ستة أعيادٍ متتالية على مدار ثلاث سنوات، قضاها إقليم كردستان ومواطنوه معنظام ادخار الرواتب على وقع أزمات متعددة، بين تقلبات النفط وصعود تنظيم“داعش” وخلاف حاد مع بغداد يتعلق بمعظمه بامتناع أربيل عن تسليم عائداتالنفط والأرقام النهائية والحقيقية المتعلقة بها إلى الحكومة الاتحادية، قبل أنتصر على استفتاء الانفصال.
لم يعش سكان الإقليم في المحافظات الثلاث مرحلة صعبة ومظلمة من الناحيةالاقتصادية والاجتماعية مثل الذي عاشوه خلال السنوات الخمس الأخيرة بعد2003، بسبب ما عاناه الإقليم من تراجع كبير في نسبة الاستثمار والتطورالعمراني والسكاني الذي شهده بعد التحرير.
بعد ظهور تنظيم “داعش” منتصف عام 2014، الذي تزامن مع انخفاض حادفي أسعار النفط على المستوى العالمي وسيطرة التنظيم المتطرف على العديدمن آبار النفط التي كان بعضها خاضعًا لسيطرة الاقليم، لاسيما في المناطقالتي تقع ضمن ما يسمى في الدستور بـ “المتنازع عليها“، دخل الإقليم دوّامةمظلّمة وعانى كثيرًا في كيفية تأمين الرواتب لموظفيه وتسيير أموره المالية وتمويلمشاريعه الاستثمارية.
جاء ذلك مع قطع حصته من الموازنة السنوية البالغة 17% من قبل الحكومةالاتحادية، ما دفعه الى نظام ادخار الرواتب الاجباري وقطع نسب عالية منرواتب مواظفيه، في قرار لم يرى الإقليم أنسب منه في الظرف الذي كان يعيشهعام 2016، لكنه وضعه في حالة محرجة جدًا أمام مواطنيه في وقت كانتالحكومة الاتحادية تدفع كامل الرواتب لموظفيها في ظل ظروف لم تكن أفضلكثيرًا مما قاسته كردستان، حيث الحرب ضد تنظيم “داعش” وانخفاض أسعارالنفط والصراعات السياسية كلها في آنٍ واحد.
تراوحت نسبة الادخار بدايةً من 40 – 70%، إلى أن قررت الحكومة في 28 آذار/مارس 2019، تخفيض نسبة الادخار لتكون من 10- 30%، ومن ثم إلغاءهبشكل نهائي، بعد تحسن أسعار النفط وهزيمة تنظيم “داعش“، فضلًا عنحلحلة الأزمة مع بغداد التي بلغت ذروتها نتيجة إصرار إدارة كردستان بزعامةمسعود بارزاني حينها على إجراء استفتاء الانفصال في أيلول/سبتمبر 2017،وما تبعه من إجراءات للحكومة الاتحادية .
يضم إقليم كردستان مليون و400 ألف موظف حكومي، وتبلغ ميزانية رواتبهمما يقدر بـ 850 مليار دينار، كان لنظام الادخار أكبر الأثر على حياتهم، حيثغالبيتهم لا يمتلكون مصدر رزق ثان، وظهرت ملامح هذا التأثير على الأوضاعالاجتماعية والحياة النفسية للكثير منهم يومًا بعد آخر، فازدادت حالاتالانتحار والقتل والسرقة، فضلًا عن ارتفاع معدلات الطلاق، وهجرة الشبابوالعوائل الكردية إلى أوروبا وتسريح العديد من شركات القطاع الخاصلموظفيها، وهجرة شركات أجنبية ومحلية وتوقف المشاريع.
مع إلغاء النظام، بدأت الحياة الاجتماعية تتحسن قليلًا، فحركة السوق أصبحتأكثر نشاطًا، مع ارتفاع ملحوظ في الأسعار. ويعتبر عيد الفطر لهذا العام هوأول عيد يمرّ على الإقليم ومواطنيه بعد ستّة أعيادٍ متتالية بدون نظام ادخارالرواتب.
سوق نشطة وموائد عامرة
يقول الخبير الاقتصادي أكرم جمو، إن ما يعتبر أكثر إيجابية في إلغاء نظامادخار الرواتب الاجباري، أنه “جاء قبل العيد بأشهر“، لافتًا إلى أن “حركةالسوق والنشاط التجاري وشراء الحاجات من قبل المواطنين للعيد ازدادتبنسبة عالية جدًا مقارنةً مع الأعياد الأخرى“.
أشار جمو في حديث لـ “ألترا عراق“، إلى أن “نفسية المواطن في هذا العيدتبدو أكثر هدوءًا وطمأنينةً مقارنةً مع ما كان يعيشه من اضطراب نفسيواجتماعي بسبب الأزمة الاقتصادية والادخار الاجباري سابقًا“، مبينًا أن “ذلكانعكس ايجابيًا على حركة السوق ونشاطه بسبب توفّر السيولة بنسبة جيدة منخلال تحسن الرواتب“.
أوضح الخبير أيضاً، أن “موائد إفطار المواطنين في الإقليم واستقبالهم لهذاالعيد، اختلفت كثيرًا عما كان عليه الوضع سابقًا خصوصًا شريحة الموظفين،الذين يقوم جزء كبير من اقتصاد الإقليم على رواتبهم“.
