت السكّان، يطرقنَ الأبواب بحثاً عن فتيات بعمر الزواج. تقول إحداهنّ وقد عملت «خطّابة» لدى هيئة تحرير الشام، وكانت تقوم بدور الوساطة في إيجاد الزوجة المناسبة للمقاتلين الأجانب في قرى ريف إدلب الجنوبي، إنها تعرفت على عدد من المقاتلين عن طريق ولدها الذي انضم إلى الهيئة، وإنها وجدت فيهم «حُسناً في الخلق ورغبة في الزواج». وتضيف: «أعرف معظم بنات القرية، وقد اخترتُ لهم نساء من عائلاتٍ فقيرة، أو كبيراتٍ في السن، أو نساء من الأرامل والمطلقات».
تكمل السيدة التي طلبت عدم نشر اسمها، أنّ المقاتلين لم يكن لهم أيّ شروطٍ خاصة، «لذلك كانت الخيارات كثيرة»، وأن معظم عقود الزواج كانت تتم باستخدام الألقاب، لا الأسماء الصريحة للأزواج.
وتعد المحافظات الشرقيّة في سوريا أكثر المناطق البلاد التي شهدت حالات زواج للمقاتلين الأجانب من سوريات. يقول الباحث أسعد المحمود «بالمقارنة مع الرقة ودير الزور والمناطق الشرقية من ريف حلب (الباب وأريافها)، فإن عدد الأطفال مجهولي النسب في المدن والأرياف التي لم تخضع لسيطرة التيارات الجهادية كمدينتي إعزاز ومارع وبعض قرى ريف حلب الغربي وأرياف حماة كان قليلاً». أما مناطق سيطرة جبهة النصرة، فهي لا تزال تشهد زيجات من مقاتلين أجانب حتى الآن.
العدد الأكبر لدى داعش
يوثق التحقيق خلال ستة أشهر من العمل، جداول بأسماء 1826 طفلاً في إدلب وريفها وريفي حماة الشمالي والغربي التي كانت تخضع في اغلبها لهيئة تحرير الشام، سجلتهم حملة «مين زوجِك». وتشير البيانات إلى أن هؤلاء الأطفال نتجوا عن 1124 من أصل 1735 واقعة زواج.
في ريفي حلب الشمالي والشرقي، وهي مناطق تخضع حالياً لسيطرة قوات «درع الفرات» المدعومة تركياً، أجرى فريق التحقيق على مدار أربعة أشهر مقابلات مع أعضاء مجالس محلية وموظفين في دوائر السجلات المدنية وقضاة في المحاكم المدنية الثلاث الكبرى، الباب وجرابلس وإعزاز، إضافة إلى محكمتي مارع والراعي، وجمع الوثائق المتعلقة بدعاوى تثبيت النسب، كما عمل الفريق على مسح الحالات المتواجدة في المخيمات.
ومن خلال مراجعة الأسماء واستبعاد المتكرر منها، توصل إلى وجود حوالي ألف طفل غير مثبت النسب في هذه المناطق. وكان رقم الألف طفل هو نفسه تقريباً في ريف حلب الغربي، الذي كان خاضعاً لفصائل معارضة (الزنكي وأحرار الشام) قبل أن تسيطر عليه هيئة تحرير الشام بداية العام 2019.
وبحسب فريق التحقيق فان الصعوبة الأكبر في عملهم كانت تتركز في مناطق الرقة ودير الزور شرقي البلاد، المقرات الرئيسة والأهم لتنظيم داعش، حيث كان العدد الأكبر من المقاتلين الأجانب، قبل أن تنجح قوات سورية الديمقراطية بدعم التحالف الدولي في القضاء عليهم، وهو ما دفعهم الى متابعة نازحي تلك المناطق في مخيمات ادلب.
