عقد الخمسينيات من القرن الماضي في العراق وصراعاته وأسبابها
“إنه لا يكفي أن تصف موج البحر، وظهور السفن، حين تريد أن تتكلم عن حياة البحر.. لا بد لك أن تفهم ما في القاع.. قاع البحر المليء بالغرائب والتيارات والوحوش… وقاع السفينة حيث يجلس عبيد وملاحون إلى المجاديف أياماً كاملةً، يدفعون بسواعدهم بضائع تحملها السفن، وثروات وركاباً.. وينزفون عرقاً، وتتمزق أجسامهم تحت السياط.. أجل، ينبغي أن تعطيني صورة كاملة، عندما تريد أن تقنعني بأمر من الأمور”.
من مقدمة أبن خلدون
ولي الدين عبد الرحمن ابن محمد ابن خلدون الحضرمي (1332-1406م)
يرى الدكتور فالح مهدي بأن “فترة الخمسينيات من القرن الماضي كانت منذرة بعواصف ستصيب هذا البلد إصابات قاتلة، فقد اشتد الصراع بين الغرب متمثلاً بالولايات المتحدة والمعسكر الاشتراكي متمثلاً بالاتحاد السوفييتي وقد عبر عن ذلك الصراع بالحرب الباردة التي كانت تتم عبر أطراف أخرى. لrد دخل الحزب الشيوعي العراقي في أتون تلك الحرب المستعرة بين الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة والشرق متمثلاً بالاتحاد السوفييتي. سأتكلم لاحقاً عن الحزب الشيوعي وعدم نضجه.”، ثم يشير وفي نفس المقطع إلى “إن البنية الاجتماعية والثقافية للعراق لم تكن تسمح بقيام ديمقراطية في هذا البلد”. ثم يعتقد بأن “الحزب الوحيد الذي يمثل نضوجاً وفهماً عقلانياً للشأن السياسي لا يخلو من مثالية تمثل بالحزب الوطني الديمقراطي”، في حين رأي بأن وجود عبد الناصر وحماسه الأرعن لمفهوم الوحدة أدى إلى حدوث كوارث في العراق…” (الكتاب، ص 132). هنا نلتقي بمجموعة من الأفكار المهمة للصديق الدكتور فالح مهدي التي أحترمها، ولكني أختلف في بعضها، وسأبين أسباب هذا الاختلاف، والاختلاف لا يفسد للود قضية. إن أهمية الأفكار المطروحة هي التي تستوجب النقاش، سواء أكان الموقف معها أو ضدها؟ ولو لم تكن كذلك لما اعير لها اهتمام. أشير هنا إلى بعضها الأهم:
إن عواصف الحرب الباردة قد شملت العراق وأن أطرافاً فيه كانت تلعب دورها، ولاسيما الطرف الشرقي، وأن الحزب الشيوعي كان امتداد السياسة السوفييتية في هذا الصراع.
إن الحزب الشيوعي العراق لم يكن ناضجاً، في حين كان الحزب الوطني الديمقراطي ناضجاً ومتفهما للوضع ولكن لا يخلو من مثالية.
وأن البنية الاجتماعية والثقافية للعراق لم تكن تسمح بقيام ديمقراطية في هذا البلد.
ثم الدور الأرعن لعبد الناصر في العراق، وكل هذا في عقد الخمسينيات، أي قبل ثورة تموز 1958 وبعد الثورة.
والملاحظة المهمة التي ترد على هذه المقطع الذي حمل إلينا هذه الأفكار هي أن الدكتور فالح مهدي لم يشر ولو بكلمة واحدة عن العوامل الداخلية التي كانت تتفاعل لتجعل من هذه الفترة محملة بالعواصف المحلية، إضافة إلى عواصف الحرب الباردة الخارجية.
1. إن عواصف الحرب الباردة قد شملت العراق وأن أطرافاً فيه كانت تلعب دورها ولاسيما الطرف الشرقي، وأن الحزب الشيوعي كان امتداد السياسة السوفييتية في هذا الصراع.
