هوامش على صفحات المظاهرات الاحتجاجية في جنوب ووسط العراق
عبدالغني علي يحيى
بالرغم من مرور نحو (10) أيام على اندلاع التظاهرات الاحتجاجية على رداءة الخدمات الكهربائية والمائية والى حد انعدامها في بعض المناطق والمدن في الجنوب والوسط من العراق وكذلك تفشي البطالة والفساد.. الخ الا انه لم يطلق اي من المصطلحات التقليدية والشائعة على تلك التظاهرات كأن تسمى: الانتفاضة، أو الثورة أو العصيان المدني أو الهبة الجماهيرية فالتمرد.. الخ من المصطلحات والتسميات. وما زال مصطلح التظاهرات الاحتجاجية يطلق عليها مع وصف المشاركين فيها بالمحتجين، فاطلاق التسميات والمصطلحات التقليدية عليها من قبيل ( الثورة) و ( الانتفاضة) قد يكون فيها احراج للحكومة العراقية، كون المصطلحات هذه تعبر عن الثورية والمقاومة التي مازال لها جاذبيتها لدى الاجيال (رغم تخطئة علم السياسة الحديث للثورات والانقلابات) . لهذا فأن الحكومة تفضل اطلاق تسميات على المحتجين مثل: المحتجين واحياناً المشاغبين والمخربين والمندسين. غير انه مع ذلك فان التظاهرات هذه تكاد تحمل نصمات نوعين من الاحداث التي شهدتها المنطقة على مر الاعوام الماضية والنوعان هما: ( الربيع العربي) الذي وقع في عدد من البلدان العربية و ( الثورة الاسلامية) في ايران عام 1979، لأن السكان في الوسط والجنوب هم من القومية العربية ومن ناحية اخرى هم من الشيعة لذا فان الربيع العربي و( الثورة الاسلامية) تركا بصماتهما عليها بدليل سعي المراجع الدينية الشيعية الى احتوائها والتدخل فيها والى حد تأييدها ومساندتها وهذا ما تجلى في خطبة رجل الدين البارز عبدالمهدي الكربلائي ممثل السيد السيستاني والمرجع الديني محمد جواد الخالصي، وكذلك السيد مقتدى الصدر الذي لم يكتفي باطلاق الاقوال المؤيدة انما زار البصرة والاجتماع بوجهائها، وسواء سحبت عليها تلك المصطلحات التي ذكرتها أم لم تسحب فان التظاهرات الحالية في الجنوب جزء من المصطلحات تلك بايجابيتها وسلبياتها، انها جزء من ( الربيع العربي) والانتفاضة الشعبانية 1991 السابقة عليه و بينهما الثورة الاسلامية في ايران واحداث سقوط النظام البعثي عام 2003.
من هذا الفهم لتظاهرات الشيعة في الجنوب والوسط. بمقدوري القول انه لن تكون لهذه المظاهرات تأثير ايجابي ملموس باتجاه انقاذ الناس من المحن التي يعيشونها، مثلما لم يكن ( الربيع العربي) مفيداً للعرب والذي أضر بمصالح العرب والقول نفسه بالنسبة للثورة الاسلامية في ايران التي تشعل الحرائق والفتن منذ عام 1979 والى الان في المنطقة والعالم ولن يكون حظ التظاهرات موضوع البحث من النجاح بافضل من الانتفاظة الشعبانية 1991 في الجنوب واذا كانت احداث الربيع العربي في معظمها عفوية. لكني في (تظاهرات الجنوب) انفق مع بعضهم في رد العفوية عنها ومنهم الكاتب (سجاد تقي كاظم) من أنه (بالسياسة لا يوجد صدف وهذا قانون لاريب فيه، وساذج من يعتقد غير ذلك) و هو في رده للعفوية لايستعبد القوى التي لها نفوذ اكبر في العراق وخاصة ايران) اذاً ان ايران هي المحرك والمنظم الاكبر لتظاهرات الجنوب والوسط من العراق، في حين غاب تشخيص المحرك الاساس ( للربيع العربي) والذي يعزز من رأي الكاتب هو قيام ايران بقطع الخطوط الاربعة للكهرباء عن العراق وحجبها قبل ذلك للمياه عن نهر الزاب الصغير لتعميق السخط اكثر لدى العراقيين وكيف ( ان التظاهرات لم تستهدف الشركات الايرانية يوماً) ويفهم من كلامه وكلام اخرين فيما بعد، ان ايران رداً منها على الولايات المتحدة التي منعت تصدير النفط الايراني في اطار عقوباتها على ايران، فان لسان حال طهران كما عبر عنه الكاتب (هو تمنعون نفطنا، تمتع النفط العراقي)!
الرئيس الامريكي دونالد ترامب كان بدوره سباقاً الى تبيان السبب من وراء مظاهرات الجنوب حين قال في قمة ( الناتو) : ( ايران تتألم ما دفعها لاتخاذ قرار مر وصعب بأن تشعل ثورة الجنوب بايقافها الكهرباء والماء وبالتالي قام الجمهور بهذا التحرك) نعم الحصار الامريكي الدولي على ايران دفعها الى تحريض الجنوب واشعال ثورة فيه لأيقاف تصدير النفط العراقي. وعند المحلل السياسي هيثم الهيتي: ( ان ايران تريد أن تشعل حريقاً في جنوب العراق لتوقف تصدير النفط العراقي): ولدي من الامثلة الكثير على تلاعب ايران بمقدرات العراق والنظر الى ابنائه وبالاخص الشيعة، النظرة الى ادوات طيعة وبيادق شطرنج تحركهم متى ما تشاء، واكتفي بسوق الامثلة تلك لأن الاكثار منها قد يوحي الاستهانة بقدرة القاريئ على التلقي وانامع القول: ( اللبيب من الاشارة يفهم ). ان مجرد القول ان ايران وراء ماحدث ويحدث في الجنوب ينال من عدالة قضية الجماهير المحتجة والعادالة. والذي لايشك فيه اثنان، ان ايران تستخدم هذه الجماهير دون رحمة او رافة وشفقة بها اذا علمنا انها منذ شهور واعوام لم تقطع الكهرباء عن الجنوب فحسب بل قطعت المياه ايضاً، انظر الى حبسها للماء عن نهر الزاب الصغير وارسالها لأطنان من المخدرات اليه لافساد ابنائه وتحويلهم الى حشاشين، كما ان زيادة المد الملحي تدخل من ايران الى العراق كما انها تقوم بسرقة النفط العراقي من الحقول النفطية المشتركة وغير المشتركة ايضاً وتأخذ نفط كركوك بسعر زهيد وليس الدور الايراني الجهنمي وحده يضعف وينال من عدالة قضية اهل الجنوب والوسط وانما امور اخرى ايضاً منها: تخطئة علم السياسة في العقود الاخيرة للثورات والانتفاضات والانقلابات العسكرية و ( الربيع العربي) وما يجري الان في الجنوب يدخل ضمن التخطئة هذه. وفوق هذا فان احداث الجنوب تستدعي منا الوقوف عندها واستخلاص الدروس والتجارب منها:
1- ان الجماهر في اقتحامها للمقار الحزبية التابعة للاحزاب الاسلامية الشيعية لم تميز بين الحكومة والاحزاب المؤتلفة فيها، وهي بهذا محقة فالحزب المشارك في الحكم ولو بشكل ضيق جداً، الا انه يتحمل مسؤولية وزر ما تفعله الحكومة ضد الشعب. ان عدم اليتميز بين الحكومة والحزب الحاكم أو الاحزاب المؤتلفة في الحكومة شيء صحيح وفي تظاهرات الجنوب، سجل على اعضاء احزاب قيامهم باطلاق النار على المواطنين وبالاخص على التظاهرات الليلية وهذا عين ما اقدم عليه رجال الامن في التظاهرات النهارية. ان جميع الاحزاب الشيعية تشارك في الحكم لذا فان مقرات جميعها تعرضت الى الحرق والاقتحام. وعلى صعيد متصل، ان مهاجمة جميع الاحزاب الاسلامية الشيعية،ان دل على شيء فانما يدل على رفض الجمهور لاحزاب الاسلام السياسي الشيعي وليس حال الاحزاب الاسلامية السنية بافضل من حال احزاب الاسلام السياسي الشيعي، وهنا ارى ان فصل الدين عن السياسة ضروري ومنع مزاولة اي حزب لنشاطه السياسي يستغل الدين وينطلق من الشريعة الاسلامية .
2- في مهاجمة المتظاهرين لدوائر الحكومة، ثبت ان الجماهير الغاضبة لاتعترف بالحكومة الحالية حكومة لها، مثلما لم تعترف بحكومة البعث ايضاً، ففي انتفاضة عام 1991 سواء في كردستان او الجنوب فان الجماهير هاجمت مقرات الحكومة العسكرية والمدنية وقامت بنهب محتوياتها واضرام النار فيها، وتكرر المشهد عند سقوط النظام العراقي السابق عام 2003. عليه اقول ان الحكومة العراقية وكذلك الحكومات التي سبقتها لاتمثل ولم تكن تمثل الشعب اطلاقاً. وترى الجماهير في هذه الحكومات حكومات احتلال استخدمها المسؤولون في تحقيق مصالحهم و اهدافهم الشخصية، لذا فان الحكومة في العراق كانت دوماً حكومة الحاكم لا المحكوم.
3- ان جميع الاحزاب الشيعية المشاركة في الحكم لم تبدي تعاطفاً مع محتجي الجنوب والوسط، ولم يظهر قائد لها يخطب في الجماهير انتصاراً لمطالبها العادلة. ولا فرق لدى هذه الجماهير بين حزب الدعوة الحكام وبين التيار الصدري الذي يعتبر نفسه معارضاً فلقد هوجمت مقرات التيار الصدري ايضاً وكذلك مقار عصائب اهل الحق غير المشاركة في الحكم.
4- هنالك مئات الامثلة على عدم التواصل بين الحكومة والشعب، ففي دوائر الدولة مثلاً لاتنجز معاملات المواطنين من قبل موظفي الحكومة الا بعد دفع الرشوة.
5- صحيح ان الحكومة مارست العنف ضد المحتجين، الا ان الممارسة هذه لم ترتقي الى مرتبة القوة المفرطة أو المميتة، وذلك لان المتظاهرين المحتجين يشكلون القاعدة الاجتماعية لنظام الحكم الشيعي القائم، فلو كانت هذه الاحتجاجات تنطلق في المدن السنية لكان الامر يختلف. في عهد رئيس الوزراء الاسبق الدكتور اياد علاوي رأينا كيف استخدم النظام العراقي القوة المفرطة والمميتة ضد المتظاهرين المحتجين في ( الفلوجة) السنية. واذا كان رئيس الوزراء العراقي وشخصيات شيعية مثل مقتدى الصدر قد قاموا بزيارة البصرة وتخصيص الترليونات من الدنانير لمساعدة البصريين والوعد بايجاد فرص عمل للعاطلين المحتجين ( 10 الاف درجة وظيفية)، فان مظاهرات السنة في الفلوجة والموصل والرمادي وكركوك وديالى لم تشهد زيارة اي مسؤول حكومي لها كما لم تشهد أي وعد بتحسين ظروف مواطنيها المعيشية. في المثنى اوقف الناشط الشيعي باسم خز على خشان وثارت بسبب ذلك العشائر الشيعية هناك فما كانت من الحكومة الا التدخل واطلاق سراح الخشان. وحدث حادث مماثل بحق شخصية شيعية في كربلاء ايضاً وسوي امره سريعاً، بالمقابل هناك الالاف من السنة المغيبين ( انظر الى حادثة الرزازة و صلاح الدين واختقفاء 500 شخص في قضاء الحضر، ووجود المئات من النشطاء السنة في السجون، ومع ذلك ليس هناك اي امل في اطلاق سراحهم أو الكشف عن مصيرهم. الموقف الطائفي لنظام الشيعي حيال السنة ينسحب على الكرد السنة ايضاً اضافة الى الاضطهاد العنصري بحقهم فالكرد شاركوا في الاستفتاء على استقلال كردستان يوم 25-9-2018 لكنهم لم يهاجموا مقار الحكومة ولا الاحزاب ولم يقطعوا الطرق المؤدية الى حقول النفط او المؤدية الى المحافظات ولم يقدموا على قتل رجال الامن.. الخ من الحوادث التي شهدتها تظاهرات الجنوب والوسط من العراق، لكنهم مع ذلك تعرضوا الى حملة عسكرية بربرية طائفية عنصرية شعواء يوم 16-10-2017 اسفرت عن سلب ونهب عشرات الدور في كركوك وطوخورماتو ناهيكم عن سجن وتعذيب العشرات منهم فتشريد نحو (200) الف شخص نزحوا الى السليمانية اربيل. وبلغ الظلم حد انتهاك الاعراض.
6- تظاهرات الجماهير في الجنوب كشفت عن تعميق المناطقية في العراق، اذ شوهدت شعارات في التظاهرات مكتوب عليها: نفط البصرة للبصرة على غرار (نفط العرب للعرب) ومطالبة البصريين باقلمة البصرة وضم ميسان وذيقار والمثنى الى اقليم البصرة مناطقية بدورها.
7- انعدام التواصل بين المكونات الاجتماعية العراقية: الشيعة، السنة، الكرد، اثبتته التظاهرات حين لم يستحب لأحتجاجات الشيعة المكونان الاجتماعيان الكردي والسني، اذ لم تنطلق سيما في مناطق السنة اية تظاهرات تضامنية مع اهل الجنوب، مثلما لم تندلع تظاهرات تضامنية للشيعة مع تظاهرات السنة التي اشرت اليها. في وقت سابق.
8- لم يكن لليسار العراقي وبالاخص الماركسي دور يذكر في التظاهرات الاحتجاجية في الجنوب والوسط بالرغم من انها في معظمها كانت ذات محتوى طبقي، فالمشاركون في التظاهرات كانوا وما زالوا من الجياع والمسحوقين. وهنا فان دور رحال الدين الشيعة في الدفاع عن مطالب المتظاهرين كان ملموسا وافضل بكثير من دور اليسار العراقي واليساريين العراقيين.