وحصل فريق التحقيق على معلومات بوجود أكثر من 350 حالة زواج من مجهولي النسب في مخيّم قرية خربة الجوز بريف إدلب وحده، حيث يعيش نازحون من المناطق الشرقية بسوريا.وأحصى ما يزيد عن أربعة آلاف طفل مجهول النسب في شمالي البلاد.
ويقول كمال عاكف، المتحدث باسم مكتب العلاقات الخارجية في الإدارة الذاتية، إن ما يزيد عن 4000 امرأة و8000 طفل من عائلات المقاتلين الأجانب متواجدون في ثلاثة مخيمات شمال شرقي البلاد في المناطق الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية، يقيمون في أقسام مخصصة ويخضعون لرقابة أمنية مشددة.
وينقل التحقيق عن الباحث أسعد المحمود، قوله معلقا على الأرقام أعلاه إن «أعداد الأطفال مجهولي النسب تزيد عن ذلك إذا ما أضفنا إليها أوضاعاً استثنائية أخرى، كالنساء المتزوجات من سوريين مجهولي الهوية أو مكتومي القيد، والنساء الأرامل اللواتي يخشين رفع دعاوى إثبات الزواج، لارتباط أزواجهنّ السوريين بتنظيم داعش وغيره من التنظيمات الاسلامية».
عزباء بنظر القانون
من أصل خمس وعشرين سيدة تزوجنَ من «مهاجرين» في العام 2014، عادت سبع نساء إلى بلدة بشقاتين في ريف حلب الغربي. إحداهن كانت «أمينة» (30 عاماً)، زوجة أبي عمر المصري المقاتل في «كتائب عصبة الأنصار» قبل انضمامه إلى داعش وانتقالها معه إلى مدينة الرقة، بحسب التحقيق.
في أواخر العام 2017 وقفت «أمينة» أمام قاضٍ من محكمة القاسمية (15 كم غربي حلب) للاعتراف بها زوجة. كان بيدها ورقة مهترئة لم يُثبّت فيها اسمٌ صريحٌ لزوجها أو للشهود؛ «كل ما لدي هو هذه… القاضي لم يعترف بها» تقول، ثمّ تُعيد طيّ العقد بحرصٍ في كيسٍ من النايلون.
آنذاك كانت المحكمة تتبع حركة نور الدين الزنكي، لكن تبدّل الظروف الميدانية وسيطرة هيئة تحرير الشام على القرية، جعل «أمينة» على حد قولها، تفقد أي أمل.
الحال يبدو أكثر تعقيدا مع «ثريا» من قرية عنجارة بريف حلب الغربي (33 عاماً)، فهي أمّ لأربعة أطفالٍ من زيجاتها الثلاث. بعد أن قُتل زوجها الأول في مدينة الرقة 2014، وهو ابن عمّ لها منتمٍ لتنظيم داعش، عقدت قرانها على مقاتلٍ ليبي أنجبت منه ولداً، ليُقتل هو الآخر، ويزوّجها التنظيم من أميرٍ قالت إنه كان في السابق ضابطاً روسياً، أنجبت منه طفلتها الأخيرة التي لا يزيد عمرها اليوم عن سنتين.
ابنا «ثريا» من زوجها السوري، علي (9 سنوات) ومحمد (7 سنوات)، خارج المدرسة الآن. ولعلّ مصيراً مماثلاً ينتظر ولدها الثالث عُمر (4 سنوات). لكن هذا لا يساوي شيئاً عندها، بالمقارنة مع قلقها على طفلتها الصغرى، وقد كرّرت أكثر من مرة أثناء مقابلتها: «أنا عزباء بنظر القانون، لا أعرف اسم زوجي ولم أكن أتحدث لغته… من سيتزوج ابنتي عندما تكبر؟».
وبالرغم من اتّباعها جميع الإجراءات المطلوبة في محكمة القاسمية، إلا أن أولاد «ثريا» بقيوا من دون نسب. «كل مرة أراجع فيها المنظمات الإغاثية يطلبون مني دفتر عائلة أو بيان قيد عائلي، والسجل المدني لم يعطني أي ورقة تثبت زواجي».
