وُلِدَ سَتار، بِبَيتٍ مَصنُوعٍ
مِنْ طِينِ وَقَصَبِ مَيسان
يُغازِلُ بِودٍ نَهرَ الكَحلاءِ
عامِرٌ بالجُودِ وَالطِيبِ
وَالإِيمانِ وَالكَرَمِ.
أَدرَكَ الصَّبِيُّ مُبكراً
فَدَاحة الجَورَ وَالمَظالم المُرعِبَةَ،
الَّتِي يُعِيشُها النَّاسُ بالمُحِيطِ الذِي فِيهِ نَشأْ
بَعْدَ دخُولِهِ المَدارسَ، تَفَتَحَتْ أفاقهُ أَكثر
فَزادتْ مِنْ تَنويرهِ علُومَها وَعَالمَها
وَعَندَما شَبَّ
اِختارَ طَريقَ الكِفاحِ الموصلِ للحريَّةِ
وَلنصرَةِ العَدلِ وَالإنسانِ
مُهتدِياً بمبادئِ الإِنسانيَّةِ
مُتَوسِّماً بِنبلِ أَفكارِها وَقِيَمِها الخَلاصِ
مِنْ واقِعٍ مُزرٍ يَفتكُ فِيهِ الفَقرُ وَالمَرَضُ وَالجَهلُ.
بِعُنفُوانِ شَّبابِ النور، سَارَ بِدَربِ الحِزبِ
مُنغمِساً مُتَحَمِساً؛ لنشر ما آمن به
يَعمَلُ وَيُحَشِدُ وَيُنشِدُ لِلغَدِ السَّعيدِ،
فَداهَمَتهُ عَلَى عَجَلٍ سِياطِ الجَلادِين،
وَتَلقفتهُ السِجونُ وَقبع فِي مَنافِي الإبعاد السِّياسي،
وقَضى فِيها مِنْ زَهرَةِ شَبابهِ سِنِينَ طوال
وَمتى ما أُطلقَ سراحهُ يعاود النضال؛ فلَمْ يَهدأ، وَلَمْ يَستكينْ،
يُعاودُ الكرّةَ مِنْ جَدِيد،
بعودٍ أَصلبٍ، وَعَزيمةٍ لا تقهرها السجون؛ فَهو السجين الذي لا يَلِين
فَقد اِختارَ طريقهُ المُبِين
مُتفرغاً لعملهِ الذِي بهِ رَهين
بإدراكٍ ودرايةٍ وَيَقين
فَباتَ يتَنقلُ مُتخفياً بَينَ المُدن
وَأوكارِ النِضالِ السريَّة،
يَرصُ الصفوفَ وَيَشحذُ الهِمَم
مُثابراً بالعَملِ مُجدداً للأَمل
فَأصبحَ كادراً مُتقدمَ المَقام،
فَزادهُ عَملهُ المَزِيدِ
مِنْ الاتزانِ والالتزام
يَدورُ بِهذا المَدارِ مُوصلاً اللَّيلِ بالنهار.
حافِظَةُ رأسهِ باتَتْ تَختزنُ أَخطرَ الأَسرار
يَحفَظَها وَيَصونها بأمانٍ وإتقانٍ.
بحذقٍ يغورُ بَينَ الصعابِ،
رغمَ ما يحفُ بِهِا مِنْ المَخاطرِ،
لكنهُ لا يُبالي.
قلبٌ جريءٌ كتومٌ مقدام، لا يَعرِفُ الوَجلَ،
وَهوَ يعومُ بلُجَّةِ بَحرٍ مُضطربٍ
هائِجِ الأَمَواجِ، لا قَرارَ لهُ.
(2)
فِي الخَفَاءِ وَمِنْ دَهَالِيزِ عِصابَةِ المَوُتِ السِّريَّة
بُثتْ العيون،
تجَمعُ عَنهُ وَعَنْ مَنْ مَعَهُ أَدقُ المَعلُومات
كانَ مِنْ ضِمنِها وشايَّةٌ مِنْ رَفِيقٍ خَوّان،
سُلمتْ عَلَى وَجهِ السرعةِ التقارير
لجهازِ بَطشٍ سرِيٍ خاص، يُدارُ بغايَّةِ السرِّ
عَلَى قمةِ هَرَمِها نُصِبَ أَخَطرِ مُجرمٍ شِرير سفاح،
يُرسمُ فِيها لِكُلِّ ثَورِي مَصير
بَعْدَ حينٍ مِن الزَمَنِ
كالريحِ الصفراءِ جاءَ القَرار مِنْ رأس (حُنَين)
أجهزوا عَلَى القادةِ أدناه :
(ستار، محمد ، شاكر)**
لتغييرِ الموازين بموقفِ حزبِ الكادحين.
