تنحسر الخلافات بين المثقفين المدركين لقدرات السلطات الشمولية، حول العديد من القضايا، منها: تفهمهم للتغيرات المتضاربة في مواقف المناضلين وتذبذب آرائهم قبل السجن وبعده، فقضية نزلاء سجون السلطات الشمولية من المعارضة، واقع معروف لدى العديد من رجالات السياسة وعلماء النفس والاجتماع والأطباء، لذلك فالكثير من الشخصيات المناضلة الوطنية بعد خروجها عانت من عاهات نفسية تخطت لدى البعض الآلام الجسدية، وكثيرا من الأحزاب القديرة أبعدت منضاليها من العمل السياسي لفترات طويلة، فسوية البعض منهم بعد أطلاق سراحهم، تميل إلى عدم الاتزان في آرائها ومواقفها وتعاملها مع المجتمع المحاط غالباً، فتكون مشوشة وغير قادرة على التركيز، وكثيرا ما تناقض ذاتها، تهيمن عليها نزعة داخلية، وحذر من المحاط، وتحدد الكثير من علاقاتها مع الأخرين بل وكثيرا ما تمتد إلى المقربين، فكراً، أو حتى من العائلة، ومن احد الأمثلة (كمال اللبواني) المتقلب تصريحاته وحالاته النفسية مع الطقس أحيانا، ومع نوعية الأقنية التي يستمع إليها، فتتغير ليس فقط تصريحاته بل ومواقفه الإنسانية والسياسية، وهي حالة مرضية نفسية معروفة، فالعديد من خريجي سجون سلطة البعث والأسدين، وبينهم البعض من قادة المعارضة السورية يعانونها بشدة.
فالإنسان الخارج من أقبية تلك السجون يعتبر جثة حية، أعدم في أعماقه ضمن الزنزانات، الروح بأبعادها، وشوه فكراً، ومزقت الشخصية فيه. الأساليب المستخدمة للوصول إلى هذه الغاية مع السياسيين أو المثقفين الجديرين من المعارضة، علمية ودقيقة، أجريت عليها أبحاث، درست الأساليب على مدى قرون، وطورت مع التكنلوجيا العصرية، طبقت على النزلاء بإشكال مختلفة، حسب العصور وبشاعة السلطات الشمولية، درست النتائج حتى بعد إطلاق سراحهم، فكثيرا ما يعيدون هؤلاء المناضلين إلى الحاضنة ثانية، لغاية مراجعة النتائج، أو إكمال عملية تهديم الشخصية والفكر، أو فيما إذا كان هدمهم للشخص قد بلغت الهدف أم لا.
زوايا التعذيب والعتم والقهر والحرمان، في السجون التي جهزتها السلطة السورية على مدى العقود الماضية، تعد من إحدى أعلى المدارس تطوراً في أساليب قتل الفرد فكراً وتمزيق الشخصية في منطقتنا، كما وأن دوائر الأمن السياسي المتنوعة والعديدة تعتبر معاهد متقدمة في نفس المجالات مثلما هي سجونها مراكز لهدم الإنسان جسداً، والخارج منها عادة يكون معلولاً حاملا العديد من الأمراض النفسية والجسدية.