تشير بيانات محكمة القاسمية إلى وجود 260 دعوى تثبيت زواج مرفوعة في هذه المحكمة وحدها. وأحصى فريق التحقيق في مدينة الباب شرقي حلب 90 دعوى إثبات نسب، 16 منها من أزواج عرب وأوروبيين.
وفي محكمة جرابلس، هناك ما يزيد عن 100 دعوى مرفوعة لم تحسم حتى الآن، بحسب محمد أيمن رئيس ديوان المحكمة، مؤكداً أن الخوف من المساءلة يمنع مئات النساء من رفع الدعاوى. «المخيمات مليئة بمثل هذه الحالات» على حد قوله.
ثلاثة قوانين
تعتمد المحاكم في المناطق التي تسيطر عليها فصائل المعارضة على ثلاثة مصادر للتشريع بحسب الجهة المسيطرة، إذ تستند محاكم منطقة «درع الفرات» على القانون السوري مع بعض التعديلات، ويعتمد ريف حلب الغربي (وقت إجراء التحقيق) وبعض مناطق إدلب غير الخاضعة لهيئة تحرير الشام على القانون العربي الموحد، فيما تلجأ الهيئة وفصائل إسلامية أخرى في مناطق نفوذها في إدلب إلى التحكيم بالشريعة الإسلامية.
زكريا أمينو، محامٍ يعمل في محاكم إدلب وريف حلب الغربي، يقول إن «جميع هذه المحاكم حتى هذه اللحظة لا تعترف بالزواج من أشخاص مجهولي الهوية، ولا تقرّ بتثبيت نسب الأطفال». الكلام نفسه أكّده المحامي عبد العزيز الدرويش، وكيل عدد من القضايا المرفوعة في ريف حلب الغربي: «لا تحصل المرأة على نتيجة، حتى ولو قامت برفع دعوى».
وفي أرياف حلب الشرقية والشمالية الخاضعة لفصائل «درع الفرات» المدعومة من تركيّا، فقد اتفقت المحاكم هناك على عدم قبول أي دعوى قضائية لتثبيت النسب إن لم تتوفر كامل الأوراق الثبوتية الخاصة بالزوج. وهو ما أشار إليه محمد أديب كرشو، القاضي الشرعي في محكمتي إعزاز ومارع، وكذلك محمد هدال، القاضي في محكمة صوران الذي قال: «لا يحق للمرأة أن ترفع الدعوى باللقب… ولا يسمح القانون بذلك».
باطل ومكروه
ويشير التحقيق الى ان معظم القضاة والموظفين والمحامين الذين تحدثوا لفريق التحقيق، لم يبدو تعاطفا مع زوجات المقاتلين الأجانب وأطفالهنّ. حتى نقيب محامي إدلب، عبد الوهاب الضعيف، كان يرفض تنسيب الأطفال مجهولي الأب، ويؤكد على أن هذا الزواج «خطيئةٌ كبيرة وجريمةٌ اجتماعية يتحمّلها الآباء الذين قبلوا بتزويج بناتهنّ بهذه الطريقة». وأضاف: «لا يثبت نسب طفل لأبيه قبل تثبيت الزواج»، متابعاً أن هذا الزواج «غير جائز لأنه زواج بجهالة، والجهالة بأحد الزوجين في العقد (أمر) محرم» معتمداً -حسب قوله- على فتوى صادرة من «المجلس الإسلامي السوري».
وأجمع معظم المتحدثين على بطلان الزواج من مجهول الاسم، سواء في مناطق سيطرة جبهة النصرة، أو مناطق «درع الفرات» ومنهم محمد هدال، القاضي الشرعي في محكمة صوران الذي قال «لا يوجد شرعية للعقد باللقب»، بينما قليلون منهم اعتبره «زواجاً مكروهاً». أما في القانون المدني فهو «زواجٌ باطلٌ قطعاً»، بحسب القاضي محمد نور حميدي الذي قال «إن معرفة الاسم الحقيقي والصريح شرط من شروط صحة العقد».
