|
قال الفنان العراقي الراحل رضا علي ، وهو على فراش الموت بعد ان سأله المحاور : وماذا تقول الان ؟ اجاب : أقول “أدير العين
ما عندي حبايب ” !
الرموز صارت اشباحاً
قد يثير الاستغراب مثل هذا ” العنوان ” الذي يأتي دلالة تشير الى حصيلة لحظة تأمل بين رؤيتين متباينتين في الثقافة العربية المعاصرة .. يمكنني ان اسجلها عن رضا وقناعة لما حصل في الثقافة العربية التي عاشت مؤخرا انتكاسات مريرة ، بل وانهزمت اكثر من مرة على امتداد القرن العشرين .. لعلّ من أبرز الامثلة على انهزاميتها وهشاشتها اليوم تتمثل بانعدام قوتها المعنوية وضعف شخوصها بطغيان الاشباه على الحياة ، وما حاق بالنخب المثقفة والرموز المبدعة من تدمير ، مع اختفاء او رحيل الرموز وبروز الاشباح ، وتكاثر المرتزقة من مثقفي السلطات ، وطغيان الاعلاميات الهشة .. لقد تغير المثقف العربي مع تقلباته اثر مخاض من الازمات الصعبة ، واختفى المثقف الحقيقي والعضوي والملتزم بقضايا الواقع عندما ساء هذا الواقع واصابه الدمار سياسيا واجتماعيا ، فكان ان اندحرت الثقافة التي لم تستطع التعبير عن ضرورات الحياة العربية .
الرموز العربية
ان مصر – بشكل خاص – تحب ان تطلق الالقاب وصفات التعظيم على رموزها على عكس ما يجري في العراق من اشعال حرب ضروس ضد كل المبدعين من ابنائه على تأسيس كيانه السياسي عام 1921 .. مصر سمّت محمود سامي البارودي بـ ” شاعر السيف والقلم ” والبست احمد شوقي ثوب امارة الشعراء واطلقت على على حافظ ابراهيم لقب شاعر النيل ، وسمي سيد درويش بفنان الشعب ، وغدا خليل مطران فيها شاعر القطرين ، وسمي عبد المحسن الكاظمي بشاعر العرب ، واطلقت على طه حسين صفة عميد الادب العربي ، واطلق على الزيات صاحب الرسالة ، وعلى مارون عبود بـ ” شيخ النقاد العرب ” ، وعلى محمد حسنين هيكل لقب الاستاذ ، وعلى فريد شوقي وحش الشاشة وعلى فاتن حمامة سيدة الشاشة العربية وعلى ام كلثوم كوكب الشرق سيدة الطرب العربي وعلى احمد رامي بـ ” شاعر الشباب ” وعلى محمد عبد الوهاب موسيقار الاجيال وعبد الحليم حافظ العندليب الاسمر وغدا عادل امام هو الزعيم ، وفيروز سفيرة النجوم وصباح شحرورة الوادي ورشدي اباظه هو ” الدونجوان” وسعاد حسني هي السيندريلا كما عرف العالم العربي ، وعلى علي محمود طه بـ ” الملاح التائه ” وعلى محمد سليمان الاحمد بـ “بدوي الجبل” وبشارة الخوري ب”الأخطل الصغير” وابو القاسم الشابي بـ ” شاعر الخضراء ” وعلى أمين نخلة بـ ” شاعر زحلة ” ، ، وعلى رشيد سليم الخوري بـ “الشاعر القروي” و”شاعر العروبة” ، وعائشة عبد الرحمن بـ ” بنت الشاطئ ” ، ونزار قباني بـ ” شاعر المرأة ” وغير ذلك كثير ..
العراقيون لا يهتمون برموزهم
اما في العراق ، فالرموز فيه ، أشباح تهاجر ، أو تفنى ببطء شديد ، أو تقتل ، أو تعاني الامرّين .. ولا يلتفت اليها أحد ، فلا القاب ، ولا تشجيع ، ولا تقدير كما في مصر او لبنان أو أي مكان عربي آخر مثلا .. الزهاوي أسماه المصريون بالشاعر الفيلسوف ، ونازك الملائكة سماها العقاد بالخنساء الجديدة ، وأسميتها بـ ” عاشقة الليل ” ، وعبد المحسن الكاظمي الشارد من العراقيين سماه المصريون بـ ” شاعر العرب ” ، وكان نوري باشا السعيد يطلق على الفنانة سليمة مراد بسليمة باشا .. واعتنى الاخرون بكاظم الساهر واسموه بـ “القيصر ” ، وقد صنع نفسه بنفسه عربياً .. وهناك غيرهم من كبار المثقفين العراقيين المنسيين الذين رحلوا في مهاجرهم ، ولم يذكرهم أحد اليوم : الوزير الشهير فاضل الجمالي ، والمؤرخ مجيد خدوري ، والمؤرخ عبد العزيز الدوري ، والعالم عبد الجبار عبد الله ، والمحقق صفاء خلوصي ، والمؤرخ وديع جويده ، والفنان فلفل كرجي ، والمعمارية زها حديد ، والمستشرقة نبيهة عبود ، وخبير التعليم التركي احسان دوغرامجي ، والموسيقار فريد الله ويردي ، والفقيه عبد الكريم زيدان ، والدبلوماسي نجدة فتحي صفوت والتشكيلي شاكر آل سعيد والنحات محمد غني حكمت وغيرهم كثير .
