ما ذكرناه حقيقة حتى اللحظة، نقولها ليس لجلد الذات، أو كنقد يراد منه الإثارة، فما نقدم عليه اليوم من الأعمال تثبت المقولة. عفرين تنهب وتدمر، وشعبنا هناك يشرد ويهجر وبتخطيط، الجزيرة تحرق وتدمر بطرق متعددة، لتهجير البقية الباقية من الشعب الكردي، وبالمقابل نستمر في طعن بعضنا.
فرغم هذه الجرائم، وحيث المستهدف هو الشعب الكردي، لا نزال نعمل بأساليب نضعف بها طاقات بعضنا البعض وندمر ما تبقى من إمكانياتنا الذاتية المأمولة أن تعيد لمنطقتنا هويتها، ونقتل الحكمة في قراراتنا والتي بدونها لا يمكن تغيير الجدلية المذكورة، كما ولم نستخدم حتى اللحظة منطق نضالي يتلاءم والعصر، لإنقاذ الذات من المستنقع التاريخي، ونادراً ما حاولنا الانتقال من التبعية إلى القيادة، على الأقل قيادة الذات، فلم نرفض يوما الإملاءات الخارجية، أو التبعية للأخرين، أو على الأقل عرض شروط مقابل ما نقدمه للقوى الكبرى أو الإقليمية من خدمات، وهنا ومن السذاجة تبرير ما نقوم به تحت منطق التكتيك أو مسايرة الظروف.
نحن في مرحلة تكاد أن تكون من أكثرها ملائمة، لأن تكون منابع قرارتنا ذاتية، يتشارك فيها معظم الأطراف الكردية، حتى ولو كانت متعارضة أو غير متناسقة بين بعضها، وأن تعقد اجتماعات موسعة لتجري فيها حوارات وسجالات حول تقربنا من القضايا التي تهمنا، كعلاقاتنا مع القوى الإقليمية والدولية أو بالأحرى استخدامهم لنا، وكيفية وضع نهاية لتبعيتنا للحلف الشيعي أو لتركيا أو للمعارضة السورية، وننهي مسيرة قرون من الإمة التابعين للموالي، فالإمكانيات الذاتية كافية (لو عرفنا كيف نستغلها) لنكون طرف ثالث يهتدى بنا أو يطلب مراضاتنا.
لا شك، تنقلنا ما بين روسيا وأمريكا تماشيا مع الظروف، ولكن دون أن نتجرأ في عرض بعض شروطنا على الجهتين. واليوم أسلوب حركتنا السياسية في معالجة العرض الفرنسي، والتي تصاعدت فيها الاتهامات والشروط المسبقة، تجرنا إلى إضافة خطأ أخر إلى أخطاءنا السابقة. وطرق تنفيذنا لما ملي علينا من برامج إدارية دون دراسة منطقية للمستقبل، تنقلنا من النظام الفيدرالي إلى ضبابية عرضها في المجالس، والتي تنازلت عنها أطراف من الحركة السياسية، إلى سوية الإدارة الذاتية، وتم الخلط بين الطروحات والمطالب القومية للكرد، والتي بعضها تدرج في خانة الطوباوية. وحتى اللحظة لا نعرف كيفية حماية المكتسبات المقدمة لنا أو التي حصلنا عليها، والتي جعلها البعض ممتلكات حزبية، دون الشعب، وكل ذلك بسبب أساليبنا في معالجة ضعف العامل الذاتي، ودون الانتباه إلى أن قوة أية جهة بمفردها من الحراك لا تعني ولا تعكس قوة الشعب.
فالتمعن في مسيرة التاريخ الكردي، ودراسة تجاربنا وتجارب الشعوب المحيطة بنا، نرى أن معظم الإشكاليات التي نعانيها، بدءاً من ضياع الخدمات التي قدمناها للبشرية دون مقابل، إلى بقائنا على حافة التاريخ كشعب بلا وطن، ليست في الإسلام كما تم ويتم تداوله بين شريحة واسعة من مثقفينا، ولا في الديانات التي تخلى عنها الكرد أو اعتنقتها، ولا في العلمانية والإيديولوجيات التي سادت في مناطقنا ولبسناها بلا مقاييس، بل في الذات المتضاربة، فلم نكن على مقدرة ثقافية ووعي سياسي لنكون سادة الثقافتين أو المفهومين وليس خدمهما أو تابعين لهما، ولم نبحث فيهما كما يجب لتشذيبهما أو تسخيرهما لخدمة أمتنا، فكما نعلم أن الأديان والإيديولوجيات نزلت أو ظهرت لتخدم الشعوب لا لإذلالهم، ولم ندرك هذه الجدلية، لذلك ظلت أفكارنا مرعوبة من الحكمة التي أستخدمها الأخرون، وبدل الاستفادة من أساليبهم نبذناها بلا وعي.
