هناك مشهد كوميدرامي ذو مغزى ورمزية فى الفيلم السينمائى المصرى الشهير “سى عمر” والأنتج منذ حوالى 78 عاماً وكان من بطولة الفنان عراقي الأصل مصري الجنسية شامي الهوى عالمى الفن “نجيب الريحانى” ..
ويبدأ هذا المشهد عندما أرادت الفنانة “ميمى شكيب” والتى كانت تؤدى دور “زوجة مجهولة” لإبن أحد الأسر الثرية أن تثبت وتؤكد لأسرة زوجها “عمر بك الألفى” بأنها زوجته وأنها تعرف جيداً تفاصيل حياته حتى ولو كان بالكذب والتضليل ، وذلك بناءاً على نصيحة محاميها المُتلاعب بالقانون ..
فأخذت فى الحديث والإستفاضة عن قصص ربما يقبل ببعضها العقل فى ذاك الوقت ، أما البعض الآخر فلا يقبله أى عقل أو منطق مثل الذئاب ذات الألوان الحمراء والخضراء والصفراء ، وبسبب ضآلة فكر ووعى أفراد الأسرة صدقوها ، وخصوصاً بعد حدوث هزة وجدانية بداخلهم عندما علموا بأن إبنهم ما زال على قيد الحياة ، فلم يعد لديهم مساحة أو وقت للتفكير فى أى شئ آخر ..
ومن ضمن القصص الكاذبة والمُلفقة والتى روتها لأسرة زوجها هى قصة “الفيل الأبيض” والذى أطلقت عليه إسم “جمعة” ، فكثير من مشاهدي الفيلم فى الوقت الحالى بيعتبروا هذا المشهد مثاراً للضحك والسخرية فقط ، وخصوصاً عندما أخبرت أسرة زوجها بأن “الفيل الأبيض” كان بيلعب الكوتشينة بزلومته ، فإعتبروه مشهد كوميدى فانتازى ليس أكثر ، بالرغم من أن هذا المشهد العبقرى والذى كتبه “بديع خيرى” كان فى زمنه ذو مغزى ورمزية ..
فأصل مصطلح “الفيل الأبيض” يرجع إلى منطقة شرق آسيا حيث عاشت قطعان من الفيلة الآسيوية قرب المستوطنات البشرية لمئات السنين ، وأعتبرت كثير من الممالك القديمة في شرق آسيا الفيلة البيضاء “حيوانات مُقدسة” وفرضت قوانين دينية وأمنية لحمايتها ، ولم يكن يقتنيها سوى الأثرياء ، لأن إمتلاك فيل أبيض كان بيعتبرمصدر للاحترام داخل المملكة ، وكان يتعين على ملاكها إنفاق الكثير من المال على رعايتها خاصة وأنها تحتاج كميات كبيرة من الغذاء وأفراد للخدمة ، لهذا كان إمتلاك “فيل أبيض” بيعتبر “هبة” و”ابتلاء” في آن واحد ، فكان “هبة للأغنياء” بسبب تميزهم على الفقراء بإمتلاكها ، و”إبتلاء على الفقراء” بسبب تكاليف رعايتها الباهظة والتى كان يتم جباياتها منهم بطرق غير إنسانية ، وهذا بخلاف إستغلال الفقراء بنظام العبودية لخدمة هذه الأفيال بحجة قداستها !! ..
وفى أواخر القرن التاسع عشر ظهر فى أوروبا وبعدها فى مصر مصطلح جديد إسمه “مشروع الفيل الأبيض” وكان هذا المصطلح يشير إلى المشاريع الفاشلة والغير مُكتملة والتى يتم إستخدامها للنصب على السذج وإيهامهم بعظمة الإنجازات لإحداث هزة فكرية وشعورية بداخلهم للتغاضى عن القصور والفشل وعدم الشعور أو الإحساس بهما ، وكان “المواطن المصرى” فى النصف الأول من القرن العشرين عندما يستشعر بأن من أمامه ينصب عليه فيردد العبارة الشهيرة باللهجة المصرية الدارجة : “أصل أنا رابط الفيل الأبيض بره” !! ..
وما حدث ويحدث فى “إحدى المدن الساحلية المصرية” هو مثال حى وواقعى لفكرة “مشروع الفيل الأبيض” بل قد تعداها حالياً لمستويات أكثر سخرية بنكهة “التراجيديا السوداء” والتى تستوجب الإدانة الإنسانية والقانونية والتاريخية من كل محبى البيئة والجمال والمهتمين بالحفاظ على التاريخ والهوية ..
فهذه المدينة قد قام ببنائها الفرنسيين فى أواخر القرن التاسع عشر وأشرف على تجميلها وتنسيقها والحفاظ على جمالها ورونقها “الإحتلال الإنجليز” حتى منتصف القرن العشرين ليتركوها كعروس عذراء فى أبهى وأجمل صورها وحللها ، وإستمرت تحتفظ بعذريتها وبكثير من بقايا جمالها حتى حقبة السبعينات من القرن العشرين برغم ظهور بعض التجاعيد على وجهها بسبب الحروب التى واجهتها صامدة ، وبسبب الهجرات العشوائية الغير مدروسة ..
وبدءاً من فترة أواخر السبعينات (عصر الإنفتاح) بدأت بعض أصابع كارهي روعة الجمال وقداسة العذرية من ممتهني قوادة ودعارة القبح فى العبث بها وبجمالها وعذريتها حتى أصبحت محجاً لكل راغبى المتعة من الربح الحرام والتلاعب بالقوانين ، حتى ولو كان هذا على حساب تدمير أيقونة من أيقونات الجمال والتى لن يتكرر وجودها مرة أخرى ..
وقد وصل بها الحال اليوم إلى أن تصبح مدينة للقبح والرعب واللاإنسانية بمشاهدها العشوائية المُقززة والمُرعبة بعدما فقدت كامل عذريتها وكل جمالها ، ومن ضمن هذه المشاهد على سبيل المثال لا الحصر والتى أصبح يشتكى منها القاصى والدانى : رائحة مياه الصرف الصحى والتى أصبحت مشهداً ورائحةً مُعتادة فى غالبية شوارعها حتى فى شوارعها الرئيسية والهامة ، ومشهد القمامة المتناثرة فى كل مكان ، ومشهد البلطجية الذين أصبحوا يحتلوا مراكز ومناصب مرموقة فى شوارعها وأزقتها ، ومشهد الكلاب البوليسية المسعورة الغير مُرخصة والتى أصبحت تنهش فى أجساد المواطنين وتروع الأطفال بصورة يومية ، ومشهد الأبراج السكنية الغير مطابقة للمواصفات الفنية أو الأخلاقية ، ومشهد العشوائيات وإحتلال الأرصفة بل وإحتلال الشوارع أيضاً من خلال المحلات والأكشاك الغير مرخصة ..
بالإضافة إلى مشاهد محاولات التجميل الفاشلة والعبثية من المسؤولين والتى تعمدت طمس ما تبقى من تاريخ وهوية هذه المدينة بألوان قبيحة وغير لائقة وبأساليب بدائية ، وهذا مع صمت المسؤولين وسلبيتهم تجاه شكاوى المواطنين العديدة ضد الجرائم البيئية والأمنية والإجتماعية السابق ذكرها والتى هى فى الأصل لا تحتاج لشكاوى لأنها واضحة للعيان !! ..
وفى وسط هذا المشهد العبثى واللاإنسانى أصبح خروج المواطن من منزله عبارة عن مُغامرة غير مأمونة الجوانب نفسياً وجسدياً وروحياً !! ..
وأحدث المشاهد العبثية الساخرة فى هذه المدينة البائسة سيئة الحظ هو ظهور جديد لـ”زلومة الفيل الأبيض” ليعلن “الفيل الأبيض” عن حضوره ليس للعب الكوتشينة ولكن للعب “كرة القدم” تحت مسمى “المهرجان الكروى للفيل الأبيض” وأقصد “مباريات كأس أفريقيا” ، مع العلم بأن فكرة “مشروع الفيل الأبيض” قد توقف إستخدامها فى غالبية “دول أفريقيا السوداء” منذ زمن بعيد ، وهذا بعدما وجدوا طريقهم الصحيح إلى النجاح الحقيقى والواقعى وليس “النجاح أبو زلومة” !! ..
عن مدينتى ومعشوقتى الجميلة “الإسماعيلية” والتى أختطفها “الفيل الأبيض” بزلومته كنت أتحدث !! .. وللحديث بقية ..