أسماء لامعة
أما الاحياء فهم كثر ايضا ، ومنهم العالم الجيولوجي سهل السنوي ، وآرا درزي وزير الصحة البريطاني ، وخبير النفط فاضل الجلبي ، والاقتصادي المعروف خير الدين حسيب ( الذي أطلق عليه لقب شاخت العراق ) ، والمعماري رفعت الجادرجي ، وعالمة الآثار لمياء الكيلاني ، وعالم الذرة جعفر ضياء جعفر ، والاعلامي المخضرم ابراهيم الزبيدي ، والخبير الاقتصادي وليد خدوري ، والمعلّق الرياضي الشهير مؤيد البدري ، وعالم الاجتماع السياسي طارق اسماعيل ، وخبير الوثائق مؤيد الونداوي ، والشاعر سعدي يوسف ( الذي انعكست مواقفه في الضد منه ) ، والموسيقار نصير شمّة ، وخبير القانون الدولي رياض القيسي ، والموسيقار احمد الجوادي ، وقارئ المقام حسين الاعظمي ، والنحات احمد البحراني ، والفنان الشهير الهام المدفعي ، والشاعرة لميعة عباس عماره ، والتشكيلية وداد الاورفلي ، والفنان الكوميدي حمودي الحارثي ، والفنانات : ناهدة الرماح وغزوة الخالدي وسيتا هاكوبيان وغيرهم كثير .
ولما كان قد اطلق على الجواهري بشاعر الجمهورية ، كان اللقب الشائع عربياً عنه بشاعر العرب الاكبر بعد أن وقف له طه حسين في ألفية المعري وحياه ، لكن الجواهري مات بعيداً عن العراق ، ومات السيّاب كئيباً ومريضاُ وسط جحود رفاق الامس ، ولم يقف العراقيون معه ، في حين كان العرب قد اعترفوا له بريادة الشعر الحديث ، وسقط جواد سليم في عزّ شبابه اثر سكتة قلبية في ميدان الحرية مبكراً مخلداً بجداريته ( نضال العراقيين ) ! .. وكان العراقيون يتهكّمون بطريقة فجّة عن كلام العلامة مصطفى جواد في ” قل ولا تقل ” ! ومات ناظم الغزالي ( يقال : مسموما ) ، وكان العرب وما زالوا يعشقون صوته ، فلقبوه بـ “سفير الاغنية العراقية ” ، ومات الفنان رضا علي مقهورا بسبب ما صادفه من جحود وتنكّر .. وهذا ما صادفه ايضا الممثل سليم البصري ( الذي اشتهر بحاج راضي في مسلسل تحت موس الحلاق ) مع معاناة الفنانة مائدة نزهت في الغربة في حين سبقتها عفيفة اسكندر في غربتها وهي في بغداد .. وبعد العام 2003 ، اطلق الامريكان على العالمتين العراقيتين هدى عماش بالسيدة انتراكس ، ورحاب طه بالسيدة جراثيم !! وقد تبين لاحقاً اكذوبة أسلحة الدمار الشامل العراقية .
وكانت قد رحلت نخبة من رموز المثقفين العراقيين بلا ضجيج بعد أن قدمت خدمات لا تنسى ، ومنهم : متى عقراوي ، ومحمد مهدي البصير ، وصديق الدملوجي ، وروفائيل بطي ، وأحمد الصوفي ، وصالح احمد العلي ، وعلي جواد الطاهر ، وباقر سماكة ، وطه باقر ، وجواد علي ، وعلي الوردي ، ومحمد مكية ، وسعيد الديوه جي ، وكوركيس عواد ، وميخائيل عواد ، وشاكر مصطفى سليم ، وطلعت الشيباني ، ومحمد حديد ، وحسين جميل ، ومحمود الجليلي ، ومحمد توفيق حسين ،وفيصل السامر ، وعبد الجليل الطاهر ، وكامل الدباغ ، وياسين عبد الكريم ، وفاضل حسين ، ومحمد رشيد الفيل ، ومدني صالح ، وعامر سليمان ، وعبد المنعم رشاد ، ومن الفنانين اللامعين : جميل بشير ، وعباس جميل ، واحمد الخليل ، وسلمان شكر ، ومنير بشير ، وسمير بغدادي وغيرهم كثير جدا من نخب متنوعة ، ساسة ورؤساء وقادة ووزراء وسفراء واساتذة وادباء وعلماء وضباط ، فكل عهد سياسي يأتي يلعن سابقه ويضطهد رجاله ويمحق رموزه ، ويتنكر لابرز رجاله ونسوته ..
أشجار مثمرة تموت باكية في المهاجر
ومات عدد كبير من المبدعين الشعراء والفنانين والعلماء الاكاديميين العراقيين في المهاجر : بلند والبياتي ونازك وعاتكة وسركون وجان دمو وعبد الرزاق عبد الواحد وجاسم الخياط ويوسف العاني وخليل شوقي وذنون أيوب وجلال الخياط وعوني كرومي ويوسف عز الدين وبهنام ابو الصوف والفنانة زينب واحمد النعمان ونجيب المانع ورافع الناصري وعمانوئيل رسام ، ومات كل من الطبيبين سالم الدملوجي وزوجته لمعان في ديار الغربة ولحقت بهما سانحة امين زكي ، ورحل زهير الدجيلي وطلال عبد الرحمن وفالح عبد الجبار .. وكانت آخر العنقود الفنانة الراحلة سحر طه وغيرهم كثير في الغربة .. عاشوا وماتوا وهم رموز بلا القاب ..
مبدعون مضطهدون
مات معروف الرصافي وحيدا في غرفته البائسة وكان يعيش معاناته مع الجميع .. وكان قد مات حسين مردان غريبا في وطنه ضائعا ، ومات احمد الصافي النجفي معدماً بعد سنوات طوال من التشرّد على أرصفة بيروت .. ومات يونس بحري ( الذي اسميته اسطورة الارض ) على أحد ارصفة بغداد معدما بعد ان كان أسمه قد ذاع في كل العالم ، ورحل الفنان الرائد فائق حسن في باريس لوحده ، وطورد الفنان مؤلف الاغاني الشهير سيف الدين ولائي ليموت كمداً بعد اذلاله وتهجيره .. واضطهد فؤاد سالم حتى في منفاه وهو يهرب من مكان الى آخر .. وماتت الفنانة رباب في الغربة اثر معاناة صعبة ، ورحل مير بصري بعيداً وهو يحلم بالعراق .. ومات الفنان جاسم الخياط في كندا وهو يعيش أصعب الظروف ، ورحل بدري حسون فريد بعد حياة صعبة من المغرب إلى العراق ودخل في غيبوبه نتيجه لجلطة دماغية ، ورحل الفنان راسم الجميلي في غربته أيضا ، وهو يبكي بغداد ، اما المناضل مظفر النواب ، فوجد مأواه في دمشق دون بغداد التي طاردته ردحاً طويلاً من الزمن بعد خطفه ، ورحل الصديق المثقف أمير الدراجي عن الحياة كئيبا وحزينا ( وساقوم بنشر رسائله لي لاحقا للتوغل في مأساته الحزينة ) ، ورحل الصديق سعدي المالح فجأة ، كما رحل عزيز سباهي بعيدا ، ومات ابراهيم الداقوقي في مهجره أيضا ..
ولا يمكنني ذكر كل الذين ماتوا في الشتات من العراقيين المغتربين ، ودفنوا في بقاع متنوعة من قارات الارض كلها ، اذ يضيق المقال عن ذكرهم جميعا بالرغم من بقائهم احياء في الذاكرة التاريخية لدى من قرأ لهم او عرفهم في حين تغيب اسماؤهم عن عموم العراقيين اليوم ، وخصوصا لدى هؤلاء الذين جاءوا في غفلة من الزمن ليحتكروا السلطة .. ناهيكم عن الاجيال الجديدة سواء في داخل العراق أم خارجه ، وهي لا تعلم شيئا عن العراق ورموزه .
.. لقد مات كل من المبدعين العراقيين من دون ان يعتني بهم أحد والقائمة طويلة جدا وهم من المثقفين والمبدعين العراقيين ، اذ لا يمكن احصاء المئات من المهنيين والاطباء والمهندسين ورجال القانون والفكر والاكاديميين في العلوم والاداب والفنون ..الخ . اما من أعدم او ذهب قتيلا من المثقفين والاكاديميين والمبدعين العراقيين ، فحدث ولا حرج منذ سنوات طوال دون ان يذكرهم اليوم أحد أيضا ، ومنهم : عبد الله فائق المحامي وكامل قزانجي ومهدي العامل وصباح السهل والوزير الشاعر شفيق الكمالي ومنيف الرزاز ( اردني ) والوزير الشاعر شاذل طاقة ( مسموما ) والوزير الشاعر صالح مهدي عماش ( مسموما ) وراجي التكريتي وحسن النجفي وعزيز السيد جاسم ( اختفى في سجن ابي غريب ولم يعثر عليه حتى اليوم ) وعبد الله سلوم السامرائي وليلى العطار وداوود القيسي وكامل شيّاع وغيرهم كثير اذ ان القائمة طويلة جدا .. ( وأرجو من القارئ ان يعذرني لعدم ذكر الجميع ، اذ لم اذكر الا بعض الاسماء نماذجا من مختلف الاتجاهات ) .
للحديث بقية ستأتي وهي تعالح مسألة جحود المثقفين العراقيين
تنشر على موقع الدكتور سيار الجميل بتاريخ 29 آب / اغسطس 2018