حاصرُوهم وَارصدُوهم بالعيونِ
وَالحدِيدِ وَالدمِ والنار.
(ستار) أولُ مَنْ تابعتهُ عيون
صديقٍ مخادعٍ غادر
لتستلمهُ عيون عَسَس(حُنَين)
وَعِندَما جاءهُ خبرُ التحذيرِ إِنَ حَياتهُ فِي خَطرٍ
وَعليه: أن يُحاذر مِنْ اللقاءِ أو الإتصالِ بـرفيقٍ (خَوّان)
يُشَكلُ عَلَى حياتهِ بَلِيغَ الضَرَر
وأن يَحترسَ للحَيطةِ وَالأَمان…
أصغى للنَصيحةِ بقلبٍ غير مضطربٍ لمْ يتملكهُ الفزع
وَبدأتْ الأَفكارُ فِي رأسِهِ تَدور :
(كَيفَ يَكونُ الحَذرُ وَكلُ عَملي وَسطَ الخَطَر؟
وَمِنْ أَينَ يأتِي الأَمان وَعُيونُ المُخبِرِينَ تَتَعَقَّبُنِي بإمعان؟)
بفؤادٍ لَمْ يَتملكهُ الهلع،
ذَهَبَ اللقاءِ الخَطِير،
واضِعاً رُوحهُ عَلَى كَفِّهِ
أَنهى الاِجتماعَ الذِي عُدَ بإتقانٍ ليُوصِلهُ إلَى الكَمِين،
وَفِي طَريقِ العَودةِ للبَيتِ،
تابعتهُ ذِئابُ حُنَين،
وَعَلَى بُعدِ 150 مترِ مِنْ مكانِ الاِجتماعِ الكَمِين
هاجمتهُ لاِختِطافهِ ذات العيون؛
برباطةِ جَأشٍ
وَبِقلبٍ شُجاعٍ غَيرِ مُرتابٍ
قاوَمَها بِضراوتهِ المَعهودةُ
لِينهالوا عَليهِ بكلِّ جنون،
برصاصاتٍ قاتلةٍ متتاليةٍ
مدفوعةِ الثمنِ
وجهتْ للمغوارِ الأَعزَلِ،
بَينَ رَشقةِ الرَّصاص الأَولى وَالثانية
صَدَحَ صَوتهُ بصرخةِ الأَلَمِ وَالصَدمَةِ
مُعّرِّفاً باسمهِ وَصفتهِ :
(أَنا سَتار خضير الحَيدر
أَنا عضو اللجنة المركزية للحزبِ الشيوعي)
فِيما الدمَ يَنزفُ كانت يَداهُ تقاوم
وَتضمدُ الجراحَ النازفة.
عَلَى قارعةِ الطريقِ
تَركوهُ القتلة مُضرجاً بدمهِ الطهور
وَوَلوا هاربين مَذعُورين.
فِي المستشفى ،بَعدَ يوم أو أكثر يَفيقُ مِنْ المخدر
أَمُ مَي ماسكةً يديه
ببطءٍ يَفتحُ عينه،
يُحدّقُ بالنورِ
يَنظرُ للحضور
يَبتسمُ وَيفتحُ عينه عَلَى مَداها
– صوته هامساً
(أمُ مَي عينايّ ؛
ما أَسعدني بكِ
رفيقة عمري ودربي.
– سأشفى ؛ لَمْ أزلْ عندَ وَعدي
سنذهبُ إلى ارشاك
لنأخذ صورةً للذكرى أنا وأنت وزهراتنا فراشاتنا الأَربعة)
يَغمضُ عينيه.
فِي المستشفى بقيَّ ستة أيام
يُصارعُ الموتَ.
ليسجل التاريخ؛
ببنادقٍ مؤجُرةٍ طويتْ
مسيرةُ سبعةٍ وَعشرين عاماً
حافلةً بالعملِ الثورِي المُثابر
لوطنيٍّ شهمٍ غيور.
لَمْ يَكنْ (ستار) يَحلمُ بكنوزِ سُليمان
أَو بقصورِ كُسرى أَو الرَشيد هارون
كانَ يناضلُ مِنْ أَجلِ تأَمينِ سريرِ طفلِ
ينامُ تحتَ سقفٍ أمن،
وَفَلاحٍ يَجني حاصلَ ما تزرعُ يداه
وَعاملٍ يَحصلُ عَلَى أَجرِهِ قَبلَ أَنْ يَجفَ عرقهُ
وَمِنْ أَجلِ قوانين تَحمى كرامةَ المرأة.