نعم، من الخطأ بمكان إنكار إن الحرب الباردة في الخمسينيات، وحتى بعدها، كان لها الأثر البارز في الصراع الجاري في العراق، وأن الحزب الشيوعي العراق، ومعه بقية القوى السياسية، ومنها الحزب الوطني الديمقراطي بل وحزب الاستقلال، كانا معاً إلى جانب ما أطلق عليه بالحياد الإيجابي ومؤتمر باندونغ، والذي كان يعني الوقوف على الحياد في الصراع الدولي بين الشرق والغرب، ولكن في جوهره كان إلى جانب الاتحاد السوفييتي عملياً لأن الدول الغربية هي التي كانت تقيم الأحلاف والقواعد العسكرية في الدول الشرق أوسطية وغيرها. ولكن الزميل العزيز لم يشر إلى ما كان يفعله الطرف الآخر في هذه العملية رغم ذكر اسم الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة. كتبت عن ذلك في حلقة سابقة. لقد سعى الغرب بكل السبل المتوفرة جرَّ العراق، وعبر سياسات النظام السياسي الملك ونوري السعيد، إلى أتون الحرب الباردة إلى جانب الغرب من خلال ما أكرره هنا ثانية وهي النقطة الرابعة والأحلاف العسكرية واتفاقية الشرق الأوسط وحلف بغداد، بمشاركة كل من بريطانيا وتركيا وباكستان وإيران والعراق، إضافة إلى دور الولايات المتحدة في حلف السنتو. وضد هذا التوجه تبلور نشاط المعارضة ضد هذه الأحلاف العسكرية. كما إنها نشَّطت الصراعات بإصدار مجموعة من المراسيم السياسية التي أدت إلى إغلاق الصحف والأحزاب، بما فيها الحزب الناضج الوطني الديمقراطي، واعتقال بعض رموز هذه القوى وأسقطت الجنسية عن عشر شخصيات وطنية عراقية، وحلت البرلمان وأجرت انتخابات جديدة ثم تزويرها …وهلمجرا. هذا من جهة، والقوى التي كانت تقف إلى جانب هذا الاتجاه تمثلت في الحزب الدستوري لنوري السعيد وحزب الأمة الاشتراكي لصالح جبر، وقوى كبار الملاكين وكبار التجار الكومبرادور وشيوخ العشائر من جهة ثانية. كم كان بودي أن يعالج الزميل الجانبين لتبدو دراسته أكثر تماسكاً وأكثر لإقناعاً. لم يكن الصراع الدولي وحده السبب في الواقع العاصف في العراق، بل كانت هناك جملة من الأسباب الداخلية، يمكنني أن أشير إلى بعضها لأني عشتها ولم أكن صغيراً بالعمر بل كنت شاباً في العشرينيات. كانت هناك بطالة واسعة ولاسيما بين الخريجين، وكانت هناك هجرة واسعة من الريف إلى المدن وتكوين مدن طينية طرفية بائسة وأغلب النازحين تحولوا إلى أشباه بروليتاريا رثة ويعيشون على هامش الحيا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، لقد هربوا من الظلم والديون التي تراكمت برقبتهم لصالح كبار الملاكين، وكان هناك حرمان وفقر واسعين تحت خط الفقر الدولي العام. وكانت الفجوة بين سكان الريف والمدن في اتساع رغم أن المدن لم تكن في أحسن حال، ولاسيما مدن الجنوب والمدن الكردستانية العراقية. هذه كلها كانت تشحن الوضع الاجتماعي والسياسي إلى جانب فعل الوضع العربي وما كان يجرى في فلسطين. لهذا فالوضع الداخلي لم يكن هادئاً، بل هو الأساس في تحرك العواصف الداخلية، مضافاً إليها الوضع العربي والحرب الباردة على الصعيد الدولي. أورد لهنا مثالاً حياً من دولة الاتحاد السوفييتي لكي أدلل على إن الوضع الداخلي هو الأساس في كل العواصف والانهيارات. حتى الآن تعتقد جمهرة من الشيوعيين في العالم، وليس في العراق وحده، بأن هذه الدولة الكبرى قد سقطت بعد مرور 74 عاماً على قيامها بفعل التآمر الإمبريالي الخارجي وليس بفعل التناقضات والصراعات الداخلية. اعتقد جازماً، ويمكن إيراد الأدلة الكافية على ذلك، بأن الاتحاد السوفييتي قد نُخِرَ من الداخل، قد نُخِرَ بسبب مجموعة من العوامل التي يمكن بلورة أهمها في النقاط التالية:
حصول انفصال فعلي طويل الأمد وطلاق بين الفكر الماركسي وما كان يجري فعلياً على أرض الاتحاد السوفييتي، سواء أكان بالنسبة للعلاقة بين القوميات أم بالنسبة للعدالة الاجتماعية أم توزيع واستخدام الثروة…الخ.