صلاة ثمّ انتحار
يرصد التحقيق العديد من القصص عن معاناة زوجات المقاتلين الأجانب، ففي مخيّم في قرية دير سرحان بريف حلب الغربي، استيقظت «أمّ حميدة» وهي سيدة خمسينية، في حزيران 2018 لتجد ابنتها (21 عاماً) جثة هامدة في ثوب الصّلاة. كان إلى جوارها مصحفٌ، وثلاثُ علب دواء فارغة تستخدم في معالجة الضغط والسكري. «كان وجهها مبتلّاً بالدموع… حتى بعد موتها».
بحسب «أم حميدة»، أقدمت ابنتها على الانتحار بعد مضايقات كثيرة طاولتها من أقربائها. «كانوا يصفون ابنتي بزوجة الداعشي، وأحياناً بالزانية». ويشير التحقيق الى تسجيل العديد من حالات الانتحار المشابهة لزوجات مقاتلين أجانب.
وثَّقَ فريق «منسقو الاستجابة في الشمال السوري» وجود 36356 امرأة أرملة في إدلب وحماة، و189924 طفلاً يتيماً في نهاية العام 2018، كما بينت إحصائيات مركز «يبو» للأبحاث أن 13 مليون سوري نزحوا منذ عام 2011 وحتى آب/أغسطس 2018، منهم 6.3 مليون نازح داخلي. وتلجأ معظم العائلات المعوزة في الشمال للبحث عن المساعدات على أبواب الجمعيات الإنسانية، وهو أمر غير متاح لعوائل الأطفال مجهولي النسب.
التزوير هو الحلّ
أمام معضلة عدم الحصول على اوراق رسمية، يؤكد التحقيق ان مئات الزوجات يلجأن الى التزوير: حصلت «أم عبد الله» من سكان حلب على «دفتر عائلة» قامت بتزويره في بلدة الدانا بريف إدلب. تقول إنها حاولت بشتى الطرق الحصول على أوراق رسمية، ودفعت للمحامي ما يقارب 300 دولار دون جدوى، فلجأت إلى «الطريقة الأسرع والأقل كلفة» لحلّ مشكلة نسب أطفالها.
فريق التحقيق تواصل مع أحد السماسرة لتثبيت زواج ونسب طفلين، فكانت الكلفة ما يقارب 200 ألف ليرة (400 دولار) عن كل طفل، للحصول على بيان عائلي موثّق من دائرة السجل المدني في مناطق الحكومة السورية خلال أسبوع واحد فقط، فيما تنخفض الأسعار في مناطق المعارضة حتى تتراوح بين 10 إلى 20 ألف ليرة (20-40 دولار)، وتنخفض أكثر من ذلك إذا كان البيان العائلي غير مرفق بأختام «أصلية».
«سلالة الإرهابيين»
ضمن جلسته التي خُصصت لمناقشة القانون الجديد لمجهولي النسب، استبدل «مجلس الشعب» في الحكومة السورية في حزيران 2018 لفظ «مجهول النسب» بلفظ «اللقيط» الذي نص عليه القانون 107 الصادر عام 1970. واللقيط في التعريف القانوني «هو الوليد الذي يُعثر عليه ولم يُعرف والداه».