أَمَنَ (ستار) بما يَحمل وَعَملَ بكلِّ عزيمتهِ
مِنْ أَجلِ إرساءِ قوانين العدل والمساواة
بَينَ الإنسانِ وأخيهِ الانسان …
لكن دَعني أَروِي لَكَ أَيُّها الرَّفِيق المقدام،أيُّها الرَفِيق الغائب جسداً، الحاضر فكراً ووجوداً
شيئاً عَنْ واقع العراق:
(لَمْ تَزلْ بِلادِنا تَغَطُ بِحًزنٍ عَمِيق،
تَأنُ مِنْ وَجَعِ المَوتِ
وَسَطوَةِ سياطِ الجَلادِين
وَفَسَادِ المُتَسلطين،
يَعمُ البِلادَ الجَهلُ وَالنَّهبُ وَالخَراب؛
المُستَقبَلُ فِي تِيه خَطير.)
فِي 28 مِنْ حزيران عام 1969
يومٌ قائظ بحرهِ الخانق
قصر النهاية يبث عسسه
مِنْ مَكان التَشيع حَتَّى المَقبرة
تَرصد وَتسجل:
(بتشيعٍ مهيب وَبدموعٍ غزار،
وَعويل جموع النساء
وارَى جثمانه الثرى
فِي مَقبرةِ الصابئة المندائيين فِي أبو غريب)
كانَ وَسيبقى قبرهُ رمزاً وَمزاراً
لعشاقِ الحريَّةِ وَالعدلِ وَالمساواة
مالمو 28 أيار 2019
هوامش وملاحظات تخص النص
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كتبتُ هذا النص الأدبي الموسوم ( سَتار الحَيدر ثائرٌ مِنْ كَحلاءِ ميسان) وفاءً للشهيد المقدام؛ وذلك بمناسبة احتفالية الذكرى الخمسين لاستشهاده، والتي تقام في مدينة (لوند/ السويد) يوم 29 /حزيران/ 2019 على قاعة polhemskolan, Trollebrgsvägen 2222 Lund
** ستار: هوَ الشَهيد (سَتارخضير صكر الحَيدر) مِنْ مواليدِ (1930) ناحية الكحلاء / محافظة ميسان – العمارةسابقاً – وهو بعمرِ(أربعة عشر عاماً) تَشكل وَعيه السِياسي، لينخرط بعدها بتنظيماتِ (الحزب الشيوعي العراقي)، بعدَ تخرجه مِنْ الثانوية عَملَ (مُعلم) فِي قرى ناحية (الكحلاء) لمدةِ عام وبعدها نُقل إِلى مدرسةِ ( الحاجب في أَبو غريب)، ليعود مجدداً إلى (العمارة) وَيلتحق فِي( مَعهد العالي للمعلمين فِي العمارة).
خلال فترة عَمله سُجن عدة مرات ولعدة سَنوات منها سَنة وَنِصف فِي (سِجن الكوت عام 1952) وَذلك أَثر مشاركته فِي انتفاضة عام (1952).
وَحكمَ عليه مرة أخرى عام (1954) ثلاث سنوات سِجن وأرسل إلى (سِجن بعقوبة). ونفيَّ مُبعداً سياسياً لمدة ستة أشهر في مدينة (بدرة) بَينَ عامي (1957- 1958).
خلال عمله الدؤوب المتواصل فِي الحزبِ تَقلد عدة مسؤوليات جسام وَفِي عدة مناطق مِنْ (العراق) مثل العاصمة (بغداد) والموصل وكركوك و السليمانية وأربيل، وجبال كردستان العراق؛ أنتخب عضو للجنة مركزية للحزب الشيوعي عام (1967) وَتَحمل مَسؤولية غاية بالخطورةِ والسريَّةِ مَسؤوليَّة تنظيم الخَط العسكري .
يوم 23/6/1969 تَعرض لمحاولةِ اغتيال قرب (الجامعة المستنصرية في بغداد ) وذلكَ بعدَ خروجه من لقاء حزبي، حيث نقل بعدَ تعرضه لعدةِ اطلاقاتٍ نارية في بطنهِ وَساقيهِ إلى مستشفى الطوارئ فِي شارع (الشيخ عمر/ بغداد) للعلاج، وفِي صباح يوم 28/6/1969 فارق الحياة في نفس المستشفى.
محمد : هوَ الشَهيد (محمد الخضري) مِنْ مَواليد الثلاثينيات فِي (ناحية الخضر/ محافظة الديوانية) خريج دار المعلمين فِي (بعقوبة) عُين مُعلم (عام 1953) ، عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، جرى اِختطافه فِي (بَغداد) بتاريخ (20 أذار 1970) فِي اليومِ التالي لاِختطافهِ وجد جثة هامدة على الطريق العام بِينَ (بَغداد وسامراء).
شاكر: هوَ الشَهيد(شاكر محمود البصري) : عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي؛ بتاريخ (11/11/ 1972) اغتيل دَهساً بسيارةِ نَوع (فوكس واكن) قرب (مستشفى اليرموك ببغداد).
–