هيمنة البيروقراطية الكاملة على حياة وعمل ونشاط الحزب والدولة في جميع أرجاء الاتحاد السوفييتي.
انتشار الفساد المالي والإداري في كيان الحزب والدولة والمجتمع وعلى نطاق واسع بحيث أصبحت رائحته تزكم الأنوف، تحول إلى نظام (system) معمول به دون إمكانية تجاوزه.
تراجع هائل في مجال التضامن وإسناد حركات التحرر الوطني، قم تفاقم التعاون مع النظم المستبدة والرجعية، كما في حالة التعاون الواسع النطاق مع العراق في فترة حكم صدام حسين، على سبيل المثال لا الحصر.
فشل السياسات الاقتصادية والاجتماعية وخراب الوضع الاقتصادي بسبب هيمنة البيروقراطية الحزبية والحكومية على النشاط الاقتصادي والابتعاد كلية عن احترام القوانين الاقتصادية واقتصاد السوق، مما أدى إلى اختلالات شديدة في مجمل عملية إعادة الإنتاج الموسعة في الاقتصاد السوفييتي. لقد كان حديث قادة الحزب والدولة يجري عن قرب بناء الشيوعية، في حين كان الشعب السوفييتي يعاني من أزمات حادة في الحصول السلع الاستهلاكية اليومية والضرورية جداً… الخ.
توجيه استثمارات هائلة نحو تطوير الأسلحة التقليدية وذات التدمير الشامل والدخول في سباق تسلح لا مثيل له على الصعيد العالمي، وبيع الكثير من السلاح إلى الدول النامية وتراكم الديون عليها على حساب خزينة الدولة السوفييتية وعلى حساب الاقتصاد المدني وعلى حساب دافع الضرائب والمنتج السوفييتي وعجز حقيقي عن إشباع حاجات الاستهلاك المحلي للسلع المختلفة.
وأخيراً وليس أخرا تفاقم دور أجهزة الأمن والاستخبارات في حياة الفرد والمجتمع، وغياب الثقة المتبادلة بين الحزب والدولة من جهة، والمجتمع السوفييتي من جهة أخرى، ومصادرة الكثير من الحريات والحقوق الأساسية للمواطنات والمواطنين السوفييت، وهي الحالة الأكثر إضراراً بالحزب والدولة في الاتحاد السوفييتي. يضاف إلى كل ذلك غياب الحق والحرية في إقامة الأحزاب والتنظيمات الاجتماعية غير الخاضعة للحزب الشيوعي السوفييتي، مما جعل الدولة والمجتمع أسرى بيروقراطية واستبداد الحزب الواحد.
هذه وغيرها كانت السبب وراء انهيار الاتحاد السوفييتي، وهي كلها عوامل داخلية، أما العامل الخارجي فله دور مهم، ولكنه ثانوي ومساعد في هذا المجال، ومنها الحرب الباردة وسباق التسلح.. إلخ. لا يمكن لأي عامل خارجي أن يسقط دولة إلا إذا حصل تدخل عسكري واجتياح أو غزو خارجي، كما حصل في العراق في العام 2003 على سبيل المثال لا الحصر، ولكن مثل هذا التدخل لن يجلب استقراراً في الأوضاع، وها هو الشعب يعيش عواقب ذلك التدخل والغزو الخارجي، حيث اسُتبدِلَ الاستبداد الشوفيني البعثي المقيت بالاستبداد الديني المذهبي البغيض.
2. إن الحزب الشيوعي العراق لم يكن ناضجاً في حين كان الحزب الوطني الديمقراطي ناضجاً ومتفهما للوضع ولكن لا يخلو من مثالية.