زيادة الإستيراد بنسبة 40%
من جانبه يؤيد بيستون جمال صاحب محال هيوا لبيع الأجهزة الكهربائية فيشارع كاوة بوسط السليمانية، رأي الخبير الاقتصادي، مبينًا أن “حركةالمواطنين للشراء شهدت نشاطًا ملحوظًا بعد إلغاء نظام ادخار الرواتب تزامنًامع اقتراب العيد، بشكل يفوق ما شهدته الأعوام الماضية“، مؤكداً أن ذلك رفعبالمقابل من حجم المواد المستوردة بـ “نسبة 40% أعلى من أعياد السنواتالماضية“.
قال جمال لـ “الترا عراق“، إن حركة السوق نشطت بنسبة 20% أكثر بعد إلغاءنظام الادخار وارتفعت إلى 80% مع اقتراب العيد، على الرغم من مخاوفالكرد من تكرار الأزمة الاقتصادية بسبب التقلّبات السياسية. لكن تلك التقلباتلن تطال الموطنين خلال هذا العام على أقل تقدير، كما يؤكد عضو اللجنة الماليةوالشؤون الاقتصادية في برلمان الإقليم زياد جبار.
مخاوف من تكرار الأزمة!
يقول جبار، إن “إلغاء نظام ادخار الرواتب جعل هذا العيد مختلفاً تمامًا علىجميع الأصعدة الاقتصادية والنفسية والاجتماعية“، موضحًا أن “موطنيالإقليم اجتازوا مرحلة صعبة جدًا خلال مرحلة ادخار الرواتب، وبالتأكيد الغاءهذا النظام سيحسن من معيشة المواطنين ووضعهم الاجتماعي والاقتصادي“.
وعن مخاوف عودة العمل مرةً أخرى بنظام ادخار الرواتب في حال عدم ارسالالحكومة الاتحادية رواتب الموظفين في كردستان ردًا على عدم تسليم الإقليمكمية النفط المتفق عليه، أكد جبار لـ “ألترا عراق“، أن “رواتب موظفي الإقليمستدفع بشكل كامل خلال هذا العام من قبل الحكومة الاتحادية بغضّ النظر عنإمكانية وقوع أية مشكلة سياسية“، مبيناً أن “المخاوف التي تثار حول تكرارالأزمة الاقتصادية تتعلق بالرواتب في العام المقبل وليس في هذا العام“.
كان رئيس مجلس الوزراء عادل عبد المهدي قد أكد في مؤتمره الصحفيالأسبوعي، أمس الأحد 2 حزيران/يونيو، عدم تسليم إقليم كردستان برميل نفطواحد إلى بغداد، كما نصت عليه الموازنة المالية، لكنه تعهد رغم ذلك بعدم قطعرواتب موظفي الإقليم.
لكن المحلل السياسي والناشط المدني فرمان رشاد يرى، أن “المواطن الكرديمازال يعيش في خوف وقلق من تكرار الأزمة الاقتصادية وتأخر صرف الرواتبحتى وبعد إلغاء نظام ادخار الرواتب من قبل حكومة الإقليم، بسبب الخلافاتالسياسية واحتمالية عدم إرسال الرواتب من قبل الحكومة الاتحادية في بغدادمع عدم إلتزام الإقليم بارسال كميات النفط المتفق عليها“.
يقول فرمان لـ “الترا عراق“، إن “جزء من الأموال المخصصة لاعطاء الرواتبتستخدم لتسديد الديون وهذا ما يؤثر سلبًا على توزيع الرواتب“، لافتًا إلى أن“المواطن الكردي يعيش أوضاعا جيدة هذا العيد، إلا أنه مضطرب نفسيًا لعدمثبات الأمور ووضوحها وعدم معرفة المستقبل، خاصة وأن الرواتب لم تسلم قبلالعيد مع اقتراب موعده على الرغم من تعهد حكومة الإقليم بذلك، وهو مؤشرخطير“.
خمس سنوات!
ويؤكد المختص في الأمراض النفسية الدكتور توانا عبد، أن “ما عاشه مواطنوالإقليم من اضطراب نفسي وقلق وخوف دائمين بسبب الأزمة الاقتصادية ونظامادخار الرواتب لايمكن نسيانه وتجاوز هذه المرحلة بسهولة“، مؤكداً أن “المواطنالكردي بحاجة إلى خمسة أعوام حتى يستطيع نسيان مرحلة الأزمةالاقتصادية وما خلفته من الخوف والقلق والاضطراب النفسي وخلل فيالأعصاب“، مضيفًا لـ “الترا عراق“، أن “المواطنين في الإقليم تبدو عليهمالطمأنينة والارتياح النفسي بعد إلغاء نظام ادخار الرواتب قبل ثلاثة أشهرتقريبًا وانتهاء الأزمة الاقتصادية وتحسن العلاقات السياسية مع بغداد إلى حدٍما، إلا أن هذا لا يعني نسيانهم ما عاشوه في السابق“، فيما رأى أن تجاوزالأزمة الاقتصادية ساهم بتحسن الوضع النفسي للمواطنين بنسبة 25%.