واستمرينا في إعادة تجاربنا الماضية بأساليبها الفاشلة، وفي رؤيتنا الضبابية للقضايا السياسية وارتباطاتها بالدين والعلمانية، وبالتالي ظلت قدراتنا الذاتية مشتتة ما بين عبادة الدين وأولياءه، وخدمة الإيديولوجيات العلمانية وأصحابها. وبقينا نتعامل مع قضايانا القومية من منطق الضعفاء، وبحثنا ولا نزال نبحث عن أسباب فشلنا في الإسلام، والشيوعية، والوطنية الطوباوية، على سبيل المثال.
فكلما تصيبنا نكبة أو نخسر مسيرة، ننقب عن مصادر خارجية لنلومهم، ونبرء الذات. فكما ذكرنا، فعلناها مع معتقداتنا، وألقينا بتبعاتها على الديانة الإسلامية حصراً (هنا أعزل رأي في الأديان السماوية، مثلما أجرم السلطات الشمولية النابعة من الغزوات) ولم يتناهى إلى مداركنا استعمال أساليب القوي في البحث عن نقاط الخلل لفشلنا، وفي المرات التي تمت كانت أكثر من بدائية، ونادرا ما راجعنا ذاتنا، لتقييمها وتحليلها وتصحيحها قبل إعادة التجربة، ولذلك تتالت ثوراتنا الكردية (رغم الروح المتفانية في القومية والوطنية) على نفس النمط، وبنفس الوتيرة، وعلى النهج الخاطئ ذاته، وبالتالي كانت النتائج كما عهدناها، وفي جلها عرف الأعداء ما نحن قادمون عليه منذ البداية، فتربصوا بنا وبأحكم الطرق، وللأسف لا زلنا نعيد الماضي بمعظم تجلياته المؤلمة، والأعداء يجددون أساليب تعاملهم معنا بطرق أحدث ودون تغيير للغاية.
لا زلنا نطبل على الوطنية، وبالمنهجية التي يريدها الأعداء والمتلائمة وغاياتهم، في الوقت الذي تجاوزت فيها العلاقات الدولية الجارية هذا الشعار الفضفاض، فنحن والشعوب المتعايشة في المنطقة تخطينا مرحلة الوطنية الوهمية، والتي كانت منذ الخمسينات وحتى السنوات الماضية نجرم على رفع هذا الشعار، والحركة الكردية تتذكر يوم تم سجن مجموعة من الطلبة الكرد في إحدى ثانويات قامشلو على خلفية شعار (الأخوة العربية الكردية) المنطق الذي كان يسود فيه مبدأ السيد والموالي، رغم ذلك لا نزال لا ننتبه أن البعد الحضاري تجاوز هذا الشعار وبهذا المنطق، ويتطلب التعايش مع الأبعاد السياسية المتطورة، والأكثر صدقا مع الذات والأخر، كالفيدرالية أو حتى الكونفدرالية في الإدارات، الأسس السياسية التي ينفر منها سادة الوطنية المزعومة، مثلما كانوا ينفرون من مبدأ الوطنية بين الكرد والعرب، والتي كثيرا ما خلفت للحركة الكردية مصائب، أبسطها السجن.
تحركنا في نضالنا القومي في حركة دائرية، وعلى مدى القرن الماضي، عدنا مرارا إلى نقطة البداية التي ننطلق منها بعد كل نكسة، ولم نبحث عن حيثيات عدم قدرتنا على إيجاد درب أخر، ولم ننقب عن اللحمة بين القومية الكردية والدين، وبالتحديد الإسلام السياسي، بأسلوب علمي وحكمة، مثلما فعلها الفرس والترك، والدول العربية المتعددة، وقد فشلنا في هذا البعد حتى في إطار دياناتنا القديمة كالأزداهية (الإيزيدية حاليا أو الداسنية) والتي ظلت مغلقة على ذاتها، باطنية ترفض الكردي الأخر، أو الذين خرجوا من صلبها، إلى أن أصبحت الأن تعرف في حيز ما خارج النطاق الكردي، تاريخيا وأنثروبولوجيا، ومنبتا لغويا، إلى درجة أن شريحة من ديانتا العريقة التي كانت يوما ما تسود قسم واسع من ديمغرافية وجغرافية كردستان، تنفي حتى تسمية اللغة المبنية عليها ركائز الديانة باللغة الكردية، ولم نعالج هذه الإشكالية يوما ما بشكل منطقي على مستوى الأمة الكردية...
يتبع…
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
17/6/2019م