من الناحية الاجتماعية والرؤية الفلسفية يمكن القول بأن نضوج الأحزاب والفرد والمجتمع مرتبط عضوياً بواقع الأحوال في هذا البلد أو ذاك. أي بطبيعة علاقات الإنتاج السائدة وطبيعة ومستوى تطور القوى المنتجة ومستوى تطور الوعي الفردي والجمعي في البلاد. كما أن مستوى قادة وعضوية الأحزاب يمكن أن تختلف كثيراً أو قليلاً عن المستوى العام للمجتمع، لأن الأوضاع الاجتماعية والثقافية، إضافة إلى السياسية، هي التي تحدد عموماً مستوى النضوح في الأحزاب وقياداتها وعضويتها والمؤيدين لها وعموم المجتمع. ولهذا عندما تقول بأن الحزب الشيوعي لم يكن ناضجاً، لا أستطيع أن أعارضك به إلا بالقدر الذي يفترض أن تتفق به معي بأن كل القوى السياسية الأخرى بما فيها الأحزاب الحاكمة لم تكن ناضجة، وإلا لما مارست تلك السياسات التي تدفع باتجاه التحالفات الدولية العسكرية أو تمارس سياسات اقتصادية لا تخدم المجتمع كله بل فئات منه. النضوج مسألة نسبية، وبالتالي، فنضوج الشيوعيين من نضوج المجتمع ودرجة أفضل من النضج العام. لأنهم كانوا يقرأون ومن يقرأ بعناية يتطور، وكانت الماركسية تنير طريقهم، كما أنارت طريقك في دراساتك دون أن تكون بحاجة إلى الانتماء إلى هذا الحزب أو ذاك، ودراساتك السابقة والراهنة تشير إلى إنها تستخدم المنهج العلمي المادي الجدلي.
في قناعتي الشخصية بأن الباحث أو الباحثة، حين يقوما بتحليل أوضاع معينة في فترات سابقة، يفترض فيهما، كما أرى، أن يستعيدا الظروف التي كان يعمل بها هؤلاء الناس والأجواء المحيطة والظروف الاجتماعية والثقافية الضاغطة والعوامل الدينية الفاعلة…الخ. ليخرجا بنتائج يمكن أن تكون الأكثر قرباً إلى الواقع، وبممارسة منهج التقريب المتتالي iterationsprozess ليمكن الوصول إلى أحسن النتائج في التحليل العلمي المنشود. نعم كانت هناك شعارات يسارية متطرفة وليس بالضرورة كلها من الحزب الشيوعي، بل الجماهير ذاتها كانت المحرك الفعل، بوعي أو دون وعي، لردود فعل سرعة ونافورية يصعب تداركها، لا تُبرر، ولكن لا بد من رؤية العوامل التي كانت تقود إلى ردود الأفعال المتطرفة. هنا يمكن أن يجد الإنسان تفسيراً لما كان يحصل وليس تبريراً. أود هنا أن أورد تجربة عشتها شخصياً: في عام 1959 عدت من بيروت إلى بغداد لأغادر بعدها إلى المانيا للدراسة. زرت مديني الحبيبة كربلاء لثلاثة أيام. في اليوم الثاني كنت على موعد مع رفيق عزيز لي قضينا سنوات في السجون والمعتقلات قبل ثورة تموز 1958 هو الرفيق جاسم الحلوائي (أبو شروق). كنت نسير فش شارع في محلة العباسية وقرب نادي الطلبة الابق وقرب من مستوصف الطلبة وأمام دائرة البريد حين سمعنا أصوات مظاهرة تنادي والحبال مدودة بطالبون بقتل وسحل مدير إدارة العمل الحكومية في بغداد، وهو أحد معارفي وصديق أيضاً). سألت الرفيق أبو شروق هل هذا من عملنا، فأجاب فوراً وقطعا، لسنا لنا به يد، وكان الرفيق مشرفاً على منظمة الحزب في كربلاء حينذاك. قلت له لنذهب ونطفئ النار بل أن تتعل. اقتربت من المظاهرة وارتقيت دكة قريبة من تجمعهم وناديت بصوت مرتفع إن هذا العمل جنوني ومرفوض وعلى العمال، وكانوا عمال إنتاج الطابوق والجص، أن يتحاورا مع إدارة العمل وليس إلى قتله. وقلت لهم بأن الحزب الشيوعي يرفض هذه الأساليب. ومن انتهيت من الكلمة حتى تلقيت ضربة شديدة من شخص يحمل مگواراً ( عصا غليظة ذات رأس قيري صلب أو حديدي) بيده فجر الدم من رأسي وبسرعة فائقة. لم أتمالك نفسي وخشيت من ضربات لاحقة والدم يثير الناس، فهجمت دون وعي مني على الخص وانتزعت منه المگوار وبدأت أدور به على نفسي لأبعد التجمع عني دون أن أحاول إصابة أحد، وقد نجحت فعلاً وتفرق التجمع بعد ذاك، وتمكنت من الذهاب إلى المستوصف لمعالجة الإصابة. لقد قيل إن عناصر من قوى أخرى دفعتهم إلى ذلك وطلبوا مني إقامة الدعوى ضدهم فرفضت، ولكن النتيجة كانت أن ابتعد الموت من إنسان لم يكن بيده غير تطبيق قانون العمل والعمال. ولو كان قد حصل ذلك لكان الحزب الشيوعي العراقي أول المتهمين بذلك. إن الرفيق جاسم الحلوائي يعيش اليوم بصحة جيدة في الدنمارك وهو شاهد على ما أقول.
تقول أخي الفاضل، بأن الحزب الوطني الديمقراطي تميز بالنضوج والتفهم. هذا صحيح إذ كان يميل إلى الإصلاحية في تغيير الأوضاع، ومع ذلك وجدته لا يخلو من الرومانسية. وأعتقد إن الرومانسية أو المثالية أو الحلم لا يجوز أغفالها في الحركات السياسية، وإلا لما عاد هناك حلم وأمل يدفع إلى العمل والنضال لتحقيق التغيير المنشود. لقد شارك الحزب الوطني الديمقراطي في كل التحركات الفكرية والسياسية في الخمسينيات. وقد التقيت بالأستاذ كامل الجادرجي في مقر جريدته الأهالي على رأس وفد من كربلاء حول بعض المسائل المهمة ومنها الأحلاف العسكرية وموضوع السلام. وكان رجلاً معتدلاً وعقلانياً واتفق على صواب مطالبنا. وكان ممثلاً في اللجنة العليا لجبهة الاتحاد الوطني التي شاركت في إسقاط النظام الملكي والتي تأسست عام 1957. لم تترك الحكومات الملكية المتعاقبة أي قوة سياسية عاقلة لا تعارضها، وتخندقت في أحزابها السياسية وأقامت سوراً بينها وبين الناس بمراسيمها الخانقة للحريات العامة وبجهاز التحقيقات الجنائية والشرطة السرية والسجون. لم يسع حكام النظام الملكي إلى المساومة مع الأحزاب المدنية، دع عنك اليسارية والحزب الشيوعي العراقي أو القوى القومية. ولهذا لم تجد تلك القوى باباً آخر غير التحالف ضد النظام الملكي. لم يكن الأستاذ الفاضل كامل الجادرجي شخصية ثورية، بل كان إصلاحياً، اشتراكياً ديمقراطياً، ولم يناضل ضد الملكية، بل قدم النصح لها، ولكن الرغبة في الحكم وعدم التنازل والمساومة قد أدى إلى تعميق الصراع وتفجيره والانتقال به إلى مرحلة التآمر والانقلاب العسكري بما يسنده الجمهور. تشير دراسات معاهد علمية تبحث في حل النزاعات، وقد عملت عدة سنوات في معهد من هذا النوع ببرلين، إلى إن المشكلات الاقتصادية والاجتماعية حين لا تعالج وتتفاقم، يمكنها أن تتحول إلى نزاعات سياسية، وحين تشتد يمكن أن تأخذ أشكالاً متطورة من النزاع السياسي بما في ذلك النزاعات الدموية أو الحروب، وسواء أكانت تلك المشكلات في داخل دولة واحدة أم بين الدول.
أتمنى أن تفكر في هذا الموضوع. لا اسعى إلى تغير ما تراه، بل أرنو إلى التفكير فيما أطرحه وقد بلغت الرابعة والثماني من عمري ولا يمكنني إلا أن أنقل الواقع الذي عشته كما هو، ومن زاوية رؤيتي طبعاً، وليس محاولة لتشنيع الوضع.
3. أن البنية الاجتماعية والثقافية للعراق لم تكن تسمح بقيام ديمقراطية في هذا البلد.
لقد أطلق سراحي من سجن بعقوبة ومن ثم من الإبعاد في الشهر 7/6/1958 وعشت ثورة تموز 1958 في بغداد. غادرت العراق للدراسة في الشهر الثامن من نفس العام. في عام 1959 كنت في بيروت ونشرت مقالاً في جريدة الأخبار اللبنانية وباسمي الكامل وتحت عنوان” هل تصلح الديمقراطية للعراق” رداً على مقال للدكتور سعدون حمادي، الذي كان في قيادة حزب البعث ورئيس تحرير جريدة الجمهورية، والذي كتب مقالاً أدعى فيه بأن الشعب العراقي والوضع في العراق لا يصلحان للديمقراطية. وها أنا أمام قول مماثل عن فترة الخمسينيات، ولكن شخصية أخرى تختلف فكراً وممارسة عن شخصية وفكر وممارسة سعدون حمادي، شخصية علمية وموضوعية هو الدكتور فالح مهدي، يحمل رأيا أحترمه وأختلف به معه. أناقش هذا بعد مرور ستة عقود بالتمام والكمال، ولكن عن نفس الفترة والتي يمكن أن تصلح لهذه الفترة أيضاً التي أصبح العراق فيها يعيش حالة ردة فكرية واجتماعية ومدنية عميقة جداً وشاملة تقريباً.
الديمقراطية ليست صبغة يمكن أن نلون بها واجهة معينة، بل هي عملية سيرورة وصيرورة اجتماعية وثقافية وسياسية واقتصادية متشابكة، إنها عملية حضارية يضاف لها اليوم بيئية وحقوقية أيضاً، ما لم نبدأ بها لن نصل إليها. إنها ليست عملية ميكانيكية أو اوتوماتيكية بأي حال. والشعوب كلها لم تكن يوماً ناضجة للديمقراطية، ولكن عمليات التغيير الاقتصادي وتغيير البنية الاجتماعية هما اللتان توفران مستلزمات التغيير في الوعي وفي إدراك الضرورة، أي الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. في الخمسينيات كان نوري السعيد يؤكد ذلك، وفي أوائل القرن الحادي والعشرين ادعى محمد حسني مبارك، رئيس مصر السابق ذلك أيضاً عن المجتمع المصري، وهكذا يتحدث حكام أغلب الدول النامية ويؤكدون بإن الوضع الاجتماعي والثقافي في مجتمعاتهم لا يسمح بممارسة الديمقراطية. ولكن لا بد من أن تكون هناك بداية بالممكن من الديمقراطية والحريات العامة التي يفترض أن تقترن بسياسات وإجراءات اقتصادية واجتماعية لكي يمكن من خلالهما تطوير الوعي العام ووعي الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. بغير ذلك لا يمكن أن نصل إلى إقامة دولة ديمقراطية علمانية حديثة ولا إلى مجتمع مدني ديمقراطي حديث.
الدور الأرعن لعبد الناصر في العراق، وكل هذا في عقد الخمسينيات، أي قبل ثورة تموز 1958 وبعد الثورة.
يؤكد الزميل الدكتور فالح مهدي بأن سياسات عبد الناصر في عقد الخمسينيات وما بعدها قد تميزت بالرعونة، وأضيف عليها، والإخفاق. أشعر بأن هذا الحكم يتسم بالصواب من جهة، ولا يعبر عن كل الحقيقة من جهة ثانية. عبد الناصر لم يكن رجلاً ثورياً، ولكنه كضابط مصري هزته خيانة الحكام العرب لجيوشها ومنها جيش مصر في الحرب العربية – الإسرائيلية عام 1948، وبعد التقسيم مباشرة، بما في ذلك الأسلحة الفاسدة، وهي التي قادت إلى تجمع ضباط قاموا بانقلاب عسكري سعوا إلى تحويله إلى ثورة اجتماعية ولم ينجحوا في ذلك. وهذه الحالة حصلت في العراق حيث كان عبد الكريم قاسم أيضاً ضمن القوات العراقية التي قاتلت ضد إسرائيل. وتعرفوا عن قرب على حقيقة دور الحكومات العربية في الصراع العربي – الإسرائيلي. فبدأوا يعملون على تنظيم انقلاب عسكري ضد النظام الملكي في العراق، كما في مصر. وعلينا أن نتذكر الانقلابات المتلاحقة في أوائل الخمسينيات في سوريا أيضاً.
تعامل الضباط المصريون بلياقة صارمة وسليمة مع الملك فاروق، إذ أبعدوه وعائلته إلى إيطاليا ولم يقتلوه ولم يمسوه بأذى. موقف حضاري. سأعود إلى ما حصل في العراق، فلم يكن فاروق متهماً بخيانة فلسطين بل سياسات الحكومة المصرية، وهذا مهم في الموقف من الملك فاروق. لقد توجه عبد الناصر صوب إقامة علاقات اعتيادية مع الاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية الأخرى، والتي لم ترتح لها الدول الغربية، فامتنعوا عن مسألتين: تزويد مصر بالحبوب من الولايات المتحدة، أي تجويع المصريين، من جهة، وعدم المشاركة في إنجاز مشروع السد العالي من جهة ثانية. وكان هذا الموقف في خضم الحرب الباردة موقفاً غير سليم من الغرب، فاندفع عبد الناصر بروح شبابية وعلى رأس السلطة باتخاذ إجراءات أكثر راديكالية، منها تأميم قناة السويس وانتشر الشعار والأغنية القائلة “قالو السد العالي زال قلنا أممنا القنال يا جمال”. إنه رد فعل لم يكن مناهضاً للغرب، كما أنه وقف ضد مشروع حلف بغداد وشارك بفعالية وحيوية مع سوكارنوا وغيره في موضوع الحياد الإيجابي ومؤتمر باندونغ. هذا الموقف الغربي هو الذي هيج الشارع العربي، والعرب يهتاجون لأي صغيرة وكبيرة كما تشير الأحداث الكثيرة المنصرمة كالدينية والمذهبية والقومية، وقد أشار إليها الدكتور فالح مهدي نفسه إلى مثل هذا الهيجان المنفلت. ولنتذكر الموقف من الكاتب البريطاني سلمان رشدي وكتابه الموسوم “آيات شيطانية” مثلاً.
إن هذا الوضع هو الذي قاد إلى أن يشعر عبد الناصر بالقوة والغرور وتصعيد الأحداث، ثم كان الانقلاب العسكري أو الانتفاضة العسكرية للضباط الأحرار في العراق التي تم التنسيق فيها مع الأحزاب المؤتلفة في اللجنة العليا لجبهة الاتحاد الوطني والتي دعمتها حركة جماهيرية واسعة دفعت باتجاه حركة ثورية وثورة لم تنتصر في المحصلة النهائية. وهنا لعب عبد الناصر والحركة القومية في العراق والدول العربية وليس سوريا، والأردن وغيرها/ دوراً تخريبياً مدمراً قاد إلى وأد ثورة 14 تموز 1958، وتميز جميع قادة مصر العربية وسوريا والقوى القومية والبعثية حينذاك بالرعونة الفعلية الموجهة لإقامة وحدة عربية لم تنضج ظروفها الذاتية والموضوعية لا حينذاك ولا الآن. وقد راجت تلك الأغنية في مصر حول الوحدة المصرية السورية والسعي للوحدة الثلاثية مع العراق والتي تقول:
وحدة ما يغلبها غلاب تباركها وحدة احباب
توصلنا من الباب للباب ولا حايل ما بين الاتنين
ولا مانع ما بين الاتنين ولا حاجز ما بين الاتنين
انا واقف فوق الاهرام وقدامى بساتين الشام
ثم تنتقل لتقول الأغنية:
اراضينا من هذا الجيل يرويها بردى والنيل
وفى قلبي من شوقي غليل ما يرويني غير النهرين
ما يرضيني غير النهرين ما يكفيني غير النهرين
ولست راغباً في التعمق بهذا البحث وما فعلته البرجوازية المصرية في سوريا، مما دفع عبد الناصر إلى اتخاذ الإجراء العقابي بتأميم الكثير جداً من المشاريع الاقتصادية للبرجوازية المصرية كانتقام منها والتي شرحتها بالتفصيل في اطروحتي للدكتوراه عام 1967 التي كانت تحت عنوان ” طبيعة إجراءات التأميم في جمهورية مصر العربية” والتي بحثت في تلك الإجراءات ابتداءً من عام 1961 حتى نهاية عام 1964، والتي لعبت دوراً بيراً في إعاقة تطور مصر الاقتصادي كثيراً. وقد سعى القوميون الناصريون العرب في العراق إلى اتخاذ إجراءات تأميم مماثلة في عام 1964 شملت مشاريع صناعية وتجارية وبنوك لم يتجاوز الرأسمال المؤمم فيها عن 28 مليون دينار عراقي أساءت للقطاع الخاص والتطور الاقتصادي في العراق كثيراً ولم تحقق أي مكسب مناسب لقطاع الدولة أو للاقتصاد والشعب في العراق.
انتهت الحلقة التاسعة وتليها الحلقة العاشرة