ووافق المجلس على المادة 20 من مشروع القانون، التي تقول «يعد مجهول النسب عربياً سورياً، ما لم يثبت خلاف ذلك»، والمادة 21 والتي تقول «يُعدّ مجهول النسب مسلماً، ما لم يثبت خلاف ذلك». لاقى هذا القانون نقاشاً حادّاً في «مجلس الشعب»، انتقل إلى الأوساط العامة الاجتماعية والصحفية. ففي الوقت الذي اعتبر البعض أن هذه الموافقة جاءت تلبية لحاجة إنسانية ملحة، إذ لا ذنب لهؤلاء الأطفال في تحمل وزر آبائهم، رأى آخرون، منهم عضو مجلس الشعب السوري نبيل صالح والإعلامية ماغي خزام أن هذا القانون «يكرس سلالة الإرهابيين بوثائق رسمية».
طفلة تحمل طفلة
ويخلص التحقيق الى ان مشكلة الأطفال غير المسجّلين في سوريا، ستتعاظم لأنها لا تقتصر فقط على أبناء المقاتلين الأجانب، بل إن كثيراً من الزيجات بين السوريين أنفسهم تتم منذ سنوات بعقود عرفية بعيداً عن المحاكم والسجل المدني. يقول أسامة الخضر مدير الشعبة الثانية للسجل المدني في ريف حلب الغربي: «قلّما يلجأ المواطنون إلى المحاكم، فمن أصل 800 واقعة زواج في العام 2018 في الريف الغربي لحلب هناك 150 فقط تمّت في المحكمة». ويعزو الخضر ذلك إلى الجهل، أو الخوف من المساءلة والملاحقة بالنسبة للمطلوبين.
ويحذّر القاضي محمد نور حميدي، من أن عدم تجنيس هؤلاء الأطفال وإدماجهم في المجتمع يساعد على تمدد التنظيمات المتطرفة وتحديداً داعش داخل المخيمات، ضارباً أمثلة عن «تغلغل الفكر المتطرف لدى عوائل المهاجرين» في مخيم الهول ومخيمات أخرى.
فيما يقول حسام رسلان، وهو باحث اجتماعي ومدرس بمعهد النور بريف حلب الشرقي إن «الوصمة الاجتماعية التي تلاحق هذه العوائل، وغياب برامج الرّعاية، تسهّل دخول الأطفال عالم الجريمة والتطرّف»، مضيفاً أن هناك مشكلة أخرى سنرى آثارها على المدى الطويل، هي مشكلة «تزوير الأنساب»، التي قد تتجاوز قدرة أي مؤسسة على حلّها.
في الوقت نفسه دعا بانوس مومسيس، منسق الأمم المتحدة الإقليمي للشؤون الإنسانية، الحكومات للمساعدة في حل أزمة مصير 2500 طفلاً أجنبياً محتجزين في مخيم الهول بشمال شرق سوريا، قائلاً في إفادته في جنيف يوم 18 نيسان/إبريل الماضي إنه «يجب معاملة الأطفال كضحايا في المقام الأول. أي حلول يتم التوصل إليها يجب أن تكون على أساس ما يحقق أفضل مصلحة للطفل». وأضاف أنه يجب التوصل إلى الحلول «بغض النظر عن عمر أو جنس الأطفال أو أي تصور بشأن انتماء الأسرة».
ينتهي التحقيق الاستقصائي بالعودة الى مخيم دير حسان في ريف حلب الغربي، حيث كانت «هبة الله» التي بلغت السادسة عشر من عمرها تجلس القرفصاء في كانون الثاني 2019، حاملةً طفلتها ذات السنتين ونصف السنة أمام تعليقات المارّة. «طفلة تحمل طفلة» هو اللقب الذي ألصقه بها أحد مسؤولي المخيم.
كان وجه هبة، القشيب بفعل البرد وغياب التدفئة يفرج عن ابتسامة، وهي ترفع بيدها ورقة تثبت زواجها ونسب طفلتها. تقول إنها حصلت عليها عبر محامٍ من مناطق الحكومة السورية، ومن خلالها صارت تتلقى بعض المساعدات. هي وثائق مزورة. لكنها بدت مصدر سعادة لطفلة قادتها ظروفها إلى تحمّل الأعباء وحيدة في خيمة باردة.