تزداد هذه على الشخصيات المعارضة الأكثر خطراً على السلطة، لهذا كانت على المعارضة السورية والقوى المنافسة للسلطة دراسة هذه النقطة بدقة، والانتباه إلى تصريحات المناضلين الذين قضوا سنوات في سجون النظام، والأخذ بعين الاعتبار التناقضات السياسية والفكرية التي كثيرا ما تظهر بين فترة وأخرى، وتغيير هذه الشخصيات المعارضة لمواقفها حول قضية معينة، فهؤلاء المناضلون، اصبحوا في كثيره دون القدرة على قيادة المعارضة أو التحدث باسم الثورة، فتصريحاتهم الشاذة لها خلفياتها، فيجب عدم التشديد عليها، والأمثلة في واقع المعارضة السورية كثيرة، منها مواقف الدكتور (كمال اللبواني) وأراءه حول الكرد وقضيتهم القومية أثناء ثورة 2004 ومواقفه الحاضرة والتي يدرجها بذاته في خانة التطرف، وهو المثقف الذي يدرك أكثر من الجميع معاني التطرف في الثورات، وما تعنيه بالنسبة للثورة السورية الحالية، ولا ننسى مواقف السيد هيثم المالح المتضاربة منذ بداية الثورة وحتى اليوم، حول القضايا القومية والمذهبية، وغيرها الغارقة في التناقض والتي تبين على أن السلطة أتت على هدم جزء كبير من هذه الشخصية المناضلة والوطنية فكراً، وقد ظهرت مثلها في شخصية السيد رياض الترك، تلك الشخصية الأممية المعروفة، فتناقضاته مع الذات ما بين الفترتين، كانت يجب أن ينتبه إليها أصدقائه الذين قضوا عهود من النضال معاً. وفي الحقيقة هذه الحالات درست كثيرا في الماضي، لكنها وللأسف لم تتمكن المعارضة السورية من معالجتها، ولم تؤخذ بعين الاعتبار، فالعديد من الشخصيات السورية الوطنية والموجودة في المعارضة الأن تحتاج إلى معالجات عميقة وطويلة، ويجب أن لا تكون في مراكز التصريحات والقرارات الرئيسة، كما ويجب على الأطراف الأخرى من المعارضة مثل القوى الكردية الانتباه إلى هذه الحالة، وعدم الانجراف إلى المواقف المتشددة عند حصول موقف عنصري ما من شخصية كانت معروفة في ماضيها بليبراليتها ووطنيتها و فكرها الحضاري، مثل مواقف السيد كمال اللبواني المتأخرة مثالاً.
الانتقال من الثقافة الليبرالية الوطنية، إلى التطرف القومي أو الديني، تثبت ما نوهنا إليه، وقد بدى واضحا هذا من الرسالة التي وجهها السيد كمال اللبواني إلى معارضة الداخل حول تمرير الائتلاف للورقة الكردية، وعملية الانضمام، والتي نحن لا نبين هنا راينا في عملية الانضمام أو المواد المطروحة للنقاش بينهم، بل نأتي إلى ما ينوه إليه من نقاط وأبعاد ورؤيته المشوشة للمستقبل، والذات المتناقضة في الرسالة، ولولا اعتمادنا على خلفية المناضل وسنوات السجن الرهيبة لكانت الرسالة مدعاة للحيرة، لكنها بهذه السوية مدعاة للشفقة ليست على مفاهيمه، والتي نستمدها من مواقفه السابقة والمعروفة، والتبرير لمثل التغيير الفكري والثقافي للدكتور، سيكون مجال نقاش ومحاورة ليس حاضرا بل بعد الانتهاء من مخلفات الدمار الذي أحدثته السلطة الشمولية في هذه الشخصية الوطنية المعروفة.
تحتوي الرسالة على نقاط عديدة جديرة بالتمعن، وخاصة المطلق في صياغتها، وهو المعارض الوطني، والليبرالي بمفاهيمه مع الشرائح السورية وبينها الشعب الكردي، ومواقفه من معظم قضاياهم، معروفة، مع ذلك وتبقى مطلقه في تحديد المتسلقين والانتهازيين محيرة، علماً إن هذه الصفة حالة نسبية في واقع الثورة وبين المعارضة، وتختلف حسب وجهات النظر، وإن كان يتقصد الكرد فهم أبعد التيارات المعارضة تسلقاً أو انتهازية، للواقع الحاضر، وهذه تملي عليهم ليس فقط ثقافتهم القومية بل واقعهم المعاش على مدى نصف قرن مع سلطة الأسد – البعثية الشمولية، ولا شك يعلم أن الكرد هم من القوى المعارضة التي تمثل الشرعية، والتي تختلف مع التيارات الدينية والعروبية المتشددة ، وما كانت عليه الأحزاب الكردية من مهادنة لم تكن تعكس حقيقة الواقع الكردي المعارض دائماً، مع وجود اختلاف أن الكرد كانوا تحت مراقبة السلطة واتهاماتها الوطنية والقومية الدائمة، كشعب بكليته وليس كأفراد من المعارضة أو حزب معارض، ودلالة هذا التشخيص المتناقض من الدكتور دليل على تفاعلاته النفسية، نتيجة السجن، ويجب أن لا تجرف بالقوى الكردية أو المثقفين الكرد وأقلامهم إلى معاداته، فهذه المواقف لا تخدم الوطن القادم ولا الشعب السوري، وهي في الواقع لا تمثل البنية الفكرية التي من أجلها سجن السيد كمال اللبواني سنوات في أقبية زنزانات السلطة.
التطرف حالة شاذة منافية لكل القيم، والثورات تظهر، عندما يبلغ التطرف أبعاد مؤذية، ومنها تطرف السلطة الشمولية في طغيانها، وهي لا تختلف عن التطرف في المعارضة، وخاصة المعارضة المسلحة، فهي والسلطة وجهان لثقافتين متوازيتين على طرفي نقيض، ومن الطبيعي للدكتور كمال اللبواني أن يلقي بذاته في خضم المعارضة المتطرفة، القومية والدينية معاً، ويشدد بقوة على نقطتين عنصريتين لبناء الوطن القادم عليه، العروبة والمذهب السني، ولا داعي لتذكيره بمفاهيمه وكتاباته السابقة، فهي أصبحت من ماض كان مشرفاً، قضت عليها سنوات السجن، ولا نستطيع التأكيد على قادمه الذي قد ينجرف إلى معارضة النظام للنظام أو إلى النظام نفسه، فهو الضحية، ولما لا ينجرف إلى جانب هذا أو ذاك. فتبريره المرافق بعرض أنواع المعارضة الأخرى، لا تمثل حقيقة الثورة، فالثورة في كليتها ضد هذه المعارضات الانتهازية والمتطرفة ولا شك إنها ظهرت لإسقاط النظام بكليته، من السلطة إلى المفاهيم والثقافة المتطرفة في الوطن، ومنطق إلغاء الأخر، والتعصب لنسيج سوري معين دون الأخر، تطرف مشوه، وهي لا تعكس البنية الفكرية لدى السيد اللبواني، التي عرف عنه في السنوات السابقة للثورة أو بالأحرى قبل سنوات السجن، فلا شك مدرسة زوايا الزنزانات بلغت الغاية التي أرادتها السلطة الشمولية، وتمكنت من التأثير على مناضل معروف على الساحة السورية بوطنيته، فلا عتب لي على مواقف الدكتور، لأنها لا تمثل حقيقته، وهي سوف لن تمثل وجهة نظر المعارضة الوطنية الحقيقية، والمفاهيم التي ظهرت من أجلها الثورة.
عندما تنتصر العدالة، فإن محاكمة النظام الأسدي سيكون ليس فقط على ما قامت به من المجازر التي تعدت حدود قدرات تحمل الإنسان، أو بتدميره للبنية التحتية للوطن وتهجير وتشريد الشعب، بل سيحاكم على ما فعلته بالشرائح والشخصيات الوطنية المناضلة في زنزاناتها وأخرجتهم جثث حية، تائهة فكريا ومضطربة شخصيا، متناقضة مع الذات ومع الماضي المشرف، الذين حملهم السلطة الشمولية العديد من الأمراض النفسية والجسدية. فالمناضلين الوطنيين والمفكرين أمثال الدكتور كمال اللبواني أو السيد هيثم المالح، وغيرهما من الشخصيات الوطنية الموجودة في المعارضة حالياً، يبقون محل تقدير واعتزاز لنا ولكل قوى المعارضة، وتصريحاتهم لن تعكس رأي المعارضة ولا الثورة حتماً، حتى وإن مالوا إلى جانب السلطة فهم وطنيون بامتياز لكونهم ضحايا، وجثث حية بيننا.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